البؤساء.. ملحمة فيكتور هيجو الخالدة

البؤساء.. ملحمة فيكتور هيجو الخالدة

لقد أنهيت البؤساء وتنفست الصعداء! ..
دانتي وصف الجحيم الأخروي ..
وأنا وصفت الجحيم الأرضي!
بهذه العبارات المختصرة, عبر هيجو عن فرحته بعد أن انتهى من كتابة روايته الشهيرة في المنفى. ملحمة البؤساء. هنا علينا ان نتساءل: أي قلب كبير, واسع الأمل, عظيم الجلد, بعيد الطموح, ناشط الهمّة, جادّاً لا يعرف الهزل, متحمّساً لا يعرف الكسل,

قادر على أن يكتب هذه الملحمة المليئة بالبؤس, بالإيمان, بالصراعات النفسية, بالحياة, والتاريخ؟.
لنرجع قليلاً إلى الوراء, إلى وقت صدور الرواية, لنعرف حق المعرفة حجم التناقض الهائل بين الجمهور والنقاد في تلك الفترة. ما إن ظهرت الرواية في السوق حتى تلقَّفها الناس من كل حدب وصوب,
ولم يشهد كتاب آخر في القرن التاسع عشر نجاحاً في المكتبات مثلما شهدت رواية البؤساء. ولكن إذا كان الجمهور العام قد استقبلها بكل ترحاب فإن موقف النقاد والروائيين كان مختلفاً.
أحد النقاد الفرنسيين المشهوريين في ذلك الوقت, سانت بين, علَّق على صدور الرواية قائلاً: لقد اكتسحت هذه الرواية السوق, لا ريب في أن ذوق الجمهور مريض, إن نجاح هذه الرواية لا يكاد يصدق, وهناك نجاحات وبائية تتم عن طريق العدوى بدون شك.
أما الأخوان غونكور فقد دونا في مذكراتهما: يا لها من خيبة كبرى بالنسبة لنا هذه الرواية, نقول ذلك ونحن نضع جانباً النزعة الأخلاقية أو الوعظية التي تشتمل عليها, ففي رأينا أنه لا علاقة بين الفن والأخلاق, ووجهة النظر الإنسانية الموجودة في رواية فيكتور هيجو لا تهمنا.
المؤرخ الشهير ميشليه, أشهر من كتب عن الثورة الفرنسية عبر عن رأيه بشكل متطرف, فبعد أن اطلع على الرواية قال: أُصبت بمصيبتين كبيرتين هذا العام: وفاة ابني وظهور رواية فيكتور هيجو.
أما شارل بودلير فقد أشاد بها وكتب عنها مقالة كاملة في الصحافة. وكان مما جاء فيها: إنها رواية مبنيّة على هيئة قصيدة، إنها ملحمة حقيقية. وكل شخصية من شخصياتها لا تشكل استثناء إلا ضمن مقياس أنها تعبر عن فكرة عامة, إنها كتاب في الإحسان والشفقة على الناس الضعفاء. إنها نداء خارج من الأعماق من أجل ألا ينسى المجتمع عاطفة التضامن والإخاء. ولكن الغريب هو أن بودلير راح يهجو الرواية في رسالة شخصية كتبها إلى أمه وقال فيها: أعتقد أنكِ تلقيت الرواية. إنها تافهة بكل معنى الكلمة. ولكني مدحتها في الصحافة وأثبت بأني قادر على الكذب.. وقد كتب لي فيكتور هيغو رسالة سخيفة لكي يشكرني على مقالتي. وهذا دليل على أن الإنسان بإمكانه أن يكون غبياً أحياناً.
أما الناقد المحافظ باربي دورفيلي فقد أدان الرواية وكل توجهات فيكتور هيجو لأنه يريد قلب المجتمع القديم وكل القيم التي انبني عليها. وكان مما قاله: عندما سنتعب من النقد والتجريح والتشكيك بقيمنا وديننا وأصالتنا فإننا سنعود حتما إلى السلطة الحقيقية للملوك, أي السلطة الدينية الإلهية المعصومة, وسوف نتخلى عن المادية الحيوانية ونعود إلى المذهب الكاثوليكي. إن فيكتور هيجو كتب أخطر كتاب في هذا العصر والأكثر ضرراً. فهو يضرب على وتر العواطف الجريحة لكي يهدم قواعد المجتمع ومؤسساته الواحدة بعد الأخرى, وكل ذلك يتم عن طريق استغلال دموع الفقراء, فالكاتب إذ أعطى الحق للمجرم ضد الشرطي، وإذ قدم صورة جميلة عن اللص أثبت أنه شخص غير مسؤول. لماذا يقطع المؤلف أحداث الرواية وينخرط في تعليقات شخصية ومواعظ أخلاقية لا نهاية لها؟ وبعدئذ عندما يعود إلى الحكاية لا نجده يربط اللاحق بالسابق. وهذه طريقة رديئة في الكتابة الروائية, انها رواية مفككة.
أما لامارتين، الصديق المقرب، فقد خيَّب آمال فيكتور هيجو. فقد استقبل الرواية ببرود، بل وبعدائية لأنها تهاجم المجتمع وتؤلِّب عليه الفقراء! ورد عليه هيجو وعلى غيره من النقاد الذين هاجموا الرواية قائلاً : بأن المجتمع الذي يقبل بوجود مثل هذا الفقر المدقع في أحضانه ينبغي أن يُهاجَم ويُنْتقَد. ثم هاجم رجال الدين وسادة المجتمع الذين يعتبرون شيئاً طبيعياً وجود كل هذا الفقر والبؤس. وقال بأني أحلم بمجتمع آخر يكون فيه كل فرد مالكاً لبيته. وقد تقول لي: ولكن الهدف بعيد. وأجيبك نعم، ولكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من السير نحوه.. وأنا أقول لك ما يلي: نعم إني أكره العبودية والفقر والجهل والمرض. وأريد تخليص المجتمع من كل ذلك. أريد إضاءة الليل، وأحقد على الحقد. ولهذا السبب كتبت “البؤساء”. فهذه الرواية لا هدف لها إلا تأسيس التضامن والإخاء كقاعدة عامة وكذلك تأسيس التقدم البشري كذروة عليا نحلم بالوصول إليها يوماً ما
البؤساء هي في المحل الأول رواية إجتماعية قصد بها هيجو إلى التنبيه على المظالم التي يرزح تحتها المعذبون في الأرض باسم النظام حينا, وباسم العدالة, والاخلاق, و الشعب دائماً. ورواية تاريخية أرادها صاحبها معرضاً لأفكاره الديمقراطية ونزعاته التحررية, فزينها على حساب الفن القصصي أحيانأً بلوحات جسد فيها تاريخ فرنسا في حقبة من أخطر الحقب لا في حياة ذلك البلد فحسب, بل في حياة أوروبا كلها. وهي إلى هذا و ذاك قاروة عطر, ووعاء فلسفة, و ملحمة نضال, إنها بكلمة نشيد الحرية, وإنجيل العدالة الإجتماعية, وسيمفونية التقدم البشري, عبر العرق و الدم و الدمع, نحو الغاية التي عمل من أجلها المصلحون في جميع العصور : تحقيق إنسانية الإنسان وإقامة المجتمع الأمثل, ولعل أروع صفحاتها تلك التي صور فيها شخصية الأسقف ميرييل, وآلام فانتين, وفرار جان فالجان, و معركة واترلو, وثورة عام 1832م, بل لعل أروع ما فيها قلب هيجو الكبير النابض من وراء كل كلمة من كلماتها, وكل فكرة من أفكارها, وشاعريتها العارمة الخيرة التي تتخطى الحدود, ولا تعرف هدفاً غير المحبة و العدل, والخير العام!
في البؤساء كتب هيجو عن شخصيات الرواية المتعددة الأطراف بأروع ما يكون الوصف الفني. تميزت بؤساء هيجو بتصوير فني مبهر للشخصيات. من بداية الرواية نبدأ بالتعرف إلى شخصية يصورها هيجو مثالاً لرجل الدين الطيب, للأسقف الطيب, الأسقف المثالي المطلق الجمال. كان يجهد في سبيل الرحمة. كان الشقاء الشامل هو منجمه الأصيل, أحبوا بعضكم بعضاً, اعتبر ذلك هو عنوان الكمال, كانت هذه الكلمات تؤلف عقيدته بأكملها. هذا الأسقف هو مونسينيور بيينفيو, أو مسيو ميرييل الذي يحول كل الأموال الناتجه من عمله كراعي لدير مسيحي إلى أعمال الخير, والذي يجبر مدير المستشفى أن يهبه هذا المستشفى الصغير الذي لا يتسع لأحد من المرضى ويجبره على إقامة المرضى في قصر الأسقف الكبير, والذي يتجول في أنحاء منطقته للوعظ والإرشاد و الصدقة. هذه الشخصية هي التي حولت أو كانت النقطة الأساسية في استرداد جان فالجان بطل الرواية إيمانه بالله و بالخير والعدالة الإلهية بعد أن كفر بكل شيء في سجنه. كانت لمسيو ميرنييل أقوال يصدح بها مواعظه مع الكبار, والأثرياء و الفقراء :
” إن للإنسان جسداً هو عبء عليه وأداة إغواء له في آن معاً. يجب على الإنسان أن يراقب ذلك الجسد كما يقول, ويكبح جماحه و يكبته, ولا يطيعه إلا في أقصى حالات الضنك والشدة. إن كون المرء قديساً هو الشذوذ, وإن كونه مستقيماً هو القاعدة.” كان يذهب ليقابل الثوري و الملكي و البرجوازي في أعالي الجبال و يقول لهم: همِ على وجهك, وتردد واأثم, ولكن كن مستقيماً. إن اقتراف أقل قدر ممكن من الآثام هو القانون البشري. أما الحياة من غير اثم فحلم ملك من الملائكة. وكل ما هو أرضي عرضة للإثم .
في أحد فصول القسم الأول من الكتاب, والخاص بمسيو ميرييل, دار الحديث حول شحص محكوم بالإعدام. مسيو ميرييل قام بعملية وعظ هذا الرجل مجبراً بسبب مرض واعظ السجن, هذه الحادثة أراد لها مؤلفها فيكتور هيجو أن يجعلها منارة ضد حكم الإعدام بشكل عام, وبالمقصلة بشكل خاص, تلك الآلة التي كانت تجز الرؤوس في عهد الإرهاب الثوري الفرنسي أو عهد روبيسبير بشكل أصح, وحزت رؤوس شخصيات معروفة وغير معروفة من لويس السادس عشر وماري انطوانيت إلى البقية الباقية من رافضي عهد ما يسمى بعهد الإرهاب. كان هيجو يدعو بصراحة إلى ترك هذا الحكم لله, النفس هي من صنع الله ولا يحق لأحد أن يأمر بإخراجها من الجسد إلا بأمر الله. هذا الموقف أحدث صدمة عنيفة للأسقف نظراً لرفضه الصريح لحكم الإعدام. حديث فيكتور هيجو عن المقصلة في هذا الفصل بارعا و جميل جداً, إذ لا داعي لذكر عدد القتلى الذين قتلوا بدون وجه حق في تلك العهود الغابرة, يكفي أن تسمعه يقول عن تلك المقصلة:
” قد لا نبالي بعقوبة الموت كثيراً أو قليلاً, وقد لا نعلن رأينا قائلين نعم أو لا, مادمنا لا نشهد مقصلة ما بأعيننا. ولكن ما إن نرى إلى واحدة حتى تعصف بنا صدمة هي من العنف بحيث تحملنا على أن نقرر ونتخذ موقفاً إما مع تلك العقوبة أو ضدها. إن المقصلة هي تخثر القانون, وهي تدعى المنتقمة. إنها غير حيادية, ولا تسمح لك بأن تظل حيادياً. وكل امرئ يراها يُزلزل بارتجافات ليس أعجب منها ولا أشد غموضاً. إن جميع القضايا الإجتماعية لتطرح علامات استفهامها حول تلك الفأس. المشنقة خيال, المشنقة ليست مجرد هيكل منجور, المشنقة ليست ماكينة, المشنقة ليست آلة ميكانيكية جامدة لا حياة فيها, مصنوعة من خشب, ومن حديد ومن حبال. إنها تبدو كائناً من نوع ما, ذا أصل مظلم لا نعرف عنه شيئاً, وفي ميسور المرء أن يقول أن هذا الهيكل المنجور يرى, إن هذه الماكينة تسمع, إن هذه الماكينة تفهم, إن لهذا الخشب, ولهذا الحديد, ولهذه الحبال إرادة, وفي الهواجس المروعة التي يقذفها مشهدها بالنفس الإنسانية إلى خضمها. تبدو المشنقة فظيعة وممتزجة بصنيعها المريب. المشنقة شريكة الجلاد في الإثم. إنها تفترس, إنها تأكل اللحم, إنها تشرب الدم, المشنقة غول من ضرب ما, يصنعه القاضي والنجار. إنها شبح يبدو وكأنه يحيا بضرب من الحياة راعب, مستمد من كل الموت الذي سببته “
هذا الأسقف والصفات الي يتحلى بها كان يريد بها هيجو أن تكون مثالاً رائعاً لرجل الدين في تلك الفترة من تاريخ فرنسا. يجب أن يكون رجل الدين في تصور هيجو الأخلاقي مع الفقراء وضد السلطات التي تفرض قوانين تقوض حياتهم. لمعرفة حجم الصراع الذي أشتد بين هيجو ورجال الدين يجب أن أذكر هذه الحادثة. في الذكرى المئوية الأولى لموت فولتير اندلعت الصراعات من جديد بين الجمهوريين والملكيين، وبين العلمانيين ورجال الدين. وقف فيكتور هيجو وألقى خطاباً مهماً صالح فيه بين فولتير والإنجيل, وكانت فرنسا كلها تحبس أنفاسها وتنتظر ماذا سيقوله, قال : إن الكلام الإنجيلي يكمله الكلام الفلسفي. ولا تعارض بين العلم والدين. فروح الحلم ابتدأت أولاً ثم جاءت بعدها روح التسامح. لنقل هذا الكلام بكل إجلال واحترام: المسيح بكى، وفولتير ابتسم. ومن هذه الدمعة الإلهية وتلك الابتسامة البشرية صُنِعت حلاوة الحضارة الحديثة, ولكن بالإضافة إلى فولتير هناك الفلاسفة الآخرون. وهؤلاء الكتّاب الكبار لم يموتوا لأنهم خلَّفوا لنا روحهم: أي الثورة الفرنسية.
هكذا عبر فيكتور هيجو عن إيمانه بالتقدم، تقدم البشرية نحو الأمام. ولكن مطران أورليان الذي هو أحد كبار رجالات الدين في فرنسا ويدعى دوبانلوب راح يحتج على رثاء فولتير بهذا الشكل التمجيدي الزائد عن الحد. وقد أرسل إلى فيكتور هيجو رسالة يحتج فيها على ذلك. فرد عليه الشاعر قائلاً بأنه : يرفض أن يتلقى دروساً من الكنيسة التي قدمت الصلوات للديكتاتور نابليون الثالث! ففي ظل هذا الرجل انهار القانون، والشرف، والوطن. وقد دام ذلك تسعة عشر عاماً. وفي أثناء ذلك كنت أنت في قصر الكنيسة. وكنتُ أنا في المنفى خارج الوطن. وبالتالي فإني أعرفكم يا رجال الدين جيداً.
هذا الخطاب في الذكرى المئوية لوفاة فولتير يذكرنا بالخطاب الذي ألقاه دستويفسكي في حفل بوشكين, والذي خلد حياته الأدبية وصالح فيه بين شطري روسيا, تيار القوميين السلافيين الذين يركزون على الأصالة الروسية، وتيار المستغربين الذين يريدون اللحاق بالغرب بأي شكل.
الشخصية الأولى في الرواية, وقد تكون أشهر شخصية في تاريخ الآداب العالمية: جان فالجان, لم يقدمه هيجو بصورة مبسطة, بل كتب حكايته بالكامل, من السرقة لإطعام أبناء أخته إلى السجن و الإلحاد و الخروج من السجن وإيقاظ الإيمان في قلبه بعد أن انهار. جان فالجان, هذه الشخصية الشهيرة جداً لا يعرفها أي قارئ إلا و يعرف أنه بطل البؤساء. ولكن كيف هي حالة جان و هو في السجن؟ ما هي ردة الفعل التي أصابت جان فالجان بعد إدانته بتهمة السرقة, وهو لم يسرق إلا ليطعم الفقراء من أفراد عائلته؟ هل يثق بالعدالة و مسمى العدالة بعد هذا؟ وهل كان هذا العمل كما يقول هيجو أخلاقي بالدرجة الأولى؟
هذه الأسئلة الكبيرة فيكتور هيجو في وجه القارئ عن طريق تحليل نفسي وأخلاقي عميق لشخصية جان فالجان, , وهو يتعرض لأقسى أنواع التعذيب البدني والنفسي في السجن. لقد ألحد جان فالجان بعد أن تيقن بأن لاوجود لعدالة سماوية تقف معه في مصيبته لأكثر من تسعة عشر سنة في السجن. أين الله من كل هذا كما يقول؟ لماذا يتعذب الفقراء وهو لم يسرقوا إلا لحاجة. التحليل النفسي العميق في البؤساء و خاصة لشخصية جان فالجان – وقت الإلحاد – إمتاز باللغة الشعرية التي برزت بشكل واضح و كبير في البؤساء. بعض الفصول كانت نثر غنائي يبتعد فيها المؤلف عن أبطاله و ينثر ما في نفسه من غناء و أوجاع. بعد أن يقدم هيجو جان فالجان وهو ملحد يذكر كيف تحول هذا الشخص الذي كفر بكل شيء, بالله و بالعدالة و بالقانون, كيف يتحول هذا الشخص الذي سرق الأسقف الطيب بعد أن استضافه في الدير, كيف يتحول هذا الجان الذي أدان المجتمع بكل ما فيه إلى مؤمن بالله و بالعداله..
أي مصير كان لعائلته التي سرق من أجلها؟
” إنها القصة نفسها دائماً. لقد مضت هذه الكائنات البشرية الحية, هذه المخلوقات التعيسة, وقد تركت بلا سند, مضت إلى حيثما قادتها المصادفة. لعل كلاً منهم اتخذ طريقاً مختلفة, وغرق شيئاً بعد شيء في ذلك الضباب القارس الذي يغمر المصائر المتوحدة, تلك الظلمة النكدة التي يختفي فيها كثير من الرؤوس الشقية خلال سير الجنس البشري المعتم. لقد نزحوا عن تلك الديار, لقد نسيتهم كنيسة القرية التي كانت قريتهم, نسيهم معلم الحقل الذي كان حقلهم, حتى جان فالجان نفسه نسيهم بعد سنوات من مقامه في سجن الأشغال المؤبدة. “
من هو جان فالجان؟
كان قد دخل السجن لأنه كسر زجاج نافذة وسرق رغيف خبز. إنه القميص الأحمر, كرة الحديد المشدودة إلى القدم, لوح الخشب الذي نام عليه, هو الحر والبرد والشغل, وجماعة السجناء المحكومين بالأشغال الشاقة والضرب بالعصي, السلسلة المزدوجة من أجل لا شيء, الحبس في حجرة مظلمة عقاباً على كلمة, السلسلة حتى في حالات المرض. هو موطن بلاء وعذاب. دخل السجن وهو ينتحب ويرتعد, وغادره وقد تحطم فؤاده وامتنع عن الألم. لقد دخله بأئساً وغادره كالح الوجه. سلخ نفسه لمدة تسعة عشر عاما وهو وحيد في هذا العالم. لم يكن أباً أو عاشقاً أو زوجاً أو صديقاً. في السجن كان عفيفاً, جاهلاً, كان فؤاد هذا الرجل مليئ بالخير. أخته وأطفال أخته لم يخلفوا في نفسه غير ذكرى غامضة وبعيدة ما لبثت آخر الأمر أن تلاشت.
إن أسباب بؤس جان فالجان ليست ذاتية, بل من المجتمع الذي لم يقف معه في محنة الفقر, ولا حتى مع خروجه من السجن, تم سلخ جلده لأكثر من تسعة عشر عاما في السجن, ولم يرحب به أحد بعد خروجه, حتى السجن الذي ذهب إليه لكي يستريح هناك رفضوا وجوده. وقف الكل في وجهه, حتى وجار الكلب الذي نام فيه طرده من مكانه : مضيت إلى الحقول كي أنام تحت النجوم فلم يكن ثمة نجوم, وحسبت أن المطر سيهطل, ولم يكن ثمة رب رحيم يحول دون انهماره .. هكذا كان يقول بعد أن خرج من السجن هائماً يبحث عن مكان يستريح فيه. إن المدن كما يقول هيجو في البؤساء تنتج رجالاً شرسين, لأنها تنجب رجالاً فاسدين, أما الجبل والبحر والغابة فتنتج رجالاً وحشيين. إنها تقوي في أبنائها الجانب الضاري, ولكن من غير أن تفسد في كثير من الأحيان الجانب الإنساني. لذلك لم يفقد جان فالجان إنسانيته حتى وهو في أقصى لحظات بؤسه. كان من أبناء الريف البسطاء, لم يكن ذا طبيعة شريرة. كان لا يزال حسن الطوية حين دخل السجن, وفي أثناء مقامه هناك دان المجتمع البشري واستشعر أنه أمسى شريراً. ودان العدالة واستشعر أنه أمسى ملحداً. أتستطيع الطبيعة البشرية كما يقول هيجو أن تنقلب هكذا رأساً على عقب؟ أيكون في ميسور الإنسان الذي خلقه الله خيراً أن يحيله أخوه الإنسان شريراً؟ هل تستطيع النفس أن تتغير دفعة واحدة لتجاري قدرها؟ أيكون في وسع القلب أن يتشوه ويصاب بالقباحات والعاهات التي لا بر منها؟ ألم يكن في نفس جان فالجان شرارة ابتدائية أو عنصر إلهي لا يتطرق إليه الفساد في العالم؟ شرارة يستطيع الخير أن يطورها ويؤججها ويضرمها ويسعرها؟ ويمكنها من أن تشع إشعاعاً يبهر الأبصار, ويعجز الشر أبد الدهر عن إطفائها بالكلية؟
كانت أولى شرارات الخير هي النظرة من جان فالجان وهو يسرق الأسقف: ضمير قلق مضطرب على وشك ارتكاب عمل شرير يتأمل رقاد رجل صالح .. التحول الأول النفسي والأخلاقي في شخصية جان فالجان بعد خروجه من السجن بعد أن صرخ الأسقف في وجهه قائلاً : يا أخي ! أنت لم تعد ملكاً للشر, ولكن ملكاً للخير. وإني إنما أشتري نفسك, أنا أنتزعها من الأفكار السوداء, ومن روح الهلاك وأقدمها إلى الله , أما الشرارة الثانية التي كانت كافيه لإشعال نفس جان فالجان وأحدثت هذا التحول الدراماتيكي الخطير في نفسه فهي المبلغ القليل الذي أخذه من طفل بائس صغير وهو لا يعلم – أي جان – أنه سرق طفل.
” أنا رجل بائس! “
حين غادر جان فالجان منزل الأسقف كان في حالة نفسية لم يعرفها قط. كان عاجزاً عن أن يفهم أيما شيء يجري في ذاته : لقد وعدتني بأن تصبح رجلاً صالحاً. إني إنما أشتري نفسك. أنا أنتزعها انتزاعاً من روح الفساد وأقدمها إلى الله .. كلمات الأسقف هذه عاودته على نحو موصول. في وجه هذا الحلم السماوي أحس إحساساً غامضاً بأن مغفرة هذا الكاهن هي أعظم غارة وأفظع هجوم شُنا عليه عُمره كله, وبأن قسوة قلبه تكون كاملة إذا ما قاوم هذه السماحة, وبأنه إذا ما استسلم فعندئذ يتعين عليه أن يتخلى عن ذلك الحقد الذي ملأت روحه به أفعال الآخرين طوال هذه السنوات كلها. في هذا الجو النفسي التقى جرفيه الصغير وسرق ماله. لم يكن قادراً على تفسير هذه الواقعة. فيما هو ذاهل مشتت الذهن مثل رجل يحاول أن يولي فراراً, حاول أن يبحث عن الفتى الصغير ليعيد إليه ماله. حتى إذا وجد أن ذلك غير مجدِ ومستحيل, وفي اللحظة التي قال فيها “أنا رجل بائس” رأى نفسه على حقيقتها. أن قد انتهى إلى أن يصبح شديد الانفصال عن نفسه بحيث يخيل إليه وكأنه لم يكن إلا شبحاً, وأن جان فالجان المحكوم عليه بالأشغال الشاقة كان أمامه بلحمه ودمه, وقميصه على ظهره وجرابه المليء بالأمتعة المسروقة فوق كتفيه.
لقد رأى نفسه وجها لوجه. وفي الوقت نفسه رأى على مسافة مبهمة ضرباً من النور حسبه بادئ الأمر مشعلاً, حتى إذا حدق في انتباه أشد إلى ذلك النور الذي أشرق على ضميره أدرك أن له شكلاً بشرياً. وأن هذا المشعل كان الأسقف. ووازن ضميره بين هذين الرجلين اللذين أقيما أمامه على هذا النحو : الأسقف و جان فالجان. كان أيما شيء دون الأول خليقاً به أن يخفق في إذابة الآخر. وبأحد تلك الآثار الفريدة رأى الأسقف يزداد تألقاً في عينيه. وانكمش جان واختفى, وفي لحظة من اللحظات لم يبق منه شيء. لقد اختفى, وبقي الأسقف. هذه الغارات الإنجيلية من الأسقف لجان فالجان هي من أجبرت أحد أبطال العمل – ماريوس – أن يقول لجان في نهاية الرواية إنه يتحلى بالشجاعات كلها, وبالفضائل كلها, والبطولات كلها, والقداسات كلها, إن هذا الرجل ملاك. هذه الغارات التي غيرت من شخصية جان فالجان هي التي أجبرت الشاعر الفرنسي رامبو على أن يكتب في أحد نصوصه : كنت في صغري بالغ الإعجاب بالمحكوم عليه بالأشغال الشاقة العنيد الذي ينغلق عليه السجن أبداً. كنت أزور النزل والحجرات التي ربما كان قدسها بمروره. كنت أرى بفكره هو السماء الزرقاء والعمل المزهر في الريف, وفي المدن كنت أشم قدره. كان أقوى من قديس وأكثر نباهة من مسافر, وهو , هو وحده, الشاهد على مجده وعلى حصافته! .
من هنا تبدا الرواية ومسيرة جان فالجان. كان الأسقف هو الرؤية البيضاء الأولى. أما الثانية فكانت كوزيت, كان الأسقف قد أطلع في أفقه فجر الفضيلة, ثم جاءت كوزيت فأطلعت في أفقه ذاك فجر الحب.
مارس هيجو الرؤية الفجائعية. الرؤية الفجائعية باختصار تظهر الإختلاف الحاد بين الذات المتحدَّثِ عنها, والذوات الأخر المحكومة بشروط الوجود اليومي. من تجلياتها غياب المسافة الفاصلة بين الكاتب والمكتوب، واندماج الراوي والشخصية المروي عنها، وغياب الفواصل والحدود بين الحقيقي والخيالي، وبين العجائبي والواقعي، وبين المخزون الثقافي والأدب. يتحول الفعل المحكي عنه كفعل إبداعي إلى الألم كتوجع ودوار ثم يتحول إلى موت, احتضار، حالة بين الوجود والعدم. هذه الذات الحميمة تؤثر على السرد فيصبح أكثر تدفقاً وانجرافاً تماما كالسيل الجارف يحمل في طريقه كل ما يصادفه. كما أنها تؤثر على الوصف، فيكون مسرودا متدفقا، نقلا للحركة في سيرورتها وجريانها. وصفا متداخلا لا يركز على شيء إلاَّ لفترة بسيطة ثم ينجرف جهة الاستبطان. يصف الظاهر والباطن في حركيتهما دون حصر أو حياد. الراوي في هذا الوصف أشد انفعالاً، ومندمج كليا في اللحظة المشهدية.
عندما ألقي ماريوس القبض على شخص يُعتقد أنه جان فالجان, سيق هذا الرجل ليحاكم في المحكمة. كان الحكم والادلة تدينه بالتمام رغم أنه لم يكن جان فالجان بأي حال من الأحوال. عندما عرف جان فالجان بهذا الأمر – وكان يتستر على نفسه تحت اسم مسيو مادلين – بدأت أولى الصراعات النفسية في البؤساء. هل يضحي مسيو مادلين أو جان فالجان بمنصبه – العمدة – وإغداقه الأموال بشراهه على الفقراء والمحتاجين؟ أم يكشف عن نفسه ويضحي بنفسه من أجل إنقاذ نفس بشرية ليس لها أي ذنب إلا أنها تشبه جان فالجان؟ عليه أن يختار إحدى خطتين أحلاهما مرّ, إما الفضيلة الظاهرية والخباثة الباطنية, وإما الطهارة الباطنية والعار الخارجي! من هنا بدأ جان فالجان صراعه النفسي المرير. بعد الشرارة التي أضاء بها الأسقف نفس جان فالجان كان غايته أن ينقذ روحه لا جسده, أن يصبح خيراً وصالحاً ومستقيماً. أن يغلق باب الماضي للأبد. ولكن هذا الباب لم يغلق بأي حال من الأحوال. لقد فتح من جديد بعد أن عاد لصاً من جديد. لقد سرق من آخر وجوده وحياته وأمنه, لقد قتل معنوياً رجلاً بائساً, أنزل به ذلك الموت الحي المروع, ذلك الدفن في الحياة الذي يدعى سجن المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة.
كان الأسقف هو صاحب التأثير الأخلاقي في نفس البطل جان فالجان. إذ صرخ في وجهه كذلك قائلاً : يا أخي ! أنت لم تعد ملكاً للشر, ولكن ملكاً للخير. وإني إنما أشتري نفسك, أنا أنتزعها من الأفكار السوداء, ومن روح الهلاك وأقدمها إلى الله. أما طريقة التطهير فكانت أروع من خلال بكاء جان فالجان المرير. كان يهذي, لكنه هذيان أروع, هذيان قاد صاحبه إلى الإيمان بعد أن كان ملحداً لا يعترف لا بعدالة الإنسان, ولا بالعدالة الإلهية.
شخصيات الرواية لم تنته. هناك شخصيات تستحق أن يسلط الضوء عنها أكثر, ومنها شخصية المفتش جافير, وهو لا يقل بؤساً عن جان فالجان رغم الصورة المطبوعة عنه بأنه ديكتاتوري يصدر أحكاما ما أنزل الله بها من سلطان. هذا الرجل العنيد ولد في سجن, وكانت أمه عرافة وكان أبوه من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة. حين ترعرع لاحظ أنه غارق خارج نطاق المجتمع. لقد لاحظ أن المجتمع يوصد أبوابه في وجهه مثلما أُوصدت الأبواب في وجه جان فالجان بعد خروجه من السجن. هذا الرجل كان مزاجاً من عاطفتين هما في ذاتهما بسيطتان, ولكنه كاد يجعلهما شريرتين بتطرفه في تنفيذ المهام, احترام السلطة وكره التمرد. لا أحتاج لتفصيل أكثر لشخصية المفتش جافير إذ هو شخصية روائية معروفة جداً لدى الجمهور, ولكن لماذا هذا الرجل لا يقل بؤساً عن جان فالجان؟
منذ أن بلغ المفتش جافير منصبه كمفتش عام كان قد وقف حياته وأعماله وحتى دينه كله على الشرطة. كان له رئيس هو مسيو جيسيكيه, ولم يكن يعرف, أو بمعنى أصح نادراً ما يفكر بذلك الرئيس الآخر كما يصفه هيجو, وهو الله.
بعد أن حرر جان فالجان المفتش جافير من قبضة الثوار, وأطلق جافير سراح جان فالجان بعد أن ألقي القبض عليه, تفجر بؤس جافير المكتوم في أول الرواية, ولم ينته كما في الزمن الروائي إلا بعد عشرين سنة من مطاردته لجان فالجان! كان يعتمل في أعماق وجوده شيء جديد, ثورة فيها ما يدعو إلى فحص الضمير والتفكير. هذا الرجل القاسي القلب وجد نفسه يلاقي آلاماً رهيبة, كان من أسباب ألمه النفسي أنه كان مكرهاً على التفكير, استشعر أن شيئاً رهيباُ كان ينفذ إلى روحه, الإعجاب بمحكوم عليه بالأشغال الشاقة. كان ألمه العظيم ناشئاً عن فقدانه اليقين, أن يجد نفسه فجأة بين جريمتين, جريمة إطلاق سراح رجل, وجريمة إلقاء القبض عليه. نشأ في نفسه نظام كامل مؤلف من حقائق غير معلومة, وعلم جديد بالكلية. لقد لمح في الظلام كما يقول هيجو الإشراق الرهيب لشمس أخلاقية مجهولة. كان قد اضطر أمام محكمته الباطنية الخاصة بسمو هذا الرجل البائس. وكان هذا أكثر ما أبغضه وقاسى منه. شرير محسن محكوم عليه بالأشغال الشاقة يملأ قلبه بالحنان, يقابل الشر بالخير, ويرد على البغض بالعفو, هذا الرجل اضطر جافير أن يعترف أخيراً بوجود هذا الكائن الجبار. يقول هيجو في وصف الحالة النفسية لجافير: إن ماكان يجري في ذات جافير كان تخلخل ضمير مستقيم, وإقصاء نفس عن طريقها, وسحق صلاح أُطلِق على نحو لا يقاوم في خط مستقيم وانكساره عند الله. الله, النفسي دائماً بالنسبة للإنسان, المستعصي, وهو الضمير الحق على الضمير الباطل, المحرم على الشرارة أن تنطفئ, الآمر الشعشع بأن يذكر الشمس, الموصي النفس بأن تعترف بالمطلق الحقيقي حين تواجه المطلق الوهمي, الله هو الإنسانية خالدة, والقلب البشري باقياً, هذه الظاهرة هل فهمها جافير؟ هل نفذ إليها قلب جافير؟ هل كون جافير فكرة عنها؟ لا من غير ريب. ولكن تحت ضغط هذا الممتنع استشعر جافير أن جمجمته تكاد تنفجر!.
الشخصيات السابقة كانت تمثل جيل الرجال الذين حط من قدرهم بالفقر. أما النساء وتحطيم كرامتهم بالجوع فكانت المرآة الآخرى لبؤساء هيجو وما يمثلونه من حالة يرثي فيها الأموات على الأحياء. ومن أفضل الشخصيات التي تمثل البؤس في هذه الملحمة هي شخصية فانتين. فانتين، وهي بالأصل لقيطة، أغراها شاب غني وتركها، وأنجبت طفلة اسمها كوزيت، واضطرت لبيع جسدها، لكنّها كانت تسعى للتخلص من هذه المهنة القذرة، وتركت فانتين ابنتها كوزيت عند أسرة تملك فندقاً صغيراً، واسم هذه الأسرة تيناردييه مقابل مبلغ من المال. كانت أسرة تيناردييه تعامل كوزيت معاملة سيئة، وتبتز فانتين، عملت فانتين في معمل في بلدة مونتروي، كان يملكه الأب مادلين، الذي عرف بقوة جسدّية خارقة، واستغرب مفتش الشرطة جافير قوته، وذكرته قوة الأب مادلين بقوة شخص هرب من السجن وهو جان فالجان، أمّا فانتين فلقد طردت من المصنع بعد أن عرفت إدارة المصنع سر حياتها السابقة، أيّ أنّها كانت تبيع جسدها، وتم طردها دون علم الأب مادلين، وعندما التقى بها، وعد بتقديم المساعدة لها لكي تصبح امرأة فاضلة، وطلب إعادة كوزيت إليها، إلا أنّ أسرة تيناردييه، ماطلت في التخلي عن كوزيت، لأنها وجدت فيها مصدراً للرزق.‏
قصة فانتين كما يصفها هيجو في الرواية هي قصة المجتمع يشتري أمة رقيقة, من الشقاء والجوع والبرد والتخلي, والحرمان. صفقة موجعة, نفس بشرية مقابل كسرة خبز. إلى أين تمضي هذه الفتاة؟ لم كانت كذلك؟ إن ذلك الذي يعرف يرى الظلام كله, إنه واحد أحد. إن اسمه الله!
إن بؤس فانتين لم يكن لأسباب ذاتية أو مالية حتى كما طرحها هيجو وأراد لها أن تظهر بهذا النظر البشع المقزز للنفس. هذه المرأة لم تكن قادرة على أن تحتمل نظرات ابنتها الحزينة, فمن أجلها أثِمت, وهذا هو السبب الذي من أجله يغفر الله لها كما تقول قبل وفاتها. بهذه الطريقة يصبح البشر ملائكة, إنها ليست خطيئتهم على الإطلاق كما يقول هيجو. إنهم لا يعرفون كيف يبدأون على نحو آخر. إن هذا الجحيم الذي خرجت منه فانتين بعد أن تعرفت على مسيو مادلين أو بمعنى أصح جان فالجان, هو الخطوة الأولى نحو الجنة :
” ما الشيء الرخيص اليوم؟
كل شيء غالٍ. ليس من شيء رخيص غير آلام الناس.
إن آلام الناس مجانية! فانتين اقتربت من القداسة من خلال الألم العظيم”
” هناك مشهد واحد أعظم من البحر , ذلك هو مشهد السماء. وهناك مشهد واحد أعظم من السماء, ذلك هو باطن النفس البشرية. إن نظم قصيدة الضمير الإنساني, ولو كان ضمير رجل فرد, بل ولو كان ضمير أسفل الناس واحطهم, يقتضي إذابة جميع الملاحم في ملحمة عليا ونهائية. الضمير هو هيولي الروح, والشهوات, هو بوتقة الأحلام, هو مغارة الأفكار التي نستحي بها. إنه وكر المغالطات, وساحة الحرب التي تصطرع فيها الأهواء. اخترِق في بعض الساعات حجاب الوجه الأزرق المسود الذي يحمله كائن بشري مستغرق في التفكير, وانظر إلى ما ورائه. انظر إلى تلك النفس, إلى تلك الظلمة. إن هناك تحت الصمت الخارجي صراعاً بين العمالقة كالذي نجده عند هوميروس, ومعركة بين التنانين والأفاعي, وحشوداً من الأشباح كالتي نقع عليها عند ميلتون, ومتاهات مخيفة كالتي نلقاها عند دانتي. أي شيء مظلم تلك اللانهاية التي يحملها كل امرئ في ذات نفسه, والتي يقيس بها في يأس رغبات دماغة, وأفعال حياته.
غافروش تينادرييه, هذا الطفل الصغير, الأب الكبير, الثائر الصغير, أو شهيد الحرية كما يسمى في خالدة البؤساء لفيكتور هيجو. هل من الممكن أن تجتمع الثورة والغناء في وقت واحد؟ وفي شخصية طفل صغير اتجه إلى الشارع ليبحث عن ذاته, عن نفسه, عن الثورة, يصرخ في الشوارع, وفي ضاحية سان انطوان, بين جموع حركة أصدقاء الأمة : لتحيا الجمهورية. هذا الطفل كيف استطاع هيجو تصوير حياته, وغنائه في الشوارع, واسشهاده في ثورة 1832م؟ وأنت تقرأ تحركاته في الميدان لن تجد نفسك إلا خلف المتاريس الباريسية بجانب غافروش. وأنت تشاهده يقود الكبار في الشوارع في مشهد الثورة لا تستطيع إلا أن تردد معه وهو يغني :
هل تذكرين حياتنا العذبة,
حين كنا كلانا صغيرين جداً,
وحين لم تعتلج في فؤادنا غير رغبة واحدة,
هي أن نرتدي ثياباً أنيقة وأن يحب أحدنا الآخر!
لا يبلغ مجموع عمرينا أربعين عاماً,
وحين كان كل شيء, في بيتنا المتواضع الصغير
ربيعاً بالنسبة إلينا, حتى الشقاء نفسه.
يا لها من أياماً حلوة!
لقد تأملك القوم كلهم, كنت محامياً من غير دعوى
يوم اصطحبتك إلى متنزه برادو,
فكنتِ جميلة إلى درجة جعلت الزهور
توقع في نفسي أنها تتململ.

لقد سمعتها تقول : ما أجملها!
ما أطيب عبقها ! ما أروع تموج شعرها !
إنها تخفي تحت ردائها القصير جناحاً
وهِمت على وجهي معك, ضاغطاً على ذراعك
واعتقدوا عابروا السبيل أن الحب المسحور
قد زوّج في شخصينا السعيدين
شهر نيسان العذب إلى شهر نوار الجميل
نحن نحيا مختبئين, راضيين,
ملتهمين بالحب, تلك الثمرة المحرمة الطيبة,
ولم يكن فمي ليقول شيئاً
إلا أجابه فؤادك في الحال.
كانت السوربون هي البقعة الشعرية الرعائية
حيث كنت أعبدك من المساء حتى الصباح.
هكذا تستعمل النفس العاشقة
تذكرة التاندر في البلدان اللاتينية
إيه يا ساحة موبير! إيه يا ساحة دوفين
يوم سحبت في الكوخ البارد الربيعي
ذراعك فوق ساقك الناعمة,
لقد رأيت نجماً في أقصى العلية
لقد قرأت أفلاطون كثيراً ولم يبق في ذهني شيئ منه
كما لم يبق شيء من مالبرانش ولا منييه
لقد أريتني اللطف السماوي
بزهرة قدمتها أنتِ لي
من ذا الذي يستطيع أن ينسى
أوراق الفجر والقبة الزرقاء والأوشحة والأزهار
حيث الحب يغمغم بلغة سوقية فاتنة!
تلك المصائب الكبرى التي كانت تضحكنا!
فروة يديك المحترقة, وفروة جيدك الطويلة الضائعة!
وتلك الصورة الأثيرة من شكسبير الإلهي
التي بعناها ذات مساء, لتناول العشاء!
أول مرة أخذت فيها,
قبلة من شفتيك الملتهبتين
حين تشعث شعرك وشاع الدم في وجهك
بقيت أصفر شاحباً وآمنت بالله!
هل تذكرين سعادتنا التي لا تحصى
وجميع تلك المناديل التي استحالت إلى خرق!
أوه ! كم زفرة من قلبينا المفعمين بالظل
قد انطلقت في السماوات العميقة!
فيكتور هيجو لم يتم كتابة البؤساء بشكلها النهائي إلا بعد 12 سنة من بداية الكتابة. أي أنه اضطر الى كتابة الرواية على مدى 12 سنة كاملة. تقع أحداث الرواية في أكثر من مكان، ولكن الأحداث تجري كلّها في فرنسا، بعد الثورة، ومن حيث التسلسل الزمني للأحداث، تجري الأحداث عام 1815، ففي هذا التاريخ يهرب جان فالجان من السجن، ويعود فيكتور هيجو إلى الوراء، أيّ إلى عام 1796 وهو العام الذي زج به بجان فالجان بالسجن . بعض السنوات التي كتب فيها هيجو الرواية كان خارج مدينته باريس, التي هي مسقط روحه قبل رأسه. باريس تشكل علامة من علامات الرواية الكبرى, رغم أن باريس هيجو القديمة تختلف عن التي زارها بعد عودته إليها. باريس التي يحتفظ فيها بخشوع في ذاكرته.هو يكتب في الرواية عن باريس القديمة الماثلة أمام عينيه لا صورة جديدة مضطر للسير وراءها. الإنسان كما يصفه هيو يتعلق بصورة الوطن كما يتعلق بوجه أمه. هي ذي باريس, هو ذا الإنسان.
” باريس تستيقظ وتفرك عينيها وتقول أأنا بلهاء؟ وتنفجر ضاحكة في وجه الجنس البشري. أي أعجوبة هي هذه المدينة. إن لباريس مزاجاً مرحاً مطلق السلطان. إن ابتهاجها لمن الصاعقة, وإن ضحكتها تحمل صولجاناً. وقد تنطلق أعاصيرها من تقطيب وجه. إن ضحكها هو فوهة بركان يصيب رشاشه الأرض كلها. إن لها يوم 14 تموز الذي يحرر الكرة الأرضية, وهي تحمل جميع الأمم على أن تقسم يمين ملعب التنس. إن كتبها, ومسرحها, وفنها, وعلمها, وأدبها, وفلسفتها هي الأصول التي ينهل منها العلم البشري. إن عندها باسكال, ورينية, وكورني, وديكارت, وجان جاك, وفولتير لكل لحظة, وموليير لكل عصر. إنها تجعل الفم الكوني يتكلم بلغتها, وتنتهي تلك اللغة إلى أن تصبح كلمة الله . تلك هي باريس. إن أدخنة سطوحها هي أفكار الكون. ركام من الوحل والحجارة, ولكنها فوق ذلك كائن أخلاقي. إنها أكثر من عظيمة, وغير متناهية, لماذا؟ لأنها تتجرأ! “
فيكتور هيجو في الرواية يقدم التاريخ الفرنسي في أروع تجلياته. من هذه التجليات, الثورة الفرنسية, ونابليون, ومعركة واترلو. عن الثورة الفرنسية, في أكثر من موضع في الرواية لا تكون الثورة ورجالاتها وتاريخها إلا حاضراً و بقوة. إن للثورة الفرنسية كما يعبر هيجو أسبابها. إن المستقبل سوف يغفر لها غضبها, أما نتيجتها فهي العالم الأفضل, ومن ضرباتها الأشد فضاعة تنبثق ملاطفة للجنس البشري. ولكن ما يرفضه هيجو في فرنسا الثورية هو الإحترام لتاريخية فرنسا. ينبغي على فرنسا الثورية أن لا تتبرأ من فرنسا الماضي. لماذا لا نحب فرنسا وتاريخها كله بدون انتقاص كما يقول. ” الثورة الفرنسية هي المثل الأعلى مسلحاً بالسيف لا أكثر, وبتلك الحركة نفسها أوصدت باب الشر وفتحت باب الخير. نستطيع أن نقول أنها خلقت الإنسان من جديد بأن منحته نفساً ثانية, منحنه حقوقه, فبفضل الثورة تغيرت الأحوال الإجتماعية. إن الأمراض الإقطاعية لم تعد في دمنا, لم يبق شيء من القرون الوسطى في دستورنا. إننا ما عدنا نعيش في العصر الذي كانت التحالفات الداخلية تشن الغارات فيه, العصر الذي كان الناس يسمعون فيه تحت أقدامهم, العصر الذي تشققت فيه الأرض, وانفتحت فيه أبواب الكهوف, إن المعنى الثوري معنى أخلاقي, ذلك بأن الإحساس بالحق يولد الإحساس بالواجب, وقانون كل شيء هو الحرية التي تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين “
بعيداً عن فرنسا الثورة. تتحدث رواية البؤساء عن شخصية نابليون بونابرت. وتوجد في الرواية شخصيات تؤيده، وأخرى تدينه، وهي بذلك تشبه رواية الجريمة والعقاب, إذ يشبّه بطلها راسكولينكوف نفسه بنابليون بونابرت، ويرى أنّ الفرق الأساسي بينهما أنّه أكثر وجداناً من نابليون بونابرت، ويرمي راسكولينكوف بنقوده المسروقة من عند العجوز المرابية، ومجوهراته تحت صخرة في حديقة مهجورة، ويرمي جان فالجان نقوده في صندوق ويضع الصندوق في حديقة مهجورة. من أفضل الفصول التي كتبها فيكتور هيجو عن نابليون هو فصل حرب واترلو!
هناك نقطة مركزية في البؤساء يستند اليها هيجو بكثرة, ويكثر من الحديث عنها. النقطة التي يظهر من خلالها مشاعر أبطاله وشخصياته, وحتى الإحداث التاريخية, هي الإيمان بالله و وجود الله . ومشكلة الإيمان والإلحاد. ويبدو أن لا فرق في الأفكار بين فيكتور هيجو وبين غيره من كبار الأدباء في العالم. مثل تولستوي على سبيل المثال.
الله حسب تصور فيكتور هيجو- وقد ذكره بنفسه في الرواية على أية حال – أن الله هو المثل الأعلى, المطلق, الكمال, اللانهاية. هناك ملحدون مشاهير وأقوياء لكنهم حسب تصور هيجو الفلسفي ليسوا في الواقع, وقد أعيدوا إلى الحقيقة بقوتهم نفسها, واثقين كل الثقة من أنهم ملحدون! إن المسألة في ما يتصل بهم لا تعدو أن تكون مسألة حد أو تعريف. إنكار الله يقود إلى العدمية, ومع العدم يتعذر النقاش, لأن العدمي المنطقي يشك في أن محاوره موجود, وليس واثقاً كل الثقة من أنه هو نفسه موجود. الفلسفة ينبغي أن لا تكون مجرد برج مراقبة, مبنية على الألغاز ابتغاء التحديق إليها من غير نتيجة سوى إرواء الفضول. يجب أن نحيي الفلاسفة, وفي نفس الوقت نخاصم فلسفتهم من غير هوادة كما يقول فيكتور هيجو, أديب فرنسا الكبير
الموت عند هيجو ليس كميناً أو انهياراً, وإنما هو عودة الأشياء إلى أصولها, الكمال المطلق, أعظم صنوف الحرية, وأعظم ضروب التقدم. الموت هو صعود كل من عاش إلى الطبقة العليا. انه الصعود الباهر المقدس. ولذلك كانت نهاية الرواية تمثل الكمال المطلق مثلما أراد مؤلفها عبر إيراده لكلمات كتبت على قبر عملاق الرواية جان فالجان:
في جوار مقبرة الفقراء والمجهولين, وبعيداً عن الحي الأنيق من مدينة القبور تلك, بعيداً عن جميع تلك الأضرحة الغريبة التي تعرض في حضرة الأبدية أزياء الموت الرهيبة, وفي زاوية مهجورة. وهذا الحجر عارٍ عن أي زخرف. فلم يفكر عند إعداده إلا في حاجات القبر الضرورية ولم يُعن بغير جعل هذا الحجر كافياً من حيث الطول والعرض لتغطية رجل. ولم يكن ثمة اسم ما. بيد أن يداً حطت على ذلك الحجر بقلم الرصاص منذ عدة سنوات, هذه الأبيات الأربعة التي انتهت تدريجياً إلى أن تصبح غير مقروءة, تحت المطر والغبار, والتي امحت اليوم في أغلب الظن :
إنه يرقد، بالرغم من غرابة قدره.
لقد عاش. لكنه مات عندما فقد ملاكه.
الأمر يحدث ببساطة، من تلقاء نفسه،
مثلما يأتي الليل عندما يولي النهار.