جاسم خلف فلحي
يقول اندريه مالرو في أحدى رواياته (ان أعظم الأسرار يتمثل في الألقاء بنا بصورة عشوائية بين فيض الأرض ومدار النجوم ولكنه يتمثل في أننا ونحن داخل هذا السجن نستطيع ان نشكل صوراً لأنفسنا تكفي قوتها لأنكار عبث وجودنا).. ويقول في كتابه المشهور (اصوات الصمت) (لا يكون الأنسان انساناً حقاً الا حينما يسعى لتحقيق أسمى ما فيه والفنون والثقافات الأصلية
تصل الأنسان بالدوام واحياناً بالخلود وتجعل منه شيئاً مختلفاً عن أفضل سكان هذا الكون القائم على العبث. أن كل بطل وكل قديس وحكيم يناضل من أجل الانتصار على القدر الأنساني. وكل فن ما هو الا ثورة على قدر الأنسان).
ولد اندريه مالرو في سنة 1901 وقامت والدته بتربيته وكانت تدير محلاً للبقالة في أحدى ضواحي باريس. وبعد أن أتم دراسته الثانوية التحق بمدرسة اللغات الشرقية وتخصص في اللغة السنسكريتية وأتقن اللغة الصينية ودرس في الوقت نفسه بمعهد الفن والآثار. وعمل فترة قصيرة باحدى المكتبات التجارية بباريس. تزوج من فتاة المانية تدعى كلارا جولد شميت الا أنه انفصل عنها عام 1946 وبعد عامين اقترن بماري مارلو أرملة أخيه غير الشقيق رولاند.
أصدر كتيباً في الشعر اسماه (أقمار من الورق) وفي عام 1933 ضمته الحكومة الفرنسية على رأس بعثة للتنقيب عن الآثار في كمبوديا وقد صحب معه زوجته اذ استغرقت الرحلة ما يقارب العام وسط غابات الهند الصينية وكتب رواية (الطريق الملكي) سجل خلالها تجربته في تلك الرحلة التي استطاع فيها ان يكتشف بقايا أحد معابد البوذية القديمة. في عام 1928 كتب كتاباً بعنوان (الغزاة) وهو اقرب الى التحقيق الصحفي منه الى القصة. وفي عام 1933 أخرج قصته الشهيرة (الوضع الانساني) ونال عنها جائزة جونكور لذلك العام وهي أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية. في روايته هذه صور تجاربه الثورية في الصين وربما اعتبرت من أهم رواياته واشهرها فقد بيعت منها ثلاثمائة ألف نسخة خلال ثلاثة أشهر وأجمع كبار النقاد والأدباء على الأعجاب بها والثناء عليها فقال عنها اندريه جيد (انها تنبض بألم من العسير احتماله) وقال عنها فرانسوا مورياك (هذا شاب يتحرك منذ المراهقة ضد المجتمع في يده خنجر وقد اختار أدمى منطقة في المجتمع الأنساني وهي أسيا ليوجه طعنته فيها لكن انظر أنه موهوب وموهبته أكبر من موهبة أي شاب في سنه) وقال عنها فيليب هندرسن (بأستثناء دستويفسكي وجوركي لا نكاد نجد كتاباً آخر يمكن مقارنته بما في هذه الرواية من عذاب عفيف وعار الى أقصى درجة) وحتى الذين هاجموا الرواية بأعتبارها دعاية شيوعية كالكاتب الأمريكي روبنسن لم يستطيعوا ان ينكروا أنها فن عظيم
والرواية تعنى بحادث اغتيال سياسي يقوم به الشاب الثائر تشن وهو يقتل لأول مرة في حياته. وتنغمس احداث الرواية في جوشنغهاي القلق والتوتر في اجتماعات الثوار وحانات الأثرياء واقسام البوليس وبيوت الثوار والمواطنين. والشوارع تملؤها الأنفجارات وطلقات الرصاص. وقوات الجنرال (شيانج كاي شيك) تتقدم لأحتلال المدينة بعد أن مهد لها الثوار الشيوعيون الطريق حيث قامت هذه القوات بقتل الكثيرين وتحمل الباقين الى معتقلات التعذيب ليموتوا فيها أو ليلقى بهم احياء في مراجل القطارات.
أما اغرب الحقائق في هذه الرواية فهي تفضح استغلال الرأسمالية الفرنسية لموارد الصين والهند الصينية حتى أنها تتآمر مع الجنرال شيانج كاي شيك ضد الشعب الصيني.
في عام 1934 اشترك مع أحد الطيارين في رحلة فوق الجزيرة العربية بهدف اكتشاف عاصمة ملكة سبأ ذات الشهرة التأريخية القديمة.
وفي عام 1935 أصدر روايته (عصر المهانة) وهي هجوم فني مباشر على النظام الهتلري والرواية تعتبر وثيقة خطيرة في تصوير بشاعة المعتقلات النازية واساليب التعذيب الرهيبة المتبعة فيها. وكتب رواية (اشجار التنبرج) وهي عبارة عن ثلاثة اقسام. القسم الأول تقع حوادثه سنة 1940 في أحد السجون في بلدة شارتر بفرنسا والقسم الثاني يصف حياة والده حتى الحرب العالمية الأولى اذ يتم تعيينه في جامعة استنبول ثم مستشاراً للجنرال أنور باشا ثم ليرسل في مهمة الى افغانستان وبعد سنوات يعود الى وطنه.
والقسم الثالث يصور نفسه وهو في سيارة مدرعة حيث يواجه مع رفاقه الموت الحاصر الذي يخرجون منه باعجوبة فينظرون الى العالم تحت ضوء فجر جديد. وعندما اشتعلت الحرب الأهلية الأسبانية انضم مالرو الى الجمهوريين ورغم أنه لم يكن طياراً خبيراً الا أنه قام وحده بخمس وستين غارة على معسكرات الفاشستيين. اسقطت طائرته مرتين واصيب بجروح خطيرة. وسافر بعد ذلك الى الولايات المتحدة الأمريكية وقام بجولة كبيرة بين مدنها من نيويورك حتى هوليود يجمع التبرعات ويحث المثقفين على التطوع في صفوف الجمهوريين وخرج من تلك التجربة برواية اسماها (الأمل) يصور فيها المعارك الدامية في الشوارع وميادين القتال والأبطال الذين استشهدوا ليحولوا بين الفاشستيين وبين الأستيلاء على اسبانيا.
يقول بيير بروران عن هذه الرواية (ان كتاب الأمل يفوق كتاب همنغواي (لمن تقرع الأجراس) بأمتلاء صفحاته بدخان ورماد حرب اشترك فيها المؤلف بصفة بعيدة عن صفة الصحافي).
في الحرب العالمية الثانية تطوع مالرو في سلاح الدبابات وأسره الألمان لكنه نجح في الفرار من معسكرات الألمان وانضم الى المقاومة السرية واشترك في عمليات تفجير السكك الحديدية والجسور. ووقع أسيراً لدى الألمان مرة اخرى وحكموا عليه بالأعدام لغرض الحصول منه على معلومات تتعلق بالمقاومة حيث كان هذا أحد أساليبهم الكثيرة الا أنه لم يفقد تماسكه فما كان من الضابط الا أن صرف الجنود وعدل عن قتله. وظل اسيراً حتى بدأ الألمان بالأنسحاب من فرنسا ولما تولى الجنرال ديغول الرئاسة أصبح مالرو وزير الثقافة في وزارته.
يرى مالرو أن الأنسان منذ فجر التاريخ يميل بطبيعته الى الثورة على الأمر الواقع. وتحسين الحالة الراهنة واكتشاف ما يحيط به من المجهول ولقد كانت الديانات اقوى وسيلة لتهدئة هذا الجموح الطبيعي واطفاء هذا الغليان. ولكن الآن والمدينة الغربية قد بلغت مرحلة لا احترام فيها للعقائد ولا مراعاة لسنن الديانات بل ولا أعتبار للأسس التي قامت عليها هذه المدينة التي أوشكت ان تنهار دعائمها بعد أن طفحت القلوب بالشك في قيمها. الآن ما هو موقف الأنسان والنفس الأنسانية؟
ما هو موقف الفرد الأوربي وغير الأوربي اذا كان من ابناء المدينة الحديثة المتأثرين بتياراتها والمتحررين من كل قيد تقليدي؟ ومن وجهة نظر مالرو فأن الأنسان يقف امام أحد أمرين أما الأستسلام للأمر الواقع واما التعلق بمثل أعلى لخدمة نفسه وخدمة المجتمع البشري والأمر الأول هو طريق الضعفاء ولا يتضمن جمال الأحساس بالقيام بعمل سام والأمر الآخر فهو الطريق الطبيعي لذوي النفوس العالية والأنسانية الواسعة.
وكانت أغلب شخصيات مالرو في رواياته تأخذ الطريق الثاني في المواجهة كما في قصة (الغزاة) وقصة (الوضع الأنساني) فأبطاله لا تكفيهم هذه الدنيا اذا لم تمنحهم الفرصة لانفجار كل نواحي الكفاح والنشاط فيهم ان حياتهم لا مبرر لها ولا قيمة اذا لم يحققوا للأنسانية افكاراً سامية.