رافع الناصري رسام المشاهد الكونية

رافع الناصري رسام المشاهد الكونية

محمد علي شمس الدين
مي مظفر شاعرة وقاصة وناقدة فنية عراقية. مما لها في الشعر «طائر النار» و«غزالة في الريح» و«محنة الفيروز»، ومما لها في القصة القصيرة «البجع» و«بريد الشرق» و«ألم يبق منهم أحد؟»، والأخيرة (2011 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر) هي في بقايا في الذاكرة لبعض من كانوا وبانوا في بغداد،

مدينة الشاعرة وحبها المهجور والمكسور. أما آخر ما صدر لها في النقد الفني فكتاب عن الرسام والحفّار او النقاش العراقي رافع الناصري (ولادة 1940 في تكريت، العراق) بعنوان «رافع الناصري: رسام المشاهد الكونية) حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يذكر للمؤلفة، إلى ما ذكرنا، كتب مترجمة في الشعر «صناعة الشعر» لتيدهيوز، وفي «اللوحة والرواية» لجفري ميرز، و«الأوهام البصرية» لينكولاس ويد، و»حياتي مع بيكاسو» لفرنسواز جيلو وكارلتون ليك، و«باريس عندما تتعرى» لإيتبل عدنان... وحين نعلم ان موضوع كتابها النقدي الأخير، عن الفنان رافع الناصري، هو عن فنان قريب جداً منها، وهو زوجها منذ عام 1973، حيث التصق الفنانان الزوجان في حياة مشتركة ومكشوفة على بعضها البعض كمرايا متقابلة، فالسؤال الذي يطرح نفسه مباشرة علينا هو: هل القرب حجاب؟ أي هل قرب الشاعرة والناقدة من زوجها الفنان يزيد من الضوء المسلّط من ناحيتها على فنه ويعري العتمات ويكشف عن الدقائق والتفاصيل، ويعقد من خلال الملاحظة القريبة والمتابعة الوشيكة أسباباً وصلات بين المستور من حياة الفنان والمكشوف من فنه... أم ان المسألة لم تكن كذلك، وجاء القرب حجاباً بين الفنانين، على ما تقول العرب؟
تقول مي في المقدمة «لم يعلّمني رافع بمعنى انني لم اخضع لتعليم فني منهجي، ولكنني أخذت منه الكثير، وتمرست على طبيعة تعامله مع المرئيات، وذلك ما اعانني على التعمق في عالم الفنون البصرية وغذى تجربتي الشعرية برؤى وافرة... في السنوات العشر الأولى من حياتنا المشتركة، عشنا في بيت صغير لا تزيد مساحته على ستين متراً...» (ص 10) وتلاحظ طريقة عمله الذي كان يقتصر على ساعات المساء حيث يفترش الأرض وينحني على سطح لوحته لا يرفع رأسه إلا بعد ان يبلغ به التعب مبلغة... وهي في ثنايا الكتاب، في مقالة «رمانة صغيرة تالفة» (ص 39 وما بعدها...) تشير إلى دعوته لها لتأمل ثلاث رمانات تالفة ومهترئة كان الفنان التقطها من الشارع، ليسلّط بعد ذلك ضوءه الفني الإبداعي عليها لتخرج في متوالية من اللوحات المائية (تكوين حبر على ورق 1995) تتمثل الثمرة المتآكلة وتصوّرها بدقة متناهية من زوايا مختلفة... نقول إن الفنان دعا الشاعرة الناقدة للتحديق في أصل من أصول عمل من أعماله الفنية... لكن الكتاب بمجمله، لم يشبك لنا، على سبيل المثال والاقتراح، علائق خفية بين التفاصيل الحميمة لحياة الفنان وطقوسه وعاداته وأساليبه في العيش وتلقي العالم، وبين ما انتج من لوحات... كان يمكن ان يكون الكتاب إعادة تكوين حميمة جداً، وقريبة جداً، لحياة رافع الناصري في الرسم والحفر... وكشف الستار عن بعض الأسرار الحياتية والنفسية التي كانت لها بصمات على لوحاته ومحفوراته، لا سيما انها على العموم، تميل إلى قتامة اللون، وتسلل الضوء إلى العتمة تسللاً كلص... ومع ذلك فكتاب مي مظفر كتاب جميل وممتع ويفتح لنا نافذة على جزء من الزمن الوردي للفنون والثقافة ما بين بغداد وبيروت في سبعينيات القرن الفائت، حيث كانت تتقاسم هاتان العاصمتان، عصمة الشعر والرسم والنحت والمسرح، وحيث كان يفور الإبداع والتجريب في مرجل الحداثة الوافدة من الغرب، والموضوعة في مهب رياح الأصالة والتراث والهوية... تكشف إذن مي مظفر في ثنايا فصول كتابها، عن ملامح من وجه الزمن الجميل ذاك، الذي شوّهته الحروب التي توالت على العاصمتين الحضاريتين، فمزقت وحرّقت بالنار وقطعت أوصال اللوحات والمتاحف والنصب... كما هدمت تماثيل الشعراء ونضب الفنانين.

بيروت وبغداد: جبرا قال: هذه لرافع الناصري
كانت أول علاقة مي مظفر برافع الناصري لوحة معلقة في مدخل منزل جبرا ابراهيم جبرا: مشهد بحري. موجة زرقاء داخل فضاء أبيض. كان ذلك في شارع الأميرات في بغداد حيث أقام جبرا، في ذات يوم من عام 1971. المشهد جذب إليه الشاعرة الزائرة. حين اقتربت من التفاصيل تبين لها انها امرأة مستلقية عارية. قال جبرا: هي لرافع الناصري، وأضاف: فنان مدهش.
كان أيضاً نجيب المانع قد حدثها عنه، قال: له سحبة فرشاة «بيد لا تتردد ولا ترتجف» ( 8). لكن لقاءها الأول به كان في خريف 1971 حين طلب منها أدونيس، من بيروت، ان تكتب لمجلة «مواقف» عن معرض جماعة «الرؤية الجديدة» في بغداد، الذي اشترك فيه رسامون طليعيون من امثال ضياء العزاوي وصالح الجميعي وهاشم سمرجي ورافع الناصري. قبل ذلك كان للناصري صدى جميل من خلال معرضه الذي أقامه في «كاليري وان» Gallery One، عام 1969، في القاعة التي أسسها الشاعر اللبناني يوسف الخال مع زوجته الفنانة هيلين الخال في ستينيات القرن العشرين. لم يقيض للشاعرة ان تشاهد المعرض لكنها تلقت أصداءه المترددة بين بيروت وبغداد. ولكنها التقت طويلاً بجدارية ضخمة لرافع الناصري خلال عمله على هذه الجدارية (5م × 3م ارتفاع تقريباً) في الطابق التاسع من مبنى شركة اعادة التأمين العراقية في بغداد. كلف الناصري بجدارية للطابق التاسع وضياء العزاوي بجدارية للطابق الثامن... إلى جانب تكليف النحاتين محمد غني واسماعيل فتاح الترك بأعمال نحتية في مدخل المبنى. كان الناصري ينفذ اللوحة في المبنى نفسه، حيث كانت تعمل الكاتبة وتمر في الذهاب والإياب على اللوحة والرسام. بعد الحرب على العراق، وضعت جدارية العزاوي، كما تذكر الكاتبة، في المخزن، اما جدارية الناصري فأنزلت بعد قطعها بمنشار وجزئت لجزءين ووضعت في قاعة مخصصة للطعام.
تمزقت بغداد. وتمزقت بيروت. مات محمد غني، اللوحات تشردت. مات يوسف الخال. «غاليري ون» تخرّب وأقفل. توقفت مواقف عن الصدور. في معرض جماعة «الرؤية الجديدة» 1971، تم التعارف بين مي مظفر ورافع الناصري، كانت بيروت كما بغداد، كلاهما تغلي بقران إبداعي بين الشعر والرسم والنحت، حيث تجد الحداثة الشعرية والحداثة الفنية رموزها وحقولها وأسئلتها، مجلات إبداعية تحضن الحداثة وتحضن التجارب الجديدة الوافدة من أوروبا. وتدور الأسئلة والحوارات في الفن وماهيته، وفي علاقات الفنون بعضها بالبعض الآخر، كما ينشب نزاع قوي بين دعاة الأصالة ودعاة الحداثة، ويجد كثيرون انفسهم معنين بضرورة الحداثة، يقول أدونيس: «علينا ان نكون حديثين»، ولكن سؤال الهوية والارتباط بالتراث والمحلية، يرتفع. في تلك الفترة، سأل رافع الناصري نفسه كرسام وحفار: من أنا؟ ماذا اريد وكيف ألمس جوهر نفسي؟ كان هاجسه حداثة التعبير الفني من خلال التقنية مع الحفاظ على الهوية المحلية. ومن خلال ذلك كله كان يبحث عن التميز، فوجد ضالته في التجريد كأسلوب، وفي استخدام الحرف العربي بوصفه «قيمة تعبيرية محض خطية، بمعزل عن أي معنى أدبي او لفظي، فهو مجرد شكل تعبيري جمالي له خصوصيته». (ص 22).

مراحل ومعارض (محطات التحول)
كتاب مي مظفر مجموعة مقالات نقدية فنية، كتبت على مراحل متباعدة، وكانت ترافق معارض رافع الناصري الشخصية او المشتركة، يضاف لها مقابلة مسهبة مع الفنان، بطلب من مجلة «ألف» التي تصدر عن الجامعة الأميركية في القاهرة نشرت في العدد 24 لسنة 2004، قدمت لها بمقدمة تأريخية للفن العراقي قبل رافع الناصري وصولاً إليه وإلى جيله من الفنانين الطليعيين... والمقابلة تدور حول مراحل تجربته الطويلة، وتطورها، وأبرز معالمها الإبداعية، والملاحظ ان المقابلة ترسيخ وتوكيد لمجمل ما جاء في مقالات مظفر النقدية السابقة المرافقة للمعارض، من مقالة «تجليات الأفق» المنشورة في دليل معرض الفنان الذي أقيم في قاعة الوراق ببغداد 1986 تحت عنوان رحلة عبر الأفق، إلى مقالة «تنوع في المشهد» بمناسبة المعرض المشترك مع علي طالب في قاعة شومان بعمان في شهر 6/92، إلى مقالة «رمانة صغيرة تالفة» حول سلسلة لوحات مائية متوالية تمثل الثمرة المتآكلة وتصورها بدقة متناهية من زوايا مختلفة.
ينصب رافع الناصري عينيه كفخاخ لالتقاط الجزئيات والمهملات التي يصادفها بصره... من هناك إلى الكاميرا ومن الكاميرا إلى اللوحة. فالرمانة المهترئة، مثلا، تتحول في اللوحة إلى قرن قمر متآكل، ولكنه قمر معذب (على عبارة مي مظفر)... فإلى مقالة «ما بين الحركة والسكون» حول المعرض الشخصي للفنان على قاعة المركز الثقافي في عمان شمل أعمالاً مطبوعة Prints ورسوماً بالأكريليك على ورق صيني وقماش، فمقالة «عشر سنوات ثلاثة أمكنة» أما السنوات فهي ما بين 1989 و1999، وأما الأمكنة فهي بغداد وعمان والمنامة، فمقالة حول معرض الناصري الذي سماه «تحية إلى المتنبي»، أقيم في قاعة الرواق في المنامة (19 نيسان إبريل ـ 23 أيار مايو 2002) وضم 34 لوحة بمواد وخامات مختلفة.
وما بين المقالات والمقابلة، سيتبين لنا ان الفنان الناصري بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1959، وكان من أساتذته بعض من قادة الفن في العراق امثال فائق حسن وجواد سليم وخالد الرحال وعطا صبري واسماعيل الشيخلي فضلاً عن القبرصي فالنتينوس كارلامبوس الذي كان له فضل تطوير دراسة الفخار والخزف في المعهد... اختار الصين لمتابعة دراسته الفنية حيث أمضى هناك 4 سنوات (1959ـ1963) دارساً فن التصوير وفن الحفر والطباعة (Print making)، وبرع في الحفر على الخشب بالألوان المائية... المرحلة الصينية علمته الواقعية... لكن المرحلة التالية وهي المرحلة الغربية (مرحلة الحداثة) التي قضى خلالها سنتين في لشبونة (البرتغال) تلبية لزمالة منحت له (1967ـ1969)، فقد شهدت انعطافاً حاداً في أسلوبه الفني ومنظورة للحداثة، نقلته من الواقعية إلى التجريد... ومن بعد ذلك على الإيغال في التجريد في ما يمكن ان نسميه تجريد التجريد. يقول إنه كان مهيئاً للتجريد. لكن التجريد وحده أسلوب أشاري وخطي هندسي. اختزال ورمز. والسؤال هو تجريد ماذا؟ يضاف لذلك ما ضغط على نفسه بقوة: هاجس المحلية والتراث. فهو يريد ان يكون فناناً بتقنيات غربية حديثة من خلال التجريد، وأن يكون عربياً وإسلامياً (عراقياً) من خلال المواد المستعملة وعمق اللوحة... فاهتدى للحرف العربي... فاستخدم الحروف ذات الامتدادات والانحناءات المنسابة كالواو والهاء والميم والسين. وإلى الرسم مارس فن الحفر والطباعة (غرافيك)، وكان قد أتقنه منذ ذهب إلى الصين حيث تستخدم الألوان المائية في الحفر على الخشب وحيث يروج الحفر على النحاس.
ومرحلته الفنية مرحلتان في الرسم: في الأولى يقسم المساحة لقسمين علوي سماوي وسفلي أرضي يفصل بينهما خط الأفق، وفي الثانية بدأ يمحي خط الأفق ويندمج عالما اللوحة او يتداخل الأرضي بالسماوي من خلال تداخل الضوء في العتمة. ولا تنفصل تقنياته في تطورها عن المواد المستعملة، فقد نفذ أعماله المتنوعة بثلاث تقنيات ومواد: أكريليك على القماش وأكريليك على الورق والحفر على الزنك (Etching).
والنتيجة؟
تثير تجربة الناصري أسئلة في الفن (التقنية) وأسئلة في المادة المستعملة. وكتاب في مظفر لم يطرح اسئلة على هذه التجربة بمقدار ما سلّط الضوء على تاريخيتها ومضمونها. لعل ذلك ناجم عن كون الكتاب لم يكتب دفعة واحدة. فالتجريد الأسلوبي والإيغال فيه لحدود تجريد التجريد، يحوّل اللوحة إلى رموز وإشارات وخطوط... بما في ذلك خطوط الأفق والحروف او الملصقات من كتب قديمة (كما في معرض تحية للمتنبي). الملاحظة النقدية الوحيدة على تجربة الناصري جاءت من أستاذه حسن فائق تعليقاً على معرضه المقام في بغداد 1979 إذ قال: «هذا تصميم وليس رسماً، نظراً للصرامة الهندسية للوحات. كان رد الناصري هو ان فائق حسن تقليدي ومتمسك بالمفاهيم التقليدية للوحة. السؤال إذن كان مطروحاً على التجريد نفسه كأسلوب او تقنية حداثية لأي مدى هو كاف ومؤثر؟ كما ان سؤالا آخر حول الحروفية، لأي مدى يمكن استنطاق الحرف العربي وهل يحمل أكثر مما يحمل فن الأيقونة مثلا؟ أما لجهة المواد المستعملة، ففيها تظهر خصوصية وعبقرية رافع الناصري. إن لكل مادة مفاجآتها... فالخزف مثلا، وهو مواد لا عضوية ولا معدنية متشكلة بفعل الحرارة، إذا احترق، تحول لونه من الأخضر إلى الأحمر. وهو ابن البلاد التي تلامسها الشمس بقوة، كمصر والعراق. مواد رافع الناصري هي خصوصيته وإرثه ووجهه ووجه بلاده. ولعله أيضاً هنا جوهره.
عن جريدة المستقبل
اللبنانية 2010