حضيري ابو عزيز صاحب اغنية

حضيري ابو عزيز صاحب اغنية

في العراق ثروة ضخمة غير البترول والمعادن واشجار النخيل.. ونعني بها الثروة الغنائية المدفونة في الارياف والتي لايعلم عنها اقطاب الغناء الموسيقي وفي العواصم العربية شيئا باستثناء الاغنية العراقية المشهورة .. عمي يابياع الورد .. التي نشرتها الفنانة البغدادية الكبيرة عفيفة اسكندر في تنقلاتها في بغداد وسوريا وبيروت والقاهرة .. فاننا نجهل الالحان الكثيرة التي يستطيع العراق ان يباهي بها الالحان الفلكلورية في لبنان ومصر وتركيا وايران وحدث اخيرا عند زيارتي الى بغداد

ان دعيت الى حفلة خاصة غنت فيها فلاحة عراقية من الجنوب لحنا حزينا يقطر باللوعة والانين ولم تنته المغنية الريفية من اللحن حتى كانت الدموع تسيل على خدود الحاضرين كأنها طوفان وكان كلام الاغنية غير مفهوم بالنسبة لنا الذي نجد صعوبة في فهمه بالنسبة لنا ومع ذلك فقد استطيع ان اكتب كلمات الاغنيةالحزينة مستعينا بالاخوان الذين حضروا الحفلة
حيث قالت المغنية:
هلي ياظلام ياهلي
ياظالمين يا هلي
لاياهلي الظلام رحم عدكم
حنوا علي عاد مو اني ابنكم
وفي مناسبة ثانية سمعت موالا من العتابة العراقية الريفية مطلعه :
هلا بطارش حبيبي أي هلا
برسول الحبيب الف هلا ويسير اللحن مع الكلام فيقول :
الدمع من فركتها اليوم يهل
تركني بغير سيئة
ذنب ياهل
تركني ولاذكر حق الاصحاب ..
وكان هذا الموال شبيها باللحن الحزين الذي سمعته من المغنية الريفية العراقية أي انين ممدود ودمع غزير ولوعة كثيرة وسألت احد الاصدقاء العراقيين: اليس عندكم هنا في بغداد من يحفظ شيئا من الالحان الريفية وقال مستغربا. الا تعرف حضيري ابو عزيز قلت له لم يحصل لي الشرف قال انه صاحب ابدع ما في العراق من الاغاني الريفية فهو مؤلف وملحن عمي يابياع الورد .. ويا هلي الظلام واغنية .. يمة يايمة .
قلت واين استطيع مقابلة هذا الحضيري ابو عزيز قال اما في المحطة الاذاعية او في الشارع فهو دائم السرحان..
شنب كلارك جيبل.
وذهبت في اليوم التالي الى محطة اذاعة بغداد ولم يكن حضيري ابو عزيز هناك ولكن قيل لي انه سيحضر فانتظرته.. وبعد نحو نصف ساعة اطل شاب علي بعمر 35 متوسط الطول له شنب رفيع على طريقة كلارك جيبل وفي عينيه شرود يلازم معظم الفنانين الريفيين في العراق وخارجه .. ولم اجد صعوبة في حمل الرجل على الكلام فقد وجدته يجلس بجانبي ويطلق عينيه الشاردتين مع ضياء حديقة محطة الاذاعة وهو يتحدث عن طفولته وشبابه وعن الحانه وقصته في سطور.. انه ولد في مقاطعة ريفية من العراق اسمها المنتفك ودخل المدرسة ثم هرب منها عندما مات ابوه اشتغل (صبي ترزي) ولما كبر اصبح عسكري مرور وكان يغني وانتشر صيته بين زملائه العساكر البوليس ثم وصل الى المأمور والمتصرف واصبح يدعى الى حفلات السمر ليغني فيها ويقبض من البيك المأمور ما تيسر من الهدايا والعطايا الى ان جاء السيد جميل المدفعي متصرف لواء المنتفك وقد اصبح بعدئذ رئيسا لوزراء العراق اكثر من مرة .. وسمع السيد جميل المدفعي حضيري ابو عزيز فادرك ان الشاب موهوب وان مكانه ليس في سلك البوليس فاصدر امراً بنقله الى محطة بغداد ليستفاد من مواهبه وفي بغداد شق البوليسي السابق طريقه الى الشهرة المحلية ..
على الحديدة ..
واستطرد حضيري وقال: لقد زرت القاهرة اكثر من مرة واسند لي دور في فيلم (ابن الشرق) الذي ظهرت فيه مديحة يسري وبديعة صادق واستفدت كثيرا من سماعي الالحان المصرية الصميمة وبصورة خاصة الالحان الريفية ولكن مع الاسف لم يستفد مني احد الملحنين باستثناء الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي يحتفظ باللحن كثيرا والشيخ زكريا احمد الذي اعجبه جدا لحن يا هلي الظلام وقلت له ألا تعتقد ان السبب هو صعوبة الكلام لهذه الالحان؟ قال جائز ولكن هذا الكلام لم يمنع محطات صوت امريكا والاذاعة البريطانية ومحطة دلهي من ان تحفظ هذه الاغاني وتدفع لي ثمنها غاليا قلت اذن انت صاحب ثروة من اين تجيء الثروة يا استاذ فباستثناء الدنانير القليلة التي اتقاضاها من محطة الاذاعة العراقية ومحطات الشرق الادنى والهند ولندن فليس هناك أي مورد اخر فان الحاني منتشرة وتردد في الملاهي والمسارح تغنيها مطربات معروفات لاتفكر أي واحدة منهن بان ترسل هدية متواضعة الى ذلك الذي عصر اعصابه حتى الف الكلام هذا وصاغ اللحن وتركني الملحن الرقيق وهو يقول: الله يسامحهم والمهم ان الحاني تنتشر اليوم في كل مكان وانا على الحديدة وهناك كلمة احب ان اقولها في هذه المناسبة وهي ان الوان الغناء الريفي في العراق كثيرة منها العتابة والركباني والابوذية.. والنايل والحدو وغير ذلك وهذه من دون شك ثروة كبرى اذا اضيفت الى بعض المقومات العراقية اصبح بين ايدينا مجموعة ذات قيمة من الالحان قد تكون حزينة ومسرفة في التأوهات والزفرات والنحيب ولكنها من دون شك ينابيع الالحان يستطيع الملحنون المعاصرون في القاهرة ان يستمدوا منها الالحان الرائعة كما حدث بالنسبة للالحان لعبد الوهاب المشهورة يلي زرعتوا البرتقال.. والجبل توبات.. وحبيبي يالي خيالي فيك والسؤال لماذا لايجمع المعهد الموسيقي في القاهرة هذه الالحان ليسمعها الطلبة في اثناء دراستهم؟ انه مجرد اقتراح قد يكون متعبا ولكنه مفيد على كل حال .
مجلة الكواكب
2/8/1955