محمد فاضل الجمالي .. في الذاكرة

محمد فاضل الجمالي .. في الذاكرة

جواد كاظم البيضاني
"قد يعيشون على قارعة التاريخ أو يقيمون بماء على الضفاف البعيدة على أنهم ومهما طال الزمن، لم يخرجوا منه، أم نقلتهم رياحه إلى مجاهل النسيان.قد يتوارون، ولكن ليس هرباً من الماضي، بل زهداً في بطولات الحاضر الجوفاء. فلكل زمانه ودوره، والتاريخ وحده في النتيجة، القادر على فك الرموز.

وإصدار الأحكام الملائمة بعيداً عن الضجيج وأبواق المواكب وسطوة الحاكمين" بهذه العبارات وجه الدكتور إبراهيم بيضون رسالة رثاء لأسرة محمد فاضل الجمالي معربا فيها عن حزنه الأليم بوفاة الجمالي.
ومن المؤسف حقاً أن هذا الرجل لم ينل من التقدير في بلده بقدر ما حظي به من اهتمام وتقدير عالمي ففي ذلك يقول الدكتور فاضل الجلبي:" إن الصورة الناصحة التي رسمت للجمالي خارج وطنه لم تكن تلك التي عرف بها في الداخل. لم يكن الجمالي شخصية مفهومة في العراق".
والحقيقة فان الجمالي كان يميل إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي وهو يدعو إلى التغيير ونبذ الأفكار اليمينية المتطرفة التي كان يؤمن بها نوري السعيد والتي ورثها من الحقبة العثمانية واستمرت ملازمة له. ويبدو أن صفة الاعتدال التي ميزته عن أقرانه السياسيين تعود إلى نشأته الاجتماعية التي كانت سببا مباشرا لذلك.
فقد درس بمدرسة الإمام الخالصي التي عرفت بوسطيتها ثم التحق بمدرسة (نمونه مكتبي) التي أنشأها الاتحاديين لأبناء الشيعة حيث قال عنها الجمالي: "لم نشعر مطلقاً بأي تمييز بين السنة والشيعة في تلك المدرسة "ثم عين معلم في الكاظمية بعد توزير المصلح الكبير السيد هبة الدين الشهرستاني وزيراً للمعارف بعد ذلك أرسل في بعثة لإتمام دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت.
فدراسته وبيئته ساهمتا بشكل واضح في وسطيته واعتداله فالكاظمية التي ولد فيها عام 1902 لم تشهد حالة من التزمت الفكري أو التشدد المذهبي بل عرفت بالتسامح والاعتدال.
كان اهتمام الجمالي واضح بأبناء وطنه حيث كرس حياته لذلك، يقول الاستاذ عبد الكريم الازري في ذلك:"اعد الجمالي نفسه لخدمة وطنه العراق ولبناء الدولة العراقية في حقل اختصاصه وهو حقل التربية والتعليم"، فقد عنون أطروحته للدكتوراه :"معالجة مشاكل تعليم أبناء الريف والعشائر" وكانت مساهمته الأولى إعداده تقريرا رفع للملك فيصل الاول حول تطوير واقع التعليم في العراق. بيد أن هناك ظروف ما أبعدته عن سلك التعليم إلى العمل السياسي والذي أبدع فيه بشكل كبير.
فكان له دور فاعل في مناصرة القضايا العربية ومنها قضية فلسطين يقول في ذلك:"كيف يمكن التوفيق بين علاقات صداقة وتعاون مع الولايات المتحدة مع تأييدها غير المحدود لإسرائيل.."
بل أن موقفه تجاه ما تعرضت له مصر من عدوان عام 1956 كان مغايرا للموقف الرسمي للحكومة العراقية. وربما ذهب إلى أكثر من ذلك من خلال دعوته لدعم حركات التحرر في آسيا وإفريقيا حيث يقول في ذلك :"إذا كنا نطلب الحرية لأنفسنا فكيف لا ندافع عن حق الآخرين في نيلها".
أما موقفه تجاه قضايا المغرب العربي فكان شافعاً له من حكم الإعدام الذي أصدرته له محكمة الثورة وعن هذه المواقف يقول عز الدين العراقي رئيس وزراء المغرب السابق: "كانت أول مناسبة لي للتعرف عليه، متابعتي لجلسات هيئة الأمم المتحدة في قصر شابو بباريس واستماعي لما قاله في حق بلدي المحتل آنذاك".
ويبدو أن الملك محمد الخامس لم ينس جهد الجمالي حيث شفع له عند الثوار وتم إنقاذ حياته، فما كان له إلا أن يترك العراق عام 1961 متوجها إلى جنيف غير أن الحبيب بو رقيبة طلب منه أن يعيش في تونس. حيث استمر هناك يزاول نشاطه في حقل التعليم كأستاذ في الجامعة التونسية حتى ووفاه الأجل في 24/5/1997،وعرفاناً منها جهوده العربية والدولية قامت الحكومة التونسية بإطلاق اسمه على احد شوارع تونس.
لقد عاش الجمالي غريباً ومات غريباً. لم يعرف احد منا دوره الذي قام به في خدمة العراق والإنسانية. إذ لعب دوراً في قضية فلسطين وناضل من اجل إيقاف العدوان الثلاثي على مصر وكان له دور لم ينسه أبناء المغرب العرابي حيث وقف مدافعاً عن قضاياهم وكان من الموقعين على ميثاق الأمم المتحدة ومن المساهمين في وضع ميثاقها 1945.
أما انجازاته للعراق فهي شواخصه التي لا تزال قائمة منها سد الثرثار وسد دوكان وسد دربنديخان في الوقت الذي لم يحقق العراق وللفترة الممتدة بين عام 1968 وحتى 1991 شاخصا مهما كالذي قام به الجمالي رغم الميزانية المتواضعة التي كانت بيده مقارنة بميزانية الحكومة السابقة التي صرفتها في الحروب.