جماليات الاختفاء عند مكسويل كوتزي

جماليات الاختفاء عند مكسويل كوتزي

محمد سمير عبد السلام
ثمة امتزاج كوني ورمزي – في نصوص ج. م كوتزي الروائية بين وعى السارد والمادة الفريدة والمدهشة التى تشكل شخصياته
-كطفرات –خارج حدود الزمن والتاريخ والنزعة الإنسانية الأولية في تصور الكون، فالسارد يسائل واقعه ودرجة حضوره – كإنسان – في العالم وفق المراحل التكوينية المتجاورة والمتضادة أحياناً في لحظات زمنية خارج حدود الاسترجاع والاستباق

وحدود المنظور – في تطور كل شخصية على حدة - فهو كالهواء الذى يحيط بهذه المراحل دون أن يهيمن عليها أو يرصدها رصداً دقيقاً، لأنه جزء من تطورها وتفاعلها الخاص. إن السارد هنا يعاين تجربة الاختفاء بوصفها مادة للحياة. تلك التجربة تولد وعياً جديداً أكثر قوة وبروزاً رغم هامشيته – بوحدات سردية تمثل طفرات نوعية للشخصية، تسخر من مفهوم السرد نفسه، حيث تتلاشى وحداته في غياب منطق الحضور للسارد وشخصياته على حد سواء – يطرح النص إذا – إشكالية وجود معنى أو مدلول لحياة (مايكل ك) في رواية (حياة وزمن مايكل ك – كوتزى ت – محمد يونس – دار الهلال سنة 2003) أو (إليزابيث كاستيللو) في رواية بالعنوان نفسه ضمن (تدريب على استلام الجائزة – كوتزى – ت / أحمد الشافعى – أخبار الأدب 2003). إننا نكتشف معارضة التجربة الوجودية عند كل منهما لأى مدلول تطوري واحد، فالحياة هى تلك الممارسة الجمالية التى تستعصي على أي تأويل سلبي، فزمن (مايكل ك) يقع كالخط الملتوي، المتمرد على فضاء لوحته التعبيرية – من التجربة الإنسانية أو الكونية الشمولية، إنه يخص مايكل وحده، وآثاره الجمالية في المؤلف والقارئ.لابد إذا –من نسب الزمن إلى مايكل، وإلى مفهوم لا زمني يقع في وعى الراوي أيضاً. إن حياة (مايكل) تتولد في فضاء تخيلي يحقق لذة (الاختفاء) في الواقع دون أن تكون أسطورية تماماً، إذ يسعى النص إلى تحقيق واقع فائق يقوم على انتشار أشكال عديدة من الوعي البشرى وعلاقته بمفردات الكون كعلامات رمزية للتحول. هكذا تمتد الكتابة بوصفها حدثاًً رمزياً في وعى ولا وعى (إليزابيث)، وتستحيل إلى ظواهر فريدة للتطور، فتأتى على هيئة صرخات ليلية غير مبررة داخل (إليزابيث) أو تمردها الوجودي على أبنائها، وكأنهم ينهشون جسدها، أو إحالة الواقع إلى مسرح أو سيرك عبثي بين بشر وقرود أو العكس، فهل التهمت الكتابة قاعة تسليم الجائزة، إلى حد إنكار وجود ذات تتحدث؟ لقد أصبحت الكتابة فعلاً لا إرادياً، وتحركت من الوعي إلى الواقع ثم صارت صوتاً للمؤلفة. هل كان تطور (مايكل) تدريباً على الحياة؟ أم مجرد إحالة إلى مفهوم تدميري للسيطرة على الحضور مثلما هو الحال عند (إليزابيث) من داخل إرادة التعلم؟. يرى (ديريدا) أن المرء لا يمكنه أبداً أن يتعلم الحياة – مع ضرورة ذلك – إلا في منزلة بين الحياة والموت – تجسدها كينونة جديدة تحيا حياة الشبح ولا يمكن تعيينها أبداً، لأنها عابرة وتقع خارج منطق التسلسل الزمني (راجع – ديريدا – أطياف ماركس – ت/ د / منذر عياشى – مركز الإنماء الحضاري بسوريا سنة 1995 من صـ 17: صـ 20). هكذا يحتفي كل من مايكل وإليزابيث والسارد باحتمالات الاختفاء ونزعاته الوجودية والانفعالية، كطريقة لممارسة الحياة وتعلمها في آن، فهو شرط للتعلم والخروج من قهر الشمولية معاً، ومن ثم تصير مؤسسة منح الجائزة لإليزابيث مسرحاً للواقعية والخروج الساخر منها، فهى في وعى الكاتبة – البطلة – إحدى انحناءات اللاوعي الجماعي وجماليته العبثية والبدائية، فالمؤسسة تحمل دلالة السيرك مختلطة بالوحشية الحيوانية في انفصالها عن الإنسان، وكأن القرود تنتشر بالفعل في القاعة كواقع فائق يسخر من الواقع الأول. أما مايكل فيحمل هيئة الأفراد المتشابهة في معسكرات العمل بينما يتمرد تكوينه العضوي ووعيه على اختزاله في هذه الهيئة فيمارس الحياة وفق رغبة بدائية مزدوجة بين التحول لحشرة لها صفات الشبح من حيث الاختفاء والبروز المفاجئين من ناحية والتهام الحشرات والحبوب وجذور الأرض من ناحية أخرى.
وكأنه يؤكد حضوره الخفي من داخل الأرض، من دون أن يهيمن عليها إن (مايكل) ينتج الحياة من مفردات الأرض المصمتة، فيجمع بين مراوغة الشبح وصلابة الأرض وليونة الحشرة، وقد يطغى وجود أحد العناصر في هذا الامتزاج الكوني فيشكل الوعي واللاوعي في هيئة ظاهرية جديدة تعيد رسم العالم بين الموت والحياة فرماد أمه يزدوج بصور الحياة مثل الزهور والأشجار، ليحقق جماليات أخرى للاختفاء في وعى (مايكل). إن صرخات (إليزابيث) تمتزج بالنيران التى احترقت فيها صورة الأم كمركزً لوجود (مايكل)، فتولد منها حياة أخرى للكتابة عند إليزابيث، وظواهر وجودية حاملة لآثار النص ما بعد الحداثي في وعى (مايكل)، حيث يحيا في باطن الأرض وفراغات الكهوف الصغيرة، يبدأ (كوتزي) (حياة وزمن مايكل ك) بالحديث عن خصوصية تكوين (مايكل) ووضعه كمعاق في أيديولوجيا المجتمع، تلك التى تتحول – في حالة الحرب – إلى خيالات بدائية ورمزية تفقدها السمة النظامية التى تختزل الأفراد في مؤسسات فالأشخاص يخرجون كأطياف بلا ملامح ويقومون بعمليات النهب التى تشبه طقوس الصيد البدائية. هكذا ينتحر مجتمع الحرب ثم يحيا في خيالات مايكل وأمه ثم انتشار هذه الخيالات والصور في الآخر اللامتناهي. فمثلما أنتجت صورة احتراق الأم طفرات مايكل السريعة بين النباتات والكهوف، أسست صورته وعى الطبيب فأعاد النظر في وجوده أمام تفرد مايكل، لقد وعى الطبيب بسخرية مايكل من نطاق المعسكرات الإنسانية الخانق، حين أدرك أن فرادة مايكل كامنة في لاوعية وفي الكون أيضاً. إنها البهجة الكونية والرمزية لأحلامه اليقظة. ومن ثم كان مايكل موضوعاً خيالياً لإدراك أمه والطبيب والعكس، فعقب انفصال مايكل عن أمه في مؤسسات المجتمع، عانت من مرض مزمن في الرئة فكانت تعيش في غرفة صغيرة تحت سلم آل بورمان، وقد رسمت عليها عظمتان باللون الأحمر. ثم تزامن هذا مع هرب مايكل قبل طرده من عمله كبستاني بين المعاقين حينئذ وعى كل منهما بممارسات الحياة دون التفكير في معناها، فحركة الدجاج ونبشه للتراب حول الأم في منشئها في (برنس ألبرت) قد أعادت إيجاد صورتها الأخرى التى تتعلم بالفعل أن تحيا خارج أوهام المرض البيولوجي، أما (مايكل) فقد رأى صورة كوخ أبيض ناصع – في زمنه التطوري الآخر – يتوسط الأشجار وتقف فيه أمه مبتسمة، وكأنه قيمة الرحلة ومعناها الذى يشير إلى مجرد الممارسة الفنية للحياة. لقد انحرف(مايكل) بقصد في هذه اللحظة عن خصوصية اتجاهه الوجودي في اتجاه الصورة وظهورها الشكلي المجسد لحركة الحياة فعندما رأت أمه شرائح لحم الخنزير في أحد المطاعم قالت لم يعد الناس يأكلون هذه الأشياء، فكان رده أن الخنازير والأنانس وغيرها لا تعرف الحرب، فلابد أن تنمو وتؤكل. لقد حمل (لا وعى) مايكل دلالة أخرى تناهض مسألة الأكل، فالظهور الجمالي لا يعنى كثيراً بمنطق الإنسان التقليدي الذي يصنع لكل شئ قالباً مدلولياً. هذا الظهور يتوحد بالهواء وفضاء الوعي المدرك القابل للتحول والاختفاء المماثل. ألا يفسر هذا الأمر انصراف (مايكل) عن أكل اللحوم؟. فقد اندفع بقوة بدائية إلى قتل ماعز برية ثم دفنها، وفقد لذة الصيد وطعم اللحوم واتجه إلى أكل الحشرات والنباتات وجذور الأرض عقب تمرده على الطوطمية الحيوانية والرموز الكبرى في لا وعيه. يلتهم مايكل – إذاً – النباتات والحشرات ويكتسب سماتها في الوقت نفسه في حركة من البناء والهدم المستمرة للصور، لإنتاج حالة بينية جديدة هى حالة الاختفاء والوعي المصاحب لها معاً. تلك هى حياته وصورته الأخرى التى حولت وعى السارد وإدراكه لهذه الصورة الفريدة من الإنسانية. فقد أدرك هذا الوعي صيرورة الجسد من اللحم والدم إلى عصارة بيضاء، تندمل جروحها بسرعة في متخيل مايكل وواقعه الجديد داخل اللوحة الكونية، يصاحبه خدر تأملي لذيذ، ولا ينظر إلى شئ بعينه من فتحة الكوخ المظلمة. أما الزمن فيسيل كالزيت دون أن يشعر به في موقع الأرض. هكذا ترسم صورة مايكل عدداً من الدلالات الثقافية الجديدة في وعى ووجود المتلقي منها.
1- يعيد مايكل تكوين وجوده من خلال صور سريالية جديدة تتمرد على منطق الحلم، وذلك من خلال تحريك واقع فعلى يشبه واقع المؤلف والمتلقي. فأكل مايكل للجراد والنمل والجذور وحياته في موقع مشابه لها يعيد – واقعياً – رسم لوحات سريالية مثل لوحة الخريف يأكل نفسه لسلفادور دالي حيث انقسام الشخص في هذه العملية وامتداده من الأرض دون نهاية حيث يحيا (مايكل أيضاً) في هذه العملية من التبادل الأرضى ويعيد إلى الذهن حياة الحشرات الممتدة من خلاله.
2- لم تكن حياة مايكل خطية أو تنتمي إلى أي من مجالات الأيديولوجيا المؤسساتية أو السياسية، ولكنها امتدت وتفتتت في مراحل متجاورة أو في انحناءات تجسد الحياة مع الاختفاء من المجتمع والمعسكرات، وكأنها تعيد إلينا الوعي بالزمن عند جان بودريار حيث تلتقي المراحل المختلفة دون منطق واحد للتطور. هكذا يستعصى مايكل على التأويلات الطبقية والأيديولوجية والسيكولوجية التقليدية Baudrillard / on the web- reversion of history.
3- يؤسس وعى مايكل لخيالات تقوم على الالتفات إلى الأرض وما تحويه من ديناميكية حركية للصورة وللحياة، وكأن مايكل يحيا من خلال ما هو أرضي وغير ظاهر ثم يبدأ رحلته من قطرة ماء في جوف الأرض من دون أن يستسلم للموت.

عن موقع الحوار المتمدن