السنباطي وقاهرة العشرينيات

السنباطي وقاهرة العشرينيات

كانت بداية النزوح إلى القاهرة تلك الرحلات القصيرة التي تعرف فيها على أهل الفن بواسطة أبيه ، والمسارح التي شاهد فيها (منبرة المهدية) وهي تمثل وتغني و (فتحية أحمد) تملأ دنيا الطرب و( نادرة الشامية ) تهز الناس بجمالها وصوتها و(صالح عبد الحي) العريق بفنون الطرب و (عبد اللطيف البنا) الذي كان سيد الغناء و الأصوات ..

لقد أدرك أن مكانه بين هؤلاء وليس في المنصورة ، وهكذا قرر بينه وبين نفسه الهجرة إلى القاهرة في أول فرصة مناسبة ، وكان عليه أن ينتظر عامين قبل أن تسنح له الفرصة . ففي عام 1930 أعلن معهد الموسيقى العربية في القاهرة عن مسابقة في الغناء ، تتيح للفائز فيها أن يدرس الموسيقى وأصول الغناء على نفقة المعهد وكان رياض آنذاك في الثالثة والعشرين من عمره ، فتقدم مع المتقدمين وفاز بالجائزة الأولى بعد أن أذهل اللجنة الفاحصة بعزفه و غنائه ، وعلى أثر هذا الفوز و نتيجة للإختبار الشديد الذي تعرض له رياض عزف على العود ، قرر مجلس إدارة المعهد قبول رياض طالباً في المعهد بقسم الغناء ومدرساً لآلة العود لطلاب السنة الأولى.
يقول رياض السنباطي:
جئت إلى القاهرة وتقدمت إلى إمتحان معهد الموسيقى العربية ، وخرجت أنتظر النتيجة ..ثم كانت المفاجأة ، أنني لم أنجح كتلميذ بل قبلتني اللجنة كأستاذ للعود في المعهد...".
كانت النتيجة أكثر مما يحلم به فالمعهد لن يكتفي بتغطية نفقات دراسته فحسب ، بل سيعطيه راتباً لقاء تدريس العود، سيسد به دون شك جانباً كبيراً من نفقات إقامته في القاهرة ، التي تتطلب مصاريف خاصة لا طاقة له بها ، وكان تأثير الأستاذ حسن أنور الذي أعجب بعزف رياض وغنائه عاملا كبيراً في قرار تعيينه أستاذاً لآلة العود في المعهد المذكور .

لقاء السنباطي بمدحت عاصم
إهتم رياض خلال دراسته في معهد الموسيقى العربية بالتدوين الموسيقي إهتماماً كبيراً. حتى أن الفنان السوري المعروف جميل عويس الذي كان مدرساً للتدوين ومعلماً لآلة الكمان قال عندما أعياه إلتهام رياض لهذا الضرب من العلم الموسيقي :
" لم يبق عندي ما أعلمه لهذا الشاب.!
أما الأديب حسن أنور (وهو المشرف على فرقة الموشحات ) فقد أسند إلى رياض مهمة قيادة فرقة الموشحات بعد أن إكتشف معرفته الواسعة لعشرات الموشحات وإتقانه المطلق لمختلف ضروبها وأوزانها ، إضافةً لفن الدور الهام والأساسي في الحفلات الغنائية . كل هذا بعد أشهر من إنتساب رياض للمعهد.
ويقول رياض السنباطي عن سبب إسناد أمور هذه الفرقة إليه ما يلي:
"...إن الموسيقي الذي علمني فن الموشحات والأدوار وجعلني أحتل هذه المكانة في المعهد هو المرحوم والدي ،أما الأستاذ حسن أنور فأدين له بالفضل لأنه عرف كيف يجعلني أستفيد من المعلومات التي أعرفها وأضعها في الموضع الصحيح".
ولكن هل كانت إنطلاقة رياض الفنية من المعهد الذي إنتسب إليه ، وأصبح فيه خلال فترة قصيرة مدرساً بارزاً؟! الجواب على هذا نجده عند الموسيقار الكبير مدحت عاصم الذي قال عن بدايات معرفته برياض مايلي:
".... جاء السنباطي إلى القاهرة في نهاية العشرينيات ، وتعرف عليه في الطريق ..كان بصحبة المطرب محمد الصادق ودفعني الفضول لأن أشترك معهما في الحديث ، فقد كان حديثهما عن الموسيقى ، لذا إعتبرت نفسي طرفاً في الحديث ، وطال بنا الحديث وإمتد حتى إنتقلنا إلى بيت السنباطي ، وكان الوقت بعد العشاء ،وظللنا تلك الليلة ننهل من عزفه حتى الصباح . وبعد يومين إتصلت بالمسؤول في شركة إسطوانات "أوديون" وهو يهودي مصري يدعى (ليتو باروخ) وطلبت منه الإتفاق مع فنان موهوب على تلحين عدد من الأغاني لعدد من المطربين و المطربات فقبل وإتصل به وإتفق معه على تلحين عدد من الأغنيلت لكل من نجاة علي ، أحمد عبد القادر ، محمد صادق وعبد الغني السيد .
إن( ليتو باروخ) لم يأخذ برأي مدحت عاصم إلا بعد أن إستمع للسنباطي نفسه وهو يغني من شعر علي محمود طه قصيدة "يامشرق البسمات أضيء ظلام حياتي".
تقول السيدة حورية المانسترلي إبنة حسين المانسترلي مدير شركة بيضافون للإسطوانات ما يلي :
"أول لحن سجله السنباطي بصوته عند قدومه للقاهرة كان لشركة بيضافون في موسم الحج وكانت أغنية "إمتى نعود يا نبي" بالإضافة إلى عدة أغنيات لقاء أجر قدره جنيه واحد للإسطوانة وكان يتقاضى نصف جنيه مقدماً والنصف الثاني عند إنتهاء التسجيل ".
هذا القول للسيدة حورية المانسترلي لا تؤيده الوقائع إذ من المعروف أن أغنية "إمتى نعود يانبي" المعروفة بإسم "عودة الحجاج" سجلت بصوت المطرب أحمد عبد القادر لحساب شركة أوديون ولا يوجد تسجيل آخر لها بصوت السنباطي ، وربما كانت السيدة حورية تقصد بقولها أغنية أخرى سجلها السنباطي فعلاً لحساب شركة بيضافون ، وإذا إفترضنا أن قول السيدة حورية صحيحاً، فهو يناقض قول مدحت عاصم الذي سعى إلى عقد إتفاق مع (ليتو باروخ) مدير شركة أوديون الألمانية للإسطوانات ، لتسجيل ألحان عبد القادر ونجاة علي و عبد الغني السيد ومحمد صادق منذ أواخر العشرينيات ، وهذا التاريخ يسبق إنتساب السنباطي لمعهد الموسيقى ، فإذا أضفنا إلى هذا أن الأغنية المذكورة ظهرت قبل لقاء السنباطي بأم كلثوم عام 1934 وهو العام الذي بدأ يلحن فيه لأم كلثوم ، فنستطيع أن نؤكد وقف ألحانه منذ عام 1930 على شركة أوديون دون غيرها ، وإستمر في ذلك حتى منتصف الأربعينيات ، وعندما أخذت أم كلثوم تسجل ألحانه على إسطوانات شركة كايروفون التي أسسها محمد عبد الوهاب الذي كان قد أوقف ألحانه على شركة بيضافون .
وزيادة في الإيضاح ، لتبرير التناقضات حول العقود مع شركات الأسطوانات ، كان الملحن يعقد إتفاقاً مع أحد الشركات على عدد من الألحان فإذا إنتهى من تسجيل الألحان المطلوبة أصبح العقد لاغياً ، وبالتإلى يحق للملحن إما تجديد العقد إذا إرتأت الشركة ذلك، أو يتعاقد مع شركة أخرى ، ومن هنا كان إتفاق السنباطي مع شركة بيضافون محدوداً ، وإنتهى بنهاية تسجيله الأغنيات المطلوبة منه ، وماحدث بالنسبة لشركة بيضافون ، وقع له مع شركة أوديون التي عادت ووقعت عقداً جديداً بعد إنتهاء عقده مع بيضافون.