حمامات النساء الشعبية في الموصل

حمامات النساء الشعبية في الموصل

للدكتور عبدالواحد لؤلؤة
لم يكن في الموصل حمامات عامة خاصة بالنساء قبل مطلع القرن الحالي. ولما كان نشوء الحمامات العامة للرجال في الموصل سببه التجارة والوافدون الى المدينة من خارجها، لم تكن هناك حاجة مماثلة لاقامة حمامات خاصة بالنساء، خصوصا وان اوائل الحمامات انشئت في اطراف المدينة وفي الاسواق، ولكن في مفتتح هذا القرن توسعت حمامات القلعة والقلعة الواقعة على ضفة دجلة،

ولكونها في وسط حي سكني كبير فقد نشأ لذلك حمام للنساء، يؤمه ساكنات حي الميدان وما يجاوره، ومن هنا توسعت الحاجة الى حمامات نساء، فانسرت في الاحياء الاخرى، وجميعها في داخل حدود المدينة.
والطريف في موضوع حمامات النساء ليس كونها محلات للاغتسال والتطهر، ولكنه اثر هذه الحمامات (كمؤسسة اجتماعية) على المجتمع الموصلي، نساء ورجالا، وحمام النساء يخضع لنظام اداري دقيق. ففيه (الحميمجيي) او صاحبة الحمام وهي تتربع على عرشها عند المدخل، والى جانبها مرتفع من الارض. وقد يكون هيكلا من الخشب، يعلوه عالم من "الكليدانات" وفنان ملونة، ومصابيح ، وصور وآنية عطر، ومباخر ومرايا. وهي تتسلم "حق الحمام" نقودا تسقطها في درج خاص الى جانبها. وغالبا ما تكون صاحبة الحمام امرأة مسنة، في وجهها دروب.. تركتها عجلات الزمن، وقد يكون بعضهن ممن تبالغ في زينتها وفي "عمل حواجبها" وهي في متكئها تامر وتنهى وتصل اليها الشكاوي، ويستفسر منها عن حلية ضاعت ، او ملابس ابدلت خطأ. وينفذ اوامر صاحبة الحمام (القيمة) وهي التي تقوم على خدمة الحمام، فهي اول من يصل صباحا واخر من يغادر مساء. عليها مسؤولية تنظيف الحمام وتنظيم المياه من حيث الحرارة وضمان الجريان. وهي التي تتصل بالعالم الخارجي، وتخبر (الوفاد) عن حالة المياه في سلطنتها. وهي التي تغض المنازعات التي قد تحدث داخل الحمام.. فامرها مطاع وسيفها قطاع! اما لولب الحركة في الحمام فيديره فريق من (الغسالات) وهي اللاتي يقمن على خدمة زبائنهن الفعلية داخل الحمام وخارجه. فالغسالة تذهب صباحا الى بيت زبونتها فتحمل (البفجة) التي تعتمد نوعية قماشها وزركشتها على المستوى المادي والاجتماعي للزبونة التي تسمى (ادمية). فالغسالة تسأل (ادميتها) عن موعد الحمام التالي وتذهب في الوقت المحدد وتحمل (بقجة) الملابس على رأسها وتحمل تحت ذراعها (قعادة) من النحاس فيها (الكبل) وهو نوع من الترسبات الطينية، يعجن على شكل كرات فتجفف في موسم معين من السنة وتخزن في الدار ليستعمل (رأس) منها او اكثر في كل حمام. وتحمل (قعادة) اخرى من النحاس للجلوس عليها اثناء الاستحمام، وقد يصادف لغسالة واحدة عدة (اوادم) في يوم واحد، وهنا تظهر الفروق الفردية من حيث الخدمة التي تقدمها الغسالة الى (ادميتها) وهي خدمة تتناسب طرديا مع المبلغ الذي يدفع لها سنويا، ومع الهدايا التي تصلها في المواسم والاعياد، وفي ختام الاستحمام الذي غالبا ما يستغرق النهار بطوله، تحمل الغسالة بقجة الملابس وتعود بها الى دار (ادميتها). وغالبا ما يكون مع ما يحمل الى الحمام اناء من نحاس يدعى (المعدسي) وهو اناء كروي يوضع بداخله مشط وليفة وسبيداج، لتنظيف الوجه. ومسحوق قشور البرتقال المجففة للتطيب بعد الحمام، ويكون نوع الفرش والادوات والبسط والسجاجيد التي تفرش على (دكة) الحمام خير ما يعكس الحالة المادية والاجتماعية للزبونة، وهنا مجال للتباهي والفخار، تحمل الغسالة كل ذلك الى الحمام صباحا وتعود به مساء. وقد تتحدث في الطريق بدون مناسبة حديثا مسموعا مؤداه ان هذه هي اغراض بيت فلان الفلاني، او انها ذاهبة الى بيت فلان الفلاني او عائدة منه. وبالطبع فهذا النوع من الحديث يقصد منه الفات الانظار الى ما تحمل على رأسها وفي يديها من آنية وحرير ومفروشات، تدل بها على يسر الحال عند (ادميتها).
ومركز حمام النساء من ناحية اجتماعية يعتمد على نوع العلاقة بين الغسالة وبين العائلة التي تستخدمها، فالغسالة تتقاضى "سنوية" تتراوح بين دينارين الى عشرة دنانير، وهذا بالطبع يعتمد على الحالة المادية للعائلة. و(القيمة) لا يصيبها غير (بخشيش) صغير لقاء "طية العباءة" اي انها تأخذ العباءة من رأس الزبونة وتطويها ثم تسلمها لها عند مغادرتها، ولا يصيب صاحبة الحمام سوى اجرة محدودة. ولكن العطايا والهبات هي التي تحدد نوع العلاقة بين العائلة الموصلية وبين الحمام عموما. وعلى الاخص ما يصيب الغسالة من هذه الهبات، والغسالة مسؤولة عن خدمة صاحبة الدار وبناتها وابنائها الذكور دون السابعة من العمر، والذي يحصل ان الام تجمع اطفالها بنات وبنينا وتذهب بهم صباحا الى الحمام ويعود جميعهم مساء موردي الخدود (مبشنقين) بمناديل من قماش خفيف اسمها (يازمات) غالبا ما يزين حواشيها (النمنم) او التطريز، وبازدياد مسؤولية الغسالة بسبب عدد الاطفال في العائلة الواحدة تزداد اهميتها وتزداد سنويتها واعطياتها ويزداد كذلك الخوف منها.
فالمعروف عن الغسالة انها مضرب المثل (بالسفاهة) فليس مثلها من يجيد (العد والصف) اذا اثير غضبها لسبب او اخر. وغالبا ما يثار غضبها بتأخر الزبونة او الاطفال في الوصول الى الحمام صباحا، ولذا فبين الزبونة وغسالتها نوع من الهدنة التي يتهددها الخطر في اية لحظة اذا ما قصرت الزبونة في بعض واجباتها تجاه الغسالة، وقد تعذر الغسالة في حدة طبعها. فهي تكدح طيلة النهار مع مخدوميها وتنتظر من العالم الخارجي عطفا وتفهما لاتعابها.
ولكن العائلة التي تبالغ في كرم الغسالة تنام مطمئنة البال لانها تضمن خدمة ممتازة داخل الحمام وخارجه، اما اذا قصر البعض في اكرام غسالتهم فتنتظرهم مشاكل عديدة اقلها ان الغسالة تدور وتحكي عليهم، متهمة اياهم بالبخل واللؤم وانهم "ما يحسبون حساب الفقير".
والهدايا التي تقدم للغسالة، والتي تقوم عليها شخصيات بعض العوائل الموصلية في المجتمع النسوي هذه الهدايا تسمى "مواسم"، وذلك لانها تقدم في المواسم والاعياد والمناسبات المختلفة، وللغسالة (حق) لا يمكن ان (يؤكل) في اية حال من الاحوال، واول هذه الحقوق هي (السنوية) وهي الاجرة المقطوعة المتفق عليها مقدما، تدفع عادة في اول العام الهجري، او في (موسم المونة)، وهذا هو مبلغ يختلف باختلاف المنزلة المادية والاجتماعية كما تقدم.
واذا صادف موعد دفع السنوية في اوائل الخريف يكون ذلك هو موسم المونة ايضا، اذ يخزن الموصليون مقادير من القمح والبرغل والغشتا ومشتقاتها مع السمن والرز، واحيانا الخشب والفحم والوقود، وكذلك العسل والدبس والجوز وغيره. وللغسالة حق في كل هذه (المونة) فيدفع لها كيلا (بالقعادة) مقادير من ذلك كله او من اغلبه. ولكن حقها من القمح والبرغل والغشتا لا يمكن التنازل عنه بحال من الاحوال. وبالطبع كلما زاد ما يكال للغسالة من هذه (المونة) كلما ارتفعت منزلة تلك العائلة، والغالب ان يقسم لها (قعادة) واحدة من كل نوع.
ومن المواسم المهمة كذلك (موسم رمضان) ان يدفع للغسالة فيه هدايا عينية قوامها ما لا يقل عن ثلاث (طبخات) تكون احداها عادة (كبة) والاخرى (كبة حامض) والثالثة (قيسي وبلاو) اي مشمش مجفف مطبوخ ورز، وهي اكلة تتباهى بها الغسالات وامثالهن والعيد مناسبة لا يفوت العوائل الموصلية ان تكرم فيها الغسالات، فعيد الفطر يجلب الحلوى والبقلاوة (والكليجة) و(الحاجي بادة) وغيرها من المعجنات والحلويات. وهنا ايضا يقسم للغسالة نصيبها (بالقعادة) او (بطاسة) الحمام، اما العيد الاضحى، فلا يمكن ان ينسى حق الغسالة من الاضحية، فتعطى قطعة سمينة من لحم الاضاحي تحملها الى دارها وتقتات عليها اياما، هذا الى جانب (العيدانية) في العيدين وهذه تكون نقدا او عينا، كان تكون ملابس او ما اشببه، ولا تقتصر (العيدانية) على الغسالة وحدها بل تخرج الى اولادها واحيانا الى زوجها خصوصا في الهدايا (العينية). وعند الولادة تكون الغسالة اول المهنئين بسلامة الوالدة والمولود وتقوم على خدمة (ادميتها) يوما او بعض يوم ننال في اخره ما تجرود به يد الزوج عادة او ما تنفحه ام الوالدة من هبات وعطايا، ولا ننسى الغسالة في مناسبة الولادة ان تعلن للجميع ان المولود هو ابنها. لانها ربت اخوته قبله وسوف تربيه كما ربت من سبقه. ولذا فحقها واضح ودالتها معروفة على اطفال العائلة جميعا، وتبقى تلاحقهم (بحقها) حتى يكبروا او يتزوجوا ويرزقوا اطفالا، فحق الغسالة حلقة مفرغة ودين لا ينتهي مدى الحياة، وكما سبق فان الغسالة مسؤولة عن حمام الاطفال حتى الذكور منهم حتى يبلغوا السابعة، وعند ذلك يرفض قبول الصبى في (حمام النسوان) لانه (صاغ غجال) اي صار رجلا، ولكن الغسالة تبقى تلاحق الصبي، فاذا كانت العائلة من نوع معين يفضل تاجيل (الختان) الى سن السابعة، فاول من يتقدم للخدمة وتسلم الهدايا هي الغسالة بالطبع. وحفلات الختان هذه تقارب حفلات الزواج في بعض الاحيان، بما فيها من بقلاوة وحلوى ومناسف طعام، ولذا فالغسالة تصول وتجول في مثل هذه المناسبات. ولا تزال تلاحق الصبي (بفم مفتوح) حتى يدخل المدرسة، وهنا يصبح حقها دية رسمية تدفع في آخر العام الدراسي عندما ينجح الفتى الى صف اعلى، وفي هذا الوقت تفاجئ الغسالة اهل الدار بالسلام والسؤال عن الصحة وتلحق ذلك بـ "اشونو محصن بالله؟ نجح.. ما؟ " وهي دائما تتوقع النجاح من الفتى ولا تصدق ان بعض الفتيان قد يرسب في بعض سنوات الدراسة، وذلك لانها دائما "تدعيلو بالنجاح".
والزواج هو مناسبة عظيمة تظهر فيها اهمية الغسالة وخدماتها. فاذا كانت غسالة بيت العريس فحقها على بيت العروس والعكس بالعكس، وهي في الحالين تعلن للملا مرات وكرات ان هذا ابنها، او بنتها، وانها ربت العريس كما ربت ابنها، او بنتها، وانها ربت العريس كما ربت ابنها واعز، وانها قد تعبت عليه طيلة حياته، ولذا فالمفهوم انها تنظر اعطيات سخية، والمتعارف عليه ان الغسالة تكون مقدمة في جميع الهدايا في الزواج سواء كانت تابعة لبيت العريس او لبيت العروس، وتجتهد الطرفان في ارضاء الغسالة لانه ينفق دائما ان تعطي مبلغا ترى انها تستحق اكثر منه، فلا تتردد في رميه بوجه المعطي، قائلة : "وي ليش انا هذا حقي؟ انا غبيتو وتعبتو .. الخ" وهنا يجتهد الطرفان في اسكاتها بالهدايا والوعود.
وقد يعير احد الطرفين الطرف الاخر بانه (لم يعرف حق الغسالة). وعند دفع المهر تكون غسالة بيت العريس هي التي تحمل المهر الى بيت العروس بمصاحبة اقارب العريس. ولكنها تتقدم الموكب برأس مرتفع لانه (هاليوم يومها) وهي التي تحمل الحنة في ليلة الحنة، وهي صاحبة الرأي في حمام السبعة، وهي التي تصاحب العروس الى بيت العريس، وتنام عندهم.. في (ليلة الدخلة).
مجلة العاملون في النفط 1964