أولى ألحان السنباطي التي ظهرت قبل إنتسابه لمعهد الموسيقى العربية في العام 1930 لاتزيد كثيراً عن أصابع اليد الواحدة ، ولكنها لفتت الإنتباه مع قلتها إلى الوافد الجديد على دنيا الطرب ، فغنى له عبد الغني السيد مونولوج (عذابي يا منايا) وقد غناه السنباطي فيما بعد ، وكذلك غنت له المطربة نجاة علي لحنين من ألحانه.
يقول الأستاذ جبرائيل سعادة في الكتيب الخاص الذي وضعه خاصةً عن السنباطي ، ونشرته مجلة الضاد السورية حول العقد الذي وقّعه السنباطي مع شركة أوديون مايلي:
"...حدث أن مدير شركة إسطوانات أوديون سمعه في أول لحن له ، وهو الذي وضعه لقصيدة من تأليف (علي محمود طه) مطلعها "يا مشرق البسمات أضيء ظلام حياتي " فأعجب به ، وعهد إلى الملحن الناشئ بتلحين بعض الأغاني الخفيفة ، لعدد من المطربين أمثال : نجاة علي و أحمد عبد القادر و عبد الغني السيد و محمد الصادق.."
هذا القول للأستاذ جبرائيل سعادة يتفق مع ماذهب اليه الموسيقار مدحت عاصم وإن إختلفت الصورة في بعض ملامحها ، وإتفقت في مضمونها عموماً ، وإلتقت في الوقت نفسه مع ما رواه السنباطي حول هذا الموضوع عندما قال:
".... ثم بدأت أتحسس طريقي في القاهرة المزدحمة والمتخمة بالعازفين والمغنين و الفنانين ، حتى سمعني مدير شركة أوديون حينئذ و أنا أغني أول مقطوعة لحنتها بنفسي وكن مطلعها (يا مشرق البسمات أضيء ظلام الليل ) وهي من تأليف الشاعر العاطفي الكبير علي محمود طه ، فعهد إلى بتلحين بعض الأغاني الخفيفة لشركته ، ولحنت حينئذ لأحمد عبد القادر طقطوقة (إن حكيت بتضحكي وإن شكيت بتشتكي) ولعبد الغني السيد (دلالك في الهوى).
إنصرف السنباطي منذ ذلك الوقت إلى التلحين وفي الوقت نفسه أخذ يتصل بالملحنين الذين كانوا يلحنون لمنيرة المهدية و نادرة الشامية وفتحية أحمد ونعيمة المصرية وحياة صبري وسعاد محاسن و ملك وعقيلة راتب ويشارك في حفلات المعهد الشهرية وفي الحفلات الخيرية الخاصة ، وقد ساعده هذا على ذيوع إسمه و إنتشارة في الأوساط الفنية و غير الفنية ، وإشتهر كعازف عود أكثر من إشتهاره كمطرب و ملحن ، وإذا علمنا أن الأغاني في تلك الفترة الزمنية كانت تضفي الشهرة والمجد على المغني وحده من دون الملحن لأدركنا المعاناة التي كان الملحنون يعانون منها بعيداً عن الأضواء . تقول د.نعمات أحمد فؤاد:
أن كل أمل السنباطي في العام 1928 هو إن يرتفع أجره عن الملحن الواحد إلى عشرة جنيهات.
هذا القول يدل دلالة صريحة وقاطعة على أن السنباطي كان في القاهرة قبل العام 1930 وهو تاريخ إنتسابه للمعهد الموسيقي ، وأن ألحانه بدأت تظهر للناس منذ ذلك التاريخ . وهذا القول يتفق مع ما رواه مدحت عاصم عن لقائه بالسنباطي في أواخر العشرينيات .
مرحلة الثلاثينيات.. فيلم إنشودة الفؤاد
في العام 1929 إتصلت به المطربة نادرة الشامية وطلبت منه أن يشارك في تلحين بعض أغاني فيلم "إنشودة الفؤاد" الذي ستضطلع فيه بدور البطولة إلى جانب الممثل الكبير "جورج أبيض" ويعتبر هذا الفيلم الذي وضع قصته وكتب حواره وأغانيه "عباس محمود العقاد" أول فيلم عربي غنائي ظهر في السينما المصرية . لحن أغاني الفيلم المذكور عدد من مشاهير الملحنين آنذاك ، يأتي في مقدمتهم : الشيخ زكريا أحمد ،داود حسني، د.أحمد صبري النجريدي أحمد الشريف ، رياض السنباطي .
لحن السنباطي في الفيلم أغنية واحدة هي " تتباهى بالدمع يجري من عيني "
تتباهى بالدمع يــجري من عيني وتأسي قلبــك
وكل ما أكتم في سري يفضحني بعدك وصدك
أوصل مسايا بصباحي والبدر يشهد علـــــــــي
وتراعي ذلي ونواحي ما ترحميش ليه عينـــي
إيه يجري او تسعديني بلحظة منك هنيــــــــــه
بالوصل يوم ترحميني بزيارة منك أسيـــــــــه
يا ربي قلبك ياروحــي يجرب العشق فيـــــــه
وتدوقي نار المحبـــــة وترقي لدموع عينيــــه
أجمل ألحان هذا الفيلم كانت لزكريا أحمد ، وقد برز منها بصورة خاصة بيت شعري مسبوق غناءً بكلمة يا ليل من مقام الصبا ..هذا البيت أصبح على كل شفه و لسان و مازال يضرب به المثل في التلحين :
كان الصراع على قمة الغناء بين المطربات عند ظهور هذا الفيلم في العام 1931 على أشده بين منيرة المهدية وفتحية أحمد ، وكانت شهرة أم كلثوم التي بدأت حفلاتها المضطربة في القاهرة منذ العام 1924 تنمو شيئاً فشيئاً في ظل هذا الصراع .
لقد سجل الفيلم عند ظهوره سبقاً سينمائياً وغنائياً لنادرة على زميلاتها ورفع من شأنها ، الأمر الذي دفعهن إلى الإتصال بملحني الفيلم الذين سبق لهم وأن لحنوا لهن الكثير من الأغنيات ، عدا السنباطي الذي لم يلحن لأي واحدة منهن عدا (نادرة) ، فعمدن إلى الإتصال به أيضاً ، وكانت منيرة المهدية المتربعة على عرش الغناء في ذلك الوقت ، السباقة إلى ذلك ، فطلبت منه أن يلحن لها أوبريت ، فلحن لها خلال بضعة أشهر أوبريت "عروس الشرق" التي أحرزت عند عرضها الأول نجاحاً منقطع النظير . ولم يقف الأمر عند منيرة المهدية ، فسارعت فتحية أحمد ومن ثم نادرة الشامية فطلبتا منه تلحين عدد من الأغنيات ، فلم يتوان عن ذلك ، كذلك طلب منه المسرحي الكبير جورج أبيض تلحين أوبريت (آدم وحواء) الذي ستشاركه البطولة المطربة نادرة فأنجزه في وقت قصير ، وكان الأوبريت من تأليف يونس القاضي .
أم كلثوم التي كانت ترقب ذلك الصراع منذ وطئت قدماها القاهرة ، وتهفو إلى القمة إستسلمت لشروط الفنان الكبير الراحل محمد القصبجي ، وأسلست له قيادتها منذ عام 1925 ( أي قبل وفاة أبي العلاء محمد بعامين) ونفذت ما طلبه حرفياَ ، وأنفقت في الحدود التي تستطيع ، فإستبدل القصبجي فرقة المنشدين بفرقة موسيقية(تخت شرقي ) قوامها أعلام العازفين آنذاك (محمد العقاد الملقب بالكبير على القانون ، سامي الشوا على الكمان ، محمد القصبجي على العود ، محمود رحمي على الإيقاع ) وإنتقى النخبة من الملحنين ، منهم من سبق ولحن لأم كلثوم كالشيخ أبي العلاء محمد والدكتور صبري النجريدي و داود حسني و ومنهم من كان يتوق للتلحين لها كالشيخ زكريا أحمد و محمد القصبجي نفسه ، وإختار لها مسرح (دار التمثيل العربي ) عوضاً عن الصالات العادية التي كانت تغني بها قبلاً ، كصالة (البوسفور) و صالة (سانتي) و كان مسرح (دار التمثيل ) وقفاً على المطربة منيرة المهدية ، ولكن القصبجي إستطاع إغراء صاحب المسرح الذي وقع مع أم كلثوم عقداً طويل الأمد .
ومنذ شهر تشرين الأول/أكتوبر/ عام 1926 بدأت حفلات أم كلثوم تستقطب الجمهور ، وصوتها الساحر ينتزع الإعجاب ، على الرغم من حملات الصحافة المغرضة المركزة التي أسعرتها ضدها سيدات الطرب عن طريق المرتزقة المحررين منذ العام 1929 حين بدأن يشعرن بخطر تلك المطربة الشابة التي أخذت تصعد نحو قمة الغناء ، وتزاحمن من وراء فنها الذي تتقن وعمالقة التلحين والعازفين الذين يرفدونها بروائع الألحان والأداء.
محمد عبد الوهاب في الطرف المقابل ، لم يجابه ما تجابهه أم كلثوم من مقاومة ، فموت سيد درويش المبكر في العام 1923 وخلو الساحة من المطربين القديرين إلا من الشيخ أمين حسنين و صالح عبد الحي ، جعله بمساعدة شوقي يتربع على قمة الغناء ، دون أن يهتم كثيراً بشهرة أمين حسنين و صالح عبد الحي و محد بخيت و البنا والمطربين الآخرين من الناشئين ، كمحمد صادق وعبد الغني السيد وعبده السروجي و أحمد عبد القادر . كما أن صداقته لمنيرة المهدية وتمثيله معها أوبرا كيليوباترا(2) التي أسهم في تلحينها ، إلى جانب علاقته الوطيدة بسائر المطربات والملحنين ، وما يملك من صوت جميل و خيال موسيقي خلاق.. كل هذا جعله بمنأى عن الصراع ، فإذا أضفنا إلى هذا علاقته الجيدة بالبشاوات التي أتاحها له راعي موهبته أحمد شوقي لعرفنا سر قوة محمد عبد الوهاب و مكانته التي أقامها أساساً على موهبته الشابة المتفتحة و على علاقاته الشخصية ، والتي كرست كل شيء لخدمة فنه الكبير منذ منتصف العشرينيات ليجد نفسه في قمة الغناء دون أن يمر كثيراً بالعناء الذي مر به الأعلام الكبار الآخرون.