لقاء السنباطي بأم كلثوم

لقاء السنباطي بأم كلثوم

اختلفت الروايات عن اللقاء الثاني الذي تم بعد خمسة عشر عاماً مضت على اللقاء الأول الذي يقول السنباطي:
"لم يكن أول لقاء بيننا في القاهرة ، بل كان ذلك أيام طفولتنا ، ومازلت أذكر تفاصيل هذا اللقاء .. كان في ليلة ممطرة في محطة سكة الحديد الدلتا في قرية "قرين" بمحافظة الدقهلية . وكانت أم كلثوم تضع فوق رأسها عقالاً عربياً ، وترتدي معطفاً من وبر الجمل ،

وقد وقًَفَتْ بين أبيها وشقيقها الشيخ خالد ، وكانت أم كلثوم ترتعد من شدة البرد، وإندمج والدي مع والدها في حديث عن الغناء والحفلات ، بينما تجاذبنا أطراف الحديث ، حتى وصل القطار الذي كان مزدحماً بالركاب وترافقنا في القطار ، ثم إفترقنا بسبب الزحام..."
يقول الأستاذ شفيق نعمت عن اللقاء الثاني الذي تم في القاهرة بين أم كلثوم والسنباطي ما يلي:
"كان رياض في الثلاثين من عمره ، وكانت أم كلثوم قد سمعته في أغنية مُذاعة من ألحانه عنوانها "يا ريتك حبيتني زي ما حبيتك" وعندما أعجبت باللحن طلبته هاتفياً ، وحددت له موعداً لزيارتها في منزلها ، وكان لقاءً جميلاً بعد هذه السنوات ،عرضت فيه أن يلحن لها فرحب بالعرض ، وكان في منتهى السعادة ، وسلمته كلمات أول أغنية نظمها لها من نظم "أحمد رامي" ومطلعها "يا طول عذابي و اشتياقي ".
أما الأستاذ جبرائيل سعادة فينقل عن نور الهدى ما سمعه منها عن هذا اللقاء:
"كان رياض يومذاك في مقر شركة أوديون للأسطوانات ، يقوم بتسجيل أغنية كان قد لحنها لينشدها بصوته ، هي أغنية (على بلدي المحبوب ودّيني) وإذا بأم كلثوم تحضر إلى المكان لأمور تتعلق بتسجيل أغاني فيلم (وداد) الذي كانت تقوم بتمثيله فأسمعها مدير الشركة الأغنية التي كان السنباطي قد سجلها فأعجبت بها كل الإعجاب وأبدت رغبتها في استخدامها في فيلم (وداد) وقد غنتها فعلا في الفيلم المذكور ".
شيخ الملحنين زكريا أحمد يروي في مذكراته عن هذا اللقاء مايلي :
"..كنا في بيت أم كلثوم أنا والقصبجي ، عندما جاء لزيارة أم كلثوم السيد باروخ مدير شركة أسطوانات أوديون وفي هذا اللقاء أدركت أن ملحني أم كلثوم أصبحوا ثلاثة :السنباطي ، القصبجي و أنا.....".
إذا ما ناقشنا الأقوال المذكورة آنفاً على أساس الواقع الثابت الذي لدينا ، لوجدنا أن ما ذهب اليه زكريا أحمد يتفق مع الواقع ، على الرغم من أنه لم يحدد تاريخاً معيناً .. قد تكون أم كلثوم أُعجبت بلحن السنباطي لأغنية (يا ريتك حبيتني زي ما حبيتك) الذي غنّاه أحمد عبد القادر ، وأن تكون إتصلت به هاتفياً و غير أن الزيارة التي تحدث عنها شفيق نعمة مشكوك فيها كأول زيارة،لأن الزيارة الأولى تمت في العام 1932 ، بينما الأغنية التي أعجبت بها أذيعت في الأذاعة في العام 1934 ، كذلك الأمر بالنسبة لمونولوج " ياطول عذابي" الذي ظهر أول ما ظهر في العام 1941 ، وهو تاريخ بعيد جداً عن العام 1934 الذي تم فيه ذلك اللقاء ، وعلى هذا فإن كل الذي أورده الأستاذ شفيق نعمة غير وارد على الإطلاق ، أما نور الهدى التي روت ما روت عن ذلك اللقاء فلاتستقيم روايتها مع الوقائع ، فهي لم تذكر أن اللقاء قد تم بينهما ، وإنما قالت أن أم كلثوم إستمعت إلى تسجيل أغنية (على بلدي المحبوب بصوته) وأنها أعجبت باللحن وأبدت رغبتها في إدخال الأغنية في فيلم (وداد) بينما في واقع الحال لم تعجب باللحن، والأغنية كانت مدرجة في الفيلم الذي تم إنتاجه عام 1935 ، كما أن السنباطي لم يسجل هذه الأغنية بصوته إطلاقاً ، وإنما سُجلت أول ماسُجلت بصوت المطرب عبده السروجي ، ومن هنا تبين لنا أن ماذهبت إليه نور الهدى لم يكن صحيحاً ، والشيء الوحيد الصادق في هذه الواقعة هو لقاء السنباطي بأم كلثوم كما ذكر السنباطي نفسه ، وهو الشيء الذي لم تشر إلىه نور الهدى في روايتها ،إذ يقول في اللقاء الذي أجرته معه مجلة المجلة مايلي:
"...كان اللقاء في العام 1932 في مقر إحدى شركات الأسطوانات، وكان إسمها أوديون وكانت هذه الشركة تحتكر أغاني أم كلثوم ، فعهدت إلى بتلحين (النوم يداعب) ورحبت أم كلثوم بأن أُلحّن لها بعد أن إستمعت إلى الأغنيات التي لحنتها قبل ذلك.."
وفي حوار قديم أجراه معه ( يوسف شهدي) عام 1954 حول لقائه بأم كلثوم يقول السنباطي :
" سمعتها كما سمعها الملايين ، وعشقتها كما عشقها الملايين ، إلى أن جاء من يقول لي أن ثومة سمعتك في الإذاعة وتريد رؤيتك ، وكنت في ذلك الوقت ممتلئاً بالحماسة وفي رأسي أنغام وموسيقى لا تجد لها متنفساً ، ولا أعثر على من يغنيها ... ولم أكن أتصور إنني بعد مجيئي إلى القاهرة بفترة قصيرة سأقوم بالتلحين لكوكب الشرق ..لأم كلثوم نفسها.. ولكن أم كلثوم قدمت لي أغنية ( النوم يداعب عيون حبيبي) وكلفتني بتلحيتها فلم أتردد ، وكانت تلك أول قطرات الغيث ، فقد لاقت نجاحاً كبيراً ، ومن يومها وأنا أسكب في أغاني ثومة ، عصارة فني وروحي ، لحنت لها قصائد ومونولوجات وأناشيد وطنية ، وكان كل منها يختلف عن اللحن الآخر روحاً ومعنى..."
دون شك رواية السنباطي عن هذا اللقاء الذي لم يحدد له تاريخا معيناً هي أصدق رواية، لأنها جاءت من صاحب السيرة نفسه وهو في أوج عطائه، كذلك فإن ما رواه زكريا أحمد عن الزيارة السنباطي الأولى لأم كلثوم يعتبر أكثر من صادق ، لأنها جاءت من مذكرات رجل لم يزاحمه أحد على مجده ، والمذكرات الشخصية مهما كانت متمبزةً عاطفياً تكون دائماً صادقةً ، ويتجلي صدق زكريا أحمد في تصنيفه للملحنين الذين ستستعين بهم أم كلثوم في تلحين أغانيها عندما فال:
"... وفي هذا اللقاء أدركت أن ملحني أم كلثوم أصبحوا ثلاثة :السنباطي ، القصبجي و أنا ..".
وقوله يعني أن السنباطي غدا الملحن الأول ، ومن ثم القصبجي فزكريا أحمد . ومن جهة ثانية يؤكد أن زيارة السنباطي الأولى لأم كلثوم تمت بعد لقائه بها في شركة أوديون للأسطوانات الذي ذكره السنباطي نفسه.
ورداً على الأستاذ شفيق نعمة أيضاً حول إتصال أم كلثوم بالسنباطي ودعوته لزيارتها وإعطائه أغنية (يا طول عذابي) ليلحنها ، يقول السنباطي في حديث أدلى به لمجلة المجلة مايلي :
"...كان أول عمل لي مع أم كلثوم هو أغنية (النوم يداعب عيون حبيبي)، يومها أحضرت لي الكلمات لتسألني رأيي فيها ..كانت لأحمد رامي –رحمه الله- ..راقتني الكلمات ولحنتها ، وكان هذا باكورة ألحاني للمرحومة سيدة الغناء العربي .. ثم لحنت لها أغنية إشتهرت بعد ذلك الوقت (على بلدي المحبوب وديني) ، وبعد ذلك تعمقنا في القصائد الدينية والعاطفية.."
في هذا القول للسنباطي نكتشف أن ماذكره كل من زكريا أحمد و السنباطي حول اللقاء الأول في القاهرة مع أم كلثوم هو الصحيح ، ونكتشف أيضاً أن المطربين والمطربات هم الذين كانوا يسعون اليها ، فأم كلثوم كما يقول السنباطي زارته في البيت لترى رأيه في نص أحمد رامي ، ولتطلب منه أن يقوم بتلحين ذلك المونولوج الرائع كأول عمل جاد بينهما....
يتبين لنا من كل ماسردناه آنفاً ، إن اللقاء الثاني بين أم كلثوم والسنباطي تم في أواخر العام 1932 ، وفي بيتها ، وأنها زارته فيما بعد في منزله لتطلب اليه تلحين (النوم يداعب) . وبالرجوع إلى تاريخ صدور هذه الأغنية مطبوعة على اسطوانات شركة أوديون يتضح أن زيارة أم كلثوم للسنباطي تمت في أواخر 1932 ، وأن الأغنية المذكورة غنتها أم كلثوم في العام 1934 نفسه ، قبل أن تظهر مطبوعة على اسطوانة قياس 30 سم لحساب شركة أوديون في العام 1935 ، ومرة ثانية في العام 1936
عندما تصدى السنباطي لتلحين هذا المونولوج كان يدرك تماماً بأنه يدخل في معركة حاسمة بالنسبة إليه ، فمحمد القصبجي سيد المونولوج على الإطلاق، وقف على القمة بعد روائعه التي أعطى (إن كنت أسامح) (ياما ناديت) (طالت ليإلى البعد) (يا نجم) (فين العيون) ومحمد عبد الوهاب كان يقف على القمة المقابلة بصوته وألحانه وروائعه ، هو الآخر رائع كما في (الهوان وياك معزة) (ياترى يا نسمة) (بلبل حيران) ( مريت على بيت الحبايب) . أما زكريا أحمد فقد أعطى كل نفيس في المونولوج الذي زاحم فيه ما أعطاه زميلاه، ولعل أبرز مونولوج غنته له أم كلثوم في تلك الفترة هو مونولوج (ياما أمر الفراق).
إستفاد السنباطي الذي سبق ولحن عددا من المونولوجات لكل من نادرة و فتحية أحمد وعبد الغني السيد، وأحمد عبد القادر من تجربته الشخصية في تلحين المونولوج وتجربة القصبجي بالذات ، بدءاً من مونولوج (إن كنت أسامح) وإنتهاءً بآخر أعماله في تلك الفترة (يا غائباً عن عيوني) وعني عناية خاصة بأعمال محمد عبد الوهاب التي كانت تختلف عن أسلوب القصبجي ، ومن هنا أثرى تجربته في التلحين ، وعرف كيف يتصدى لتلحين هذا المونولوج وكيف يكرس تجارب الآخرين لخدمة فنه ، فأغنى بإبداع كبير المونولوج المذكور باللوازم الموسيقية المشرقة الحديثة في كل شيء وبالجمل الموسيقية التي قطع بها صدر البيت وعجزه، وبين الكلمة والكلمة في بعض الأحيان دون إعادة أو تكرار- كما فعل غيره – وسخّر أحرف المد الصوتية الثلاثة في التلحين ليستفيد من طاقة أم كلثوم الصوتية ، وخلق تبايناً إنسجامياً بين قرار صوت أم كلثوم و جوابه في المحط المقامي ، وبين اللوازم الموسيقية التي جاءت في جوابات قرار صوت أم كلثوم ، وفي قرارات جواب صوتها أيضاً ، من خلال التوافقات البليغة في كل قفل غنائي ، واستخدم ما يعرف بالغمز على الأوتار لأول مرة في تاريخ الغناء العربي – بيزيكاتو – بصورة يبدو معها اللحن و كأنه خلفية هارمونية لمد أم كلثوم الصوتي الذي أتاح للحن أن يطفو على السطح شيئاً فشيئاً ، حتى أشرق لامعاً بعد أن استقر صوتها على القفل المثير في غنائها:
و الأداء الكلثومي للحن كان أكثر من شاعري ، وهو دون شك أنهك السنباطي حتى إستطاع أن يلقنها إياه لصعوبته ودقته ، إذ من المعروف عن مطربينا ومطرباتنا عدم إجادتهم لقراءة التدوين الموسيقي لجهلهم ماهية النوتة الموسيقية حتى الآن ، ويمكن إستثناء من المطربين و المطربات الذين يجيدون العزف والقراءة الصولفائية كـ مطربة العواطف "ملك" التي كانت تلحن لنفسها ، وتقدم حفلاتها الشهيرة في مسرحها في القاهرة في يوم السبت الأول ، و"بهيجة حافظ" التي كانت تجيد العزف على البيانو ، وتملك صوتاً جميلاً ، ولكنها فضلت إحتراف التمثيل على الغناء ، بسبب جمالها وهوايتها و "يولاند أسمر" المعروفة في القطر العربي السوري بإسم "بسمة" و المطربة الشهيرة "فيروز" التي تعلمت الصولفيج في الكنيسة المارونية التي كانت تتردد عليها . وعدا هؤلاء كان جميع المطربين والمطربات لا يعرفون شيئاً عن التدوين الموسيقي ، ناهيك عن قراءته كلحن غنائي ، الأمر الذي كان يدفع الملحنين إلى تحفيظ المطربات والمطربين الألحان التي وضعوا ، وقد ظلت هذه الطريقة هي السائدة حتى منتصف الخمسينيات ، ومن ثم إستبدلت بأجهزة التسجيل ، بعد إنتشار أجهزة التسجيل على نطاق واسع ، وغزوها للحياة الموسيقية ، فصار الملحن يسجل الأغنية بصوته وعلى عوده ، ويرسل بها إلى المطرب أو المطربة ، ليتم حفظه كما جاء بصوت الملحن على الشريط المسجل . وعندما تنتهي عملية التحفيظ بهذه الطريقة يشرف الملحن على التمارين مع الفرقة الموسيقية ، فيضع اللمسات الأخيرة ليضفي على اللحن مزيداً من الجمال ، قبل أن يظهر بصورته النهائية .
في العام نفسه الذي وضع فيه أول ألحانه لأم كلثوم ، تخرج من المعهد ، وفي الوقت نفسه إحتفظ بوظيفته كمدرس لآلة العود . وفي حفلة التخرج قدم لأول مرة معزوفة إستهل بها وصلة الغناء الشهرية ، هذه المقطوعة كتبها بقالب اللونغا التراثي من مقام النهوند وقد عرفت فيما بعد بإسم "لونغا رياض" نسبةً اليه.
كانت هذه المقطوعة مفاجأة لأساتذة المعهد وللجمهور الذي حضر الحفلة ، إذ برهن من خلالها على طول باعه في الأعمال التراثية ، وأنه يمكن للفنان الواعي لفنه يتحدث من وراء القوالب التراثية بلغة عصره ، وهذا ما فشل فيه معاصره محمد عبد الوهاب في السماعيات التي ألّف ، والتي ظل يدور فيها بلغة الماضي ، واللونغا كعمل فني دقيق وخفيف ومرح وذي إيقاع ثنائي سريع ، تتطلب مهارة خاصة في التأليف ، ولا أعرف لونغا واحدة منذ ولادة "لونغا رياض" إستطاعت أن تثبت وجودها وأن تتحدث بلغة العصر وأن تدعم هذا الفن سوى أعمال ضئيلة كـ "لونغا نهاوند" لعبد العزيز محمد و "لونغا فرح" لممدوح السمّان و "لونغا عجم" لجميل عويس و"لونغا راست" لمحمد عبد الكريم .
دخلت لونغا رياض في برامج المعاهد الخاصة والرسمية في كل الوطن العربي تقريباً . وغدت علامة في تخرّج الطالب العازف ، وما تزال هذه المقطوعة الساحرة حتى اليوم تتحدى عامل الزمن لأنها تحدثت بلغة العصر.