فيلسوف العقل ابن رشد المفترى عليه

فيلسوف العقل ابن رشد المفترى عليه

محمد نبيل الشيمي
ولد الوليد محمد بن احمد بن رشد عام 520هـ / 1126 م في مدينة قرطبة أحد معامل العلم والمعرفة في بلاد الأندلس لأسرة اشتهرت باهتمامها بعلوم الفقة والفلسفة ومن ثم نشأ ابن رشد في بيئة عامرة بالثقافة والمعرفة... وبدأ مشواره مكباً على دراسة الشريعة الإسلامية والأدب وفي مرحلة لاحقة بدأ تعلم الطب والفلسفة والرياضيات وتتلمذ على يد نخبة من علماء وفقهاء عصره

مثل بن مسره وأبو جعفر هارون وهناك من المؤرخين من قال أن الوليد درس عن ابن طفيل وابن ماجه وقد بدأت مسيرة بن رشد في عالم التأليف بكتاب يتناول الطب من الجانب النظري أسماه"الكليات".
سطع نجم ابن رشد في عهد أمير المؤمنين أبي يعقوب يوسف الذي كان رجلاً محباً للعلم والعلماء ملماً بالمذاهب الفلسفية وجمع حوله الصفوة من رجال العلم من كل حدب وصوب وكان ابن طفيل من الذين اختصهم أبو يعقوب بصداقته وثقته (ولاه الوزارة) وقد دعاه أبو يعقوب ابن رشد ضمن العلماء الذين كان يجالسهم.
اشتهر ابن رشد بالورع والبعد عن مجالس اللهو وكان يمضي ليله كله بين الكتب دارساً ومؤلفاً وعندما تأكد الخليفة من التزامه عينه قاضياً في اشبيلية ثم قاضياً في قرطبة ثم عينه بعد ذلك طبيباً له ثم أعاده مرة أخرى إلى قرطبة في وظيفة قاضي القضاه وخلال هذه الفترة (1169 / 1182م) تمكن ابن رشد من تلخيص كتاب الحيوان لأرسطو وحقق له أيضاً كتاب ما بعد الطبيعة..
كان بن رشد متواضعاً ملماً بالعلم ميالاً إلى علوم السلف كما كان عالماً بالطب وملماً بالأدب والشعر بل أن البعض عده من أعلم المسلمين وكان من أخصب الكتاب إنتاجاً وقد اختلف حول ما ترك من مؤلفات إلا أن الرأي الراجح أنه ترك ثمانية وسبعون مؤلفاً بين كتاب ورسالة قسم منها لشرح كتيب الأقدمين كأرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان وأيضاً لبعض الفلاسفة المسلمين كالغزالي وابن سينا والفارابي... أما القسم الآخر فهو خاص بالمؤلفات الخاصة به والتي تتناول علم الفقه والطب والطبيعة وعلم النفس والمنطق ومن أهم المؤلفات /
- فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال في علم الكلام (عام 1179).
- بداية المجتهد ونهاية المقتصر في الفقه.
- الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبه المزيفة والبدع المضلة في علم الكلام.
- شرح عقيدة المهدي في علم الكلام.
- تهافت التهافت ويتضمن نقضاً لكتاب تهافت الفلاسفة للغزالي.
- الكليات في الطب.
- كلام على المحرك الأول.
- مسائل في الحكمة.
- مقالة في العقل.
- مقالة في الوجود السرمدى والوجود الزماني.
صراع ابن رشد مع رجال الدين:-
على الرغم من وجود اختلاف بين المؤرخين في الأسباب التي اودت بابن رشد فإن الثابت لدى المؤرخين انه خلال ولاية أبي يعقوب وبدايات حكم ابنه المنصور متمتعاً بالمنزلة التي تليق به فكان مكرماً مسموع الكلمة يحترمه ويبجله الجميع اقتناعاً بعلمه والتزامه الخلقي... وسرعان ما تبدلت الأحوال فقد قاد رجال الدين المتزمتين انقلاباً ضد ابن رشد حيث اتهموه بالكفر والزندقة والخروج على الملة وأوغروا صدر السلطان ضده حتى أنه نفاه إلى اليسانه (إحدى القرى اليهودية بالقرب من قرطبة) بعد استجوابه من جانب حساده والمعارضين لفكره.
نعم هناك تضارباً في أسباب نكبة ابن رشد فهناك من قال أنه لم يكن لبقاً في تعامله مع الخليفة ومنهم من قال أن نعته الخليفة بملك البربر من أسباب هذه النكبه وآخرون قالوا أن صداقته لشقيق الخليفة أدت إلى غضبه عليه انطلاقاً من الخوف أن تكون تلك الصداقة سبباً في فقد عرشه... ولكن لا خلاف أن اقتراب ابن رشد من المنصور في بداية ولايته آثار حفيظة المنافسين فاستعملوا كل ما هو مشروع وغير مشروع للإيقاع به حتى أن عامة الشعب انقلبوا عليه ورأوا أنه يخالف الشريعة الاسلامية وينكر بعض الثوابت المذكورة بالقرآن كإنكاره وجود قوم عاد أو قوله على لسان أحد الفلاسفة أن الزهرة أحد الآلهة.
أما الرأي الذي يميل إليه البعض وهو أن الخليفة حاول إرضاء رجال الدين المتزمتين خلال حربه مع ملك قشتاله (الفونس التاسع) وكان عليه أن يعمل على إستمالتهم حتى لا يفقد مساندة الرعية الذين كانوا يؤمنون تماماً بما يقوله رجال الدين دون أن يتحقق فعلاً من صحة الاتهامات التي وجهت لأبن رشد... وكان صعباً على ابن رشد قيام الخليفة بإحراق الكتب الفلسفية بعد جمعها في أكوام وحرقها بين تكبيرات المتزمتين.
حقيقة أفرج بعد ذلك عن ابن رشد وهو كسير الخاطر مهزوم الإرادة فاقداً الرغبة في الحياة... بعد أن نجح المتنطعون... المنغلقون... الرافضون لكل بادرة للتغيير إلى الأفضل في هدم هذا العالم المفكر الفيلسوف والذي خسر العرب والمسلمون كثيراً من الظلم الذي حاق به.
خسر العرب والمسلمون مفكراً عميقاً يمسك بأي قضية فيفصلها بشكل دقيق ويحللها كي يصل إلى الحقيقة المجردة وكانت مناقشته لأفكار أبي حامد الغزالي (تهافت الفلاسفة) ورده عليه في تهافت التهافت بالبرهان العقلي والحجة المبينة من أهم ما كتب ابن رشد.
لقد خسر العرب والمسلمون مفكراً أثبت أن الفلسفة لا تناقض الدين بل تدعمه وقد أغلق الباب على المتنطعين من أدعياء العلم الذين كفروا بالفلسفة والفلاسفة لحساب استمرار نهجهم الجامد في دراسة الكون وكان نهج ابن رشد في الاستدلال مصدره آيات القرآن الكريم التي تقضي بضرورة الأخذ بالفكر العلمي والتي تعد الفلسفة جزءاً منه.
كان ابن رشد يرى أن الشرع يوجب النظر الفلسفي وأن النظر والاعتبار لا يكونان إلا بالقياس الفعلي (الفلسفة).
كان هذا الفيلسوف مؤمناً بتوافق العلم والدين وأنه لا تناقض ولا تضاد وإن حدث فإنه يعود لاختلاف وجهات النظر بين الناس وتباين قرائهم في التصديق.
هذا الفيلسوف كان يرى أن الغاية من الشريعة ليست معرفة الحقيقة وحدها بل إيجاد الفضيلة والحث على الخير والنهي عن المنكر.
... لقد خسر العرب والمسلمون مفكراً مرتفع الهامة فكر في النفس الإنسانية وأدرك أن كمال الإنسان في كمال عقله قبل أي شيء آخر وأن الشرائع الدينية من شأنها أن تعلم الإنسان الفضائل العملية... وكان هذا المفكر من المؤمنين بالنظام الجمهوري وفي نظره هو خير الأنظمة الواقع أن هذا الراي ربما يكون أحد الأسباب التي حدت بالمنصور معاداة ابن رشد (وهذا رأيي)وكان يرى أن معاوية بن أبي سفيان مسئولاً عن كل المعاناه التي شهدها العرب حيث حول نظام الحكم بتوريثه ابنه يزيد إلى حكم استبدادي (لاحظ رغبة بعض الحكام العرب من رؤساء الجمهوريات توريث أبنائهم رغم معارضة الشعوب) كان ابن رشد تواقاً إلى العدل ويرى أن الظلم آفة وأنه ثمرة الجهل.. كما بذكر التاريخ أن ابن رشد كان نصيراً للمرأة وسبق حركة تحريرها بعقود طويلة... وقال أن رقي المجتمع الإسلامي رهن بإطلاق جناحي المرأة وقطع كل ما يكبح حريتها..
لقد نجح بعض المتزمتين في إسكات صوت ابن رشد... وهم لا يدرون إنهم يقتلون جزءً من مستقبلهم... ولو امتد العمر بابن رشد لكان قد ترك لنا إرثاً أوسع وأرحب من الثقافة والعلم والمعرفة.... وبموته في 10 ديسمبر 1198 الموافق 9 من صفر 595 هـ عن 72 عاماً انطوت صفحة مضيئة من صفحات الفكر العربي الرشيد.
... ويبقى التساؤل... هل تغير بنا الحال؟ أم ما زلنا علي نظرتنا للفلاسفة والمجددين... في ظل قوى جامدة متزمتة رافضة للتحديث وتحرير الأفكار والعقول؟
لك يا عزيزي القارىء أن تجيب بنفسك عن هذا السؤال من خلال واقعنا الذي نعيشه.