هيرتا مولر و الشاعر أوسكار باستيور.. أرجوحة النفس*

هيرتا مولر و الشاعر أوسكار باستيور.. أرجوحة النفس*

ترجمة: سلمى حربة
هيرتا مولر الروائية و الشاعرة والقاصة و كاتبة المقال و المترجمة والحائزة على جائزة نوبل والتي قالت إنها تكتب عن الدكتاتورية لأنها لم تعرف في حياتها شيئا آخر ،لذلك تسلط الضوء على قضية الحرية في المقام الأول. عندما تلقاها و تراها هكذا صغيرة و ناعمة،

تخاف أن تضغط على كفها أثناء المصافحة،لكن سرعان ما تثبت لك أن هذا الانطباع مضلل و غير حقيقي،فتحت السطح الظاهر قوة مذهلة، القوة التي تحولها هيرتا مولر في كتبها الى لغة،هي ترسم بالكلمات أكثـر من أي كاتب آخر، تمزج الشعر بالنثـر بطريقة يندر أن تراها عند غيرها من الكتاب.
تم منحها جائزة نوبل عام 2009عن روايتها (أرجوحة النفس)"ترجمها وحيد نادر الى العربية و صدرت عن مشروع كلمة للترجمة في أبو ظبي"، لقد وصف أسلوبها في هذه الرواية بأنه تنفس مذهل مكتوب بلغة بليغة،، تدور أحداث الرواية في معسكر اعتقال أثناء الحرب العالمية الثانية، موضوعها يتناول ترحيل و طرد المواطنين الرومانيين الذين لا ذنب لهم إلا كونهم من أصل ألماني، لهذا عوملوا بوحشية كما لو أنهم السبب عن جرائم هتلر،هذا الحدث لعب دورا كبيرا في حياة السيدة مولر.
اتفقت معها على اللقاء في كافيتيريا قريبة من سكنها لننجز فيه هذا الحوار، في هذا المكان رشفت السيدة مولر قهوتها و تأسفت لعدم السماح بالتدخين في هذه الكافيتيريا، قلت:
ــ في روايتك"أرجوحة النّفس"اعتمدت على الكثير من الأحداث الواقعية، من أين لك الحصول على وقائعها؟
مولر: تم ترحيل والدتي الى معسكر للاعتقال مثل كل من هم في جيلها، لقد استمعت أيام ما كنت طفلة الى كل ما دار بين الناس حولي، وفهمت من المتسبب بكل تلك الجرائم؟، لقد أشغلني هذا الموضوع و لم يغب عني يوما.كذلك التقيت مع بعض من نجوا من موت محتم، لكن قبل كل شيء تعاونت مع الشاعر"باستيور"الذي كان في ذلك المعسكر يومذاك و أحاديثنا شكلت الإطار العام لبناء الرواية،بداية تصورت أنه لا يستطيع أن يضيّع وقته معي باعتباره شاعرا عظيما و مثله قد لا يعطي الوقت الكافي لمثل هذه الأشياء،و بعد ثلاثة أيام من لقاءنا الأول زرت باستيور و اكتشفت انه يملك جميع التفصيلات التي غابت عني، ذاكرته تعتمد أساسا على التفاصيل،و قد أجاب حينها على جميع أسئلتي و في كثير من الإدراك الذاتي، كان هو بالفعل مرآة ذاك المعسكر التي تنعكس فيها جميع ما يدور من احداث.
سؤال: هل انتهى التعاون بينكما عند هذا الحد؟
مولر:لا، في نهاية لقائنا ذاك أبدى استعداده للذهاب معي الى أوكرايينا، حيث كان المعسكر هناك لآخذ فكرة شاملة عما حدثني فيه.
سؤال: و ذهبتما معا الى هناك؟
مولر:نعم، كنت أخشى عليه من أن ينهار وهو يقف في نفس المكان الذي مورس بحقه أبشع أنواع الإهانة و القهر، لكن حدث العكس،كان منشرح النفس و هو يشرح لي، لم يحدث أن تكلم معي سابقا هكذا مباشرة حول الفترة التي أمضاها في المعسكر، كان منفتحا معي و صريحا وبشكل خاص عندما تحدث عن أحلامه الدائمة و المتكررة. في تلك الليلة كتمت بكائي في سري لئلا يراه فما أدلى به صعقني.
سؤال: هل الشاب ليوبولد آوبيرك بطل الرواية هو بشكل ما على غرار أوسكار باستيور؟
قالت و قد تكسرت نبرات صوتها: باستيور هو ليس فقط شاعرا عظيما فقط، بل هو شخص رائع فوق ما يتصوره المرء.
وأمسكت كوب القهوة بقوة وهي تتابع:انتهى التعاون المشترك بيننا بعد النهاية المفجعة لموت باستيور، هذا صعب للغاية.
وحاولت أن تمنع دموعها من النزول، تابعت:بعد تسعة أشهر من موته استطعت بكثير من الاندفاع الذاتي أن أكتب بشكل متواصل لمدة ثلاثة أرباع السنة كنوع من الالتزام تجاهه، لقد حزنت كثيرا على هذه الفقدان ،و هو ما أعطاني القوة لأن أواصل دون كلل،لأنجز الرواية و أهديها له ، هذا من واجبي .
سؤال:لكي تنجزي مشروعك الروائي،هل كنت تسحبين الخيط من البكرة التي كانت معه الى النهاية؟
مولر: بالإمكان قول ذلك.
بعد حصولها على جائزة نوبل تصدرت (أرجوحة النَفَس) قائمة المبيعات، فلم يصبح الشاعر باستيور صديقا حميما لهيرتا مولر وحدها، بل تحول الى صديق حميم للملايين من قراء الرواية هذه الذين شعروا بمحنته و قدره التعيس بعدما اطلعوا على ما جرى لبطل الرواية في معسكر الاعتقال الروسي.
سؤال: هل يمكن أن نعتبر الرواية هذه شهادة كتبت للتاريخ؟
مولر:أنا لا أكتب للتاريخ،و لا أكتب تقارير شهود عيان رغم أني اعتمدت عليها، أنا أكتب أدباً و أنا مهووسة بما أفعله، هذه هي مشكلتي.
سؤال: في سيرتك الذاتية نقرأ أنك عملت مترجمة عن الألمانية في أحد المصانع أيام ما كنت في رومانيا؟
مولر: نعم،عملت لفترة قصيرة وعندما طلب مني أن أكتب تقارير سرية إلى جهاز الأمن السري"سيكورتيا"عما يحدث في المصنع أو ما يدور بين العمال من أحاديث، رفضت وكان مصيري أن فقدت تلك الوظيفة و تعرضت للتهديد و الضرب و لعمليات استجواب لا نهاية لها، كنت حينها لا أستطيع أن أستوعب ما يجري بعدما رميت الى الشارع، مع ذلك لم أخضع لذلك، لا أستطيع أن أكون إنسانا آخر متصالحا مع النظام، و من هذا الزخم في المواقف تكونت كتاباتي.
سؤال: في روايتك"كان الثعلب هو الصياد"كتبت عن فترة تاريخية قاسية في رومانيا أيام حكم شاوشيسكو؟(ترجم هذه الرواية الى العربية د. خليل الشيخ وصدرت عن مشروع كلمة للترجمة في أبو ظبي).
مولر:لقد دفع المواطن الروماني ثمنا باهظا أيام حكم الدكتاتور، لقد حاولت شخصيات الرواية أن تتكيف مع ذلك الوضع المرير لكنها عجزت، لا لأن التكيف هذا صعب بل لأن ذلك الواقع القاسي كان من القوة بحيث لا يدع الشخصيات و شأنها.
سؤال: ألم يعطك الحنين للوطن الأم قوة ساعدتك في إنجاز"أرجوحة النفس"؟
مولر:في البداية كان الحنين للوطن نصيرا لي لوقت طويل، لكن الآن ليس عندي احد هناك، لقد اضطررت للأسباب التي ذكرتها لمغادرة رومانيا عام 1987 الى المانيا الاتحادية، مر وقت طويل، لا أحد هناك يسأل عني ليستفز في داخلي هذا الحنين.
أخذت آخر جرعة من قهوتها قبل أن نغادر الكافيتيريا و عند باب منزلها و قفت و أخذت سيجارة، مر بعض الناس و ألقوا عليها التحية.
سؤال: هل الناس مهمون بالنسبة لك؟
مولر: من دون العلاقات الاجتماعية لا أستطيع الكتابة، أنا بحاجة للحياة من حولي و هذا ما يعمل لي توازناً.

* المقابلة منشورة في مجلة"بورسن بلات"مجلة الناشرين الألمان،
أجرتها: ايرينا بينال

سبق نشرها في صحيفة المدى
بعد فوز الكاتبة بجائزة نوبل