عبده بشور.. الحالم بالسفن

عبده بشور.. الحالم بالسفن

الكتاب: عبده بشّور الحالم بالسفن ـ رواية
الكاتب: ألفارو موتيس
المترجم: صالح علماني
الناشر: دار المدى
ألفارو موتيس ليس اسماً غريباً على القارئ العربي، بل اسمه بات معروفاً قبل ترجمة أي عمل روائي له إلى اللغة العربية، ويعود الفضل في ذلك إلى الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز.

وهذا ما يدعونا إلى القول بأن الزمن يدور دورته. فكما كان ألفارو موتيس أحد أهم قراء مخطوطات ماركيز قبل طباعتها وصاحب الملاحظات التي يأخذ بها ماركيز في أعماله، وصاحب اليد الطولى في مسار ماركيز الأدبي عندما قام موتيس بإهدائه رواية"بيدرو بارامو"للكاتب الأرجنتيني"خوان رولفو"قائلاً له"خذ... لكي تتعلم.". فإن ماركيز قدمه لقراء العربية كروائي كبير قبل أن يكتب موتيس أية رواية.
فبالإضافة للحادثة السابقة، التي ذكرها ماركيز باستفاضة في كتاب مذكراته"عشت لأروي"، قام ماركيز بإهدائه روايته العظيمة"الجنرال في متاهته"، وتحدث عنه في القسم الأخير من روايته الأكثر شهرة"مائة عام من العزلة".
رواية"عبده بشّور الحالم بالسفن"هي رواية لذيذة بامتياز، وتكمن لذتها في غرابة الشخصيات التي تحكي حكايتها أولاً، ثم غرابة بناء الرواية ومصادرها ثانياً.
منذ الكلمة الأولى للرواية يصرح الراوي/ موتيس بأن هذا الكتاب هو عبارة عن محاولة تسجيل بعض مغامرات عبده بشور المنتمي لعائلة لبنانية تهتم بالتجارة البحرية". منذ زمن وأنا أفكر في جمع بعض الأحداث من حياة عبده بشور، صديق وشريك ماكرول ألغافيرو، على امتداد شطر كبير من حياته، والبطل الثانوي، بطريقة ما، في عدد غير قليل من المغامرات التي اعتاد ماكرول التورط فيها بسهولة مثيرة للشبهات. وقد تولى بشور، في كثير من تلك المغامرات، دور المخلص الذي ينقذ ماكرول في اللحظات الحرجة، بفضل ذلك الصبر الماكر الذي يشكل أحد الملامح السائدة في الطبع الشرقي". (ص 19)
من هذا الكلام نفهم أن الراوي دوره تسجيل بعض مغامرات هاتين الشخصيتين الغريبتين: عبده بشور وماكرول ألغافيرو. لكن المقدمة لم تكن للدلالة فقط على أن الرواية هي لتسجيل وتوثيق الأحداث التي جرت معهما. بل أيضا ليميز الراوي نفسه عن إحداهما وهو ماكرول. خاصة إذا عرفنا أن موتيس هو ماكرول نفسه. تلك الشخصية الرئيسية الدائمة في رواياته الست التي كتبها. هذه لعبة روائية محضة، من جملة الألعاب التي يلعبها موتيس بخفة في الرواية ويتقنها بشكل مثير للإعجاب، في أن يجزئ نفسه إلى شخصيتين إحداهما فاعلة في الرواية وتجري الأحداث حولها وبسببها وهي شخصية ماكرول، وأخرى تقوم بدور الراوي أو الحكواتي.
لا تتخذ الرواية تسلسلاً زمنياً للأحداث، بل هي لا تهتم للزمن، وقد قام الراوي بالاعتذار عن ذلك سلفاً، ولكن نجد أن الزمن يظهر بشكل قوي في خلفية الأحداث التي تبدأ من صدفة التقاء الراوي بفاطمة بشور، أخت عبده، في رين، الذاهبة إلى إسبانيا ومعها الأموال اللازمة لإطلاق سراح ماكرول المعتقل بسبب قضية تهريب أسلحة لمنظمة انفصالية هناك!! ثم تبدأ الأحداث بالتواتر، بشكل استعادي لترتيب الأحداث، من لحظة تعرف الراوي على الشخصيتين الغريبتين إلى حين موت عبده بشور في"فونشال"في حادثة تحطم طائرة.
لم يقم موتيس بزرع الشعور داخل القارئ بأنه ليس ماكرول، خاصة أنه يصنع حوارات بين الراوي وماكرول، بل ذكر مصادر، في كتابة هذه الرواية، منها كتاب مذكرات منشور لماكرول بعنوان"يوميات شوراندو". بالإضافة لمصادر أخرى مثل الرسائل المتبادلة بين فاطمة بشور وعبده، والرسائل المتبادلة بين عبده وماكرول وبين الراوي وماكرول! وكذلك على لقاءات الراوي مع الشخصيتين، وكذلك عن كتب سابقة صدرت عن مغامرات عبده بشور وماكرول.
عبده بشور شخص غريب جداً وقريب من الواقع في الوقت نفسه. غرابته تكمن في طباعه الحادة وتحدياته ومغامراته وهوسه باقتناء السفن التي ما عادت تلزم أحداً، ولكن نظرة واحدة منه تجعلها قريبة إلى أمنيته الغامضة باقتناء سفينة أحلامه، التي يبنيها في الخيال ويتخلى عنها في الواقع. في هذه الرواية ستجري الأحداث حول ثلاث سفن (أميرة بخارى ـ فيري أوف تريستا ـ هيلاس) سيتخلى عنها الواحدة تلو الأخرى في حوادث غريبة، وفي النهاية سيفقد حياته عندما يطير إلى"فونشال"لاقتناء سفينة قديمة بُنيت في بلفاست في السنوات الأولى من القرن الماضي، ولكن حلمه سيتبدد عندما تنفجر الطائرة على مدرج الهبوط ناثرة جسده في البحر.
في الوقت ذاته يعتبر عبده بشور شخصاً واقعياً لأن ديدان المغامرة موجودة داخل أي شخص منا، لكننا نحاول أن نضغطها ونضبطها بأسباب شتى منها الحرص ومنها الخوف والطبيعة الشخصية والالتزامات والجينات الوراثية ودور الآخرين في حياتنا... الخ. لكن عبده بشور يذهب وراءها، وكأنها تقوده، ليس بتهور وضعف وإنما بحكمة المتهورين وقوتهم.
نهاية عبده بشور لم تكن عند تحطم الطائرة، بل بدأت عند موت صديقته"إيلونا غرابوفسكا"، وهي من مدينة"تريستا"على البحر الأدرياتيكي، الذي بسببها اشترى سفينة صهريج، معدلة لشحن المنتجات الكيماوية، وعمدها باسمها"فيري أوف تريستا". عندما ماتت إيلونا بدأ سوء الطالع يرافق عبده إلى اللحظة التي قـُبض فيها على ماكرول بسبب شحنة الأسلحة المهربة على السفينة هيلاس. ابتداء من تلك اللحظة امتهن بشور أعمالاً عديدة، من أجل جمع المال من جديد لشراء سفينة أحلامه. أعمال ومهن غريبة تشكل جزءاً مهماً من مغامراته: موزع مطبوعات وصور بورنوغرافية في حلب، مورد مؤن ومأكولات في فماغوستا، متعهد طلاء سفن في بولا، مشرف على بيت للقمار في بيروت، دليل سياح في استنبول، مراهن مزيف لاجتذاب الغافلين في صالة بيلياردو في صفاقس، مورد فتيات غريرات إلى ماخور في طنجة، منظف مراجل في طرابلس، مسؤول سيرك في ترينتو.. الخ (ص 144).
بنظرة واحدة، لكن متفحصة، نجد أن كل واحدة من هذه المهن هي عبارة عن مغامرة جديدة يمكن كتابة المزيد من الروايات عنها.
لا تجري الرواية في مكان واحد أو محدد، بل تذهب بالقارئ، بكل خفة ورشاقة، إلى أماكن وطقوس وتواريخ مختلفة من خلال مغامرات بشور"في البحث عن السفينة المفقودة". تذهب إلى الشرق الأوسط وأوروبا وأميركا الشمالية واللاتينية وأفريقيا.. وتجري في البارات والفنادق والجزر والسفن والطائرات والقطارات وحتى في المحاكم والسفارات..
إنها رواية لذيذة بالفعل. وتكمن لذتها أيضاً في لغة الرواية وأجوائها وسلاستها.. حتى أن هناك مقاطع كاملة تستدعي التأمل والحفظ ومنها المقطع الفائق الجمال، المعنون بـ"حوار في بيليم دو بارا"، عند حوار بشور وماكرول عن حياتهما ومغامراتهما وعن نجاة بشور من موت"تافه"على يد"محطم المرايا"، وهو من أعتى المجرمين ومهربي المخدرات، وانتظار موته اللائق لبحار في البحر. يقول ماكرول:"الموت، عندما يأتي على يد مثل ذلك الشخص، لا يكون هو الموت المخصص لأحدنا منذ الأزل... الموت الذي يُعد شيئاً فشيئاً، على امتداد الحياة، منذ لحظة الولادة نفسها. فكل واحد منا يعكف على غرس واختيار وسقاية وتشذيب وصياغة موته الخاص. ويمكن لهذا الموت أن يتخذ أشكالاً كثيرة، ولكن أصله وبعض شروطه الأخلاقية، بل والجمالية التي يمكن صوغها، هي ما يهمنا في الحقيقة، وهذا ما يجعل الموت، إن لم نقل مقبولاً ـ وهو أمر نادر ـ شيئاً متوافقاً على الأقل مع بعض الشروط السرية والعميقة التي صاغها كياننا مطولا على امتداد وجوده في الحياة. أما الموت الذي يأتي على يد شخص مثل محطم المرايا فهو موت يهين نظاماً ما.."(ص 167).
موتيس الذي امتهن أعمالاً كثيرة، لم تكن الكتابة من ضمنها، ما أن تقاعد منها، وهو في بدايات الستين من عمره، حتى جلس وكتب ثماني روايات في ست سنوات، كانت إحداها هذه الرواية التي يود القارئ لو ينهي صفحاتها المئة والستين في جلسة واحدة ليعود إليها مراراً.

عن ملحق كتب/ صحيفة البيان الاماراتية