دموع فريد الاطرش

دموع فريد الاطرش

رأيت فريد الاطرش وهو في اسوأ حالاته، وجهه نحيل ومجهد ووزنه نقص بشكل مبالغ فيه.. ومع ذلك كان يغني، كان يجري بروفة على اغنية قبل ان يتسعد للسفر الى امريكا بحثا عن علاج لقلبه..
ان فريد الاطرش لن يستسلم لاي مرض، انه يغني رغم المرض لانه يعتبر الحياة من غير غناء موتا آخر..

باقات الورد في كل مكان في بيته، فقد كان يجتاز نوبة من نوبات المرض الذي لازمه منذ الصيف الماضي، ومن اجل العلاج ذهب الى لندن ومكث ثلاثة اشهر ثم عاد بنصائح كثيرة من الدكتور جيسون الذي يسمونه مسيح القلب في لندن، واهم هذه النصائح ان ينام طويلا ويبذل اقل مجهود في العمل الفني، ويأكل المسلوق بلا ملح.. وبكميات ضئيلة جدا.. قال له الدكتور جيسون انه يعيش بربع قلب، وان عليه ان يتصرف في حياته بربع ما كان يعمل في كل شيء..
وفريد الاطرش يحب الحياة، يحب السهر، ويحب الصخب، ويحب الطعام، ويحب الغناء، فكيف يمكن ان يعيش ربع حياة.. قال لي فريد الاطرش:
- يقولون انني اسهر، وان السهر غلط، والواقع انني لا اسهر كما كنت في الماضي، كما انني انام حوالي عشر ساعات كل يوم وهذا يكفي، وفي الطعام التزمت منتهى الطاعة، لا يخلو الامر من"نقنقة"بسيطة.. وقد تعبت من هذه النقنقة رغم بساطتها، وعدت الى الطاعة الكاملة، وانا الان اتناول جبنا بلا ملح وخضرا مسلوقة ومربة وكومبوت، وحين احس بتعب من اي صنف من اصناف الطعام التي اتناولها امتنع عنها على الفور وانني استطيع ان اكون طبيب نفسي، ولهذا لا احب ان يكثر علي الاطباء بالنصائح.
لا وعينيك
وسألت فريد الاطرش:
- ولكنك كنت تجري بروفة احدى الاغنيات الان، فهل يتفق هذا المجهود مع حالتك الصحية؟
فقال فريد الاطرش:
- استطيع ان احكم نفسي في السهر، واستطيع ان احرم نفسي من الطعام، ولكني لا استطيع ان اعزل نفسي عن فني، ان الحياة من غير غناء، موت آخر، ثم انني اقدس المسئولية وحين عدت من باريس فهمت من شركة القاهرة للسينما انها مستعدة لبدء تصوير فيلم الخروج من الجنة"قصة توفيق الحكيم"، وان على ان اسجل الاغاني قبل بدء التصوير كعادتي، وقد سجلت بالفعل قصيدتين..
للشاعر بشارة الخوري – الاخطل الصغير – ومطلعها:
اضنيتني بالهجر ما اظلمك
فارحم عسى الرحمن ان يرحمك
والثانية قصيدة الصديق المرحوم كامل الشناوي ومطلعها:
لا وعينيك يا حبيبة روحي
لم اعد فيك هائما فاستريحي
سكنت ثورتي فسيان عندي
ان تعيني او تجنحي للجموح

انا.. وكامل الشناوي!
وتهدج صوت فريد الاطرش وهو يقول:
- وقد كانت امنيتي ان يسمع المرحوم كامل الشناوي لحن قصيدته قبل ان يموت، ولكن الموت اختطفه منا فجأة فترك فراغا لا يستطيع انسان آخر ان يملأه..
وسألت فريد الاطرش:
- ما حكاية كامل الشناوي معك.. سمعت انك بكيته كثيرا؟
فقال فريد:
- كيف لا ابكي صديقا؟ كيف لا ابكي كامل الفنان الشاعر الاديب المرهف الحس، انني احببت كامل من كل قلبي رغم ان صداقتنا لم تتعد الثلاثة اعوام – انه كان يقول لي:"انا حبيتك على كبر وعلشان كده صداقتنا كبيرة، وقد كنت اذهب اليه في المستشفى كل يوم!.
وقال فريد وفي صوته حزن واضح:
- وقد غنيت لكامل الشناوي قصيدة:
عدت يا يوم مولدي.. عدت يا ايها الشقي
وكانت هذه القصيدة في درج الفنان محمد عبد الوهاب لمدة طويلة، فلما قرأتها في احدى الصحف اعجبتني واتصلت بكامل لاساله ان كانت قد لحنت فعلا، فقال: لا.. اطلبها من عبد الوهاب، ولم اطلبها طبعا، انما جاء كامل بعد شهر في حفلة عيد ميلاده.. اقمتها عندي تكريما له، ومعه القصيدة وقال: اذا كنت احسست معانيها فلحنها انت.. وكان يجئ كل يوم ليسمع الجديد فيها.. وكان يبكي وهو يسمع:
انا عمر بلا شباب.. وحياة بلا ربيع
اشتري الحب بالعذاب.. اشتريه فمن يبيع؟
وقد كانت هذه القصيدة اغنية اساسية في فيلم يوم بلا غد الذي اخذنا اسمه من بيت فيها.
وسألت فريد الاطرش:
- مرة اخرى.. الا يتعارض المجهود الذي تبذله مع حالتك الصحية؟
فقال:
- انني سجلت اغنية شعبية لمرسي جميل عزيز مطلعها:
انا وانت ولا حب تالتنا
انا وانت وبس
انا وانت وبس يا حلاوتنا
انا وانت وبس
لقمة صغيورة تكفينا.. ا
انا وانت وبس.
ورغم ان الدكتور جيسون حدد لي ان اسجل اغنيتين فقط كل عام فانني لن استطيع ان اتخلى عن مسئوليتي فسجلت ثلاث اغنيات في ثلاثة اشهر.. لانني لا احب ان اكون سببا في عمل فني ترتبط به مصالح مئات من الناس، ولا احب ان افقد ولو ذرة من سمعتي الفنية..
لماذا انا حزين!!
وقال فريد:
- انني حزين لان الدكتور جيسون منعني من الغناء على المسرح.. انه قال لي انني قد اموت وانا اغني على المسرح، انه يسمح لي بالغناء السينمائي لانني استطيع ان استريح فيه.. انني اغني على فترات، اما الغناء على المسرح فيتطلب مجهودا متواصلا لمدة ساعة او نصف ساعة.. انني لا استطيع ان اظهر امام جمهوري الا كما تعود جمهوري ان يراني.. انني ساسافر الى امريكا للعلاج.. سوف اجد هناك وسيلة تقنع الاطباء بان اغني في عيد الربيع القادم.. حفلة شم النسيم السنوية..
وقال فريد:
- نسيت ان اقول ان الحاني الجديدة راعيت فيها ان تكون على مستوى قصة يكتبها توفيق الحكيم، ولهذا اعتقد انها ستكون شيئاً جديداً في كل شيء..

انا ممنوع من الاغاني الطويلة
وسألت فريد الاطرش:
- هل معنى ان صحتك لا تساعدك على المجهود الطويل في الغناء انك ستحرم جمهورك من اغانيك الطويلة!
فقال:
- اتمنى ان تتقدم صحتي لاستطيع ان اقدم كل الالون، اما الحاني الطويلة الدسمة فاعتقد ان السيدة ام كلثوم هي القادرة على غنائها.
وسألته:
- سمعت انك تلحن اغنية لنجاة الصغيرة!
فقال:
- الاتفاق على المبدا موجود ونحن حائرون امام كلام الاغنية.. سنجده، او بمعنى ادق، سنختاره معا بين ايدينا قريبا، والحن لها اغنية، ان نجاة الصغيرة صاحبة صوت معبر واداء حلو.
- ما اخبار موسيقاك في الخارج!
فقال:
- تعطل فرانك بورسيل عن عمل اسطوانة هذا العام من موسيقاي. انه متفق معي على ان يعيد توزيع مقطوعاتي الموسيقية ويطبعها على اسطوانات تباع في جميع انحاء اوروبا وامريكا، ان التجربة الاولى نجحت نجاحا كبيرا، ولكن دخولي المستشفى طوال الصيف الماضي عطلنا عن تنفيذ مشروع العام الثاني، ان موسيقانا الشرقية تستطيع ان تغزو العالم لانها جديدة على اسماع العالم ان داليدا اخذت الحاني مثل يا جميل يا جميل"، ووضعت لها كلمات فرنسية وغنتها فحازت الاعجاب، ان انريكو ماسياس اقتبس من موسيقاي على جيتارهن ونجح نجاحا كبيرا، ان هذا دليل قاطع على ان موسيقانا يمكن ان تكون عالمية، وتحق غزوات ناجحة، وتدر علينا عملة صعبة كاي مشروع صناعي ناجح.. ان الفنان يحتاج الى انطلاق اكثر حتى يستطيع ان يحتك بالفنانين في الخارج ويعطيهم مما عندنا وناخذ المقابل سمعة دولية وعملة صعبة.
الخنافس.. وموسيقى الزار!

وسالت فريد الاطرش:
- ما رأيك في الخنافس؟
- سالني هذا السؤال مندوب الاذاعة البريطانية الذي كان يتردد علي وانا في مستشفى بروميتون في لندن، وقلت له: ان هذه الموسيقى لا تزيد على موسيقى الزار في مصر وانها تمرد على كل الاصول واالقواعد، ولهذا تعجب كل الجيل الجديد لانها تعبر عن التمرد. لا شك ان الخنافس وان كانوا ظاهرة موسيقية ستختفي وتنسى تماما بعد اعوام، الا انهم في نفس الوقت ظاهرة نغمية لشباب الدول التي انبهرت بهم.. والحمد له ليس منهم شبابنا، وهناك امران اخران يرتبط بهما موقف الخنافس.. هما: انهم اصبحوا جزءا هاما من ميزانية انجلترا.. لانهم يجلبون لها الدولارات بالملايين، وانهم حصلوا على لقب سير!.
سمفونية اسمهان..
وسألت فريد الاطرش:
- لماذا لا تنتج قصة اسمهان، وتتولى بطولتها، وتضع لها الحانها!
فقال:
- ان اسالك اولا من هي الفنانة التي يمكن ان تقوم بدور اسمهان؟ والحقيقة ان الفكرة روادتني كثيرا ولكني كنت انصرف عنها لان اسمهان لم تترك اغنيات لم يسمعها الناس فاقدمها على انها شيء جديد، حدث جديد في الفيلم، وفي نيتي ان اعمل سمفونية اسمهان.. سوف اعملها طبعا حين تسمح لي صحتي بذلك، ساضع في السمفونية شذرات من اغانيها بصوتها تتخلل الموسيقى الصامتة ثم اختمها بمقطع من اغنيتي:
ما تفرقيش في قلوب بتحب
ولا تحرميش حبيبين م الحب!
الخروج من الجنة!
وسألت فريد الاطرش:
- ومتى تبدأ تصوير فيلم"الخروج من الجنة"؟
فقال:
المفروض ان يبدأ التصوير يوم 2 مارس، وقد وفيت بالتزاماتي بتسجيل الغناء في الموعد المحدد.. وبقى ان تنفذ شركة القاهـــرة للسينما التزاماتها ببدء التصوير في الموعد المحدد الذي يبدو مستحيلا.. انني لهذا ساسافر الى امريكا للعلاج في الفترة التي تستعد فيها الشركة للعمل، سيساعدني العلاج على ان اتحمل المجهود المقبل.
قلت له:
- مجهود.. مجهود.. مجهود.. لماذا لا تخضع للمرض وتستريح قليلا؟
فقال فريد:
- لانني قلت لك من البداية:"الحياة من غير غناء موت آخر".