خطوبة لم تر النور … هذه أسرار مهمتي في القاهرة

خطوبة لم تر النور … هذه أسرار مهمتي في القاهرة

د. فخري شهاب:
ستبدو الاحداث التي سأرويها في ما يلي غريبة غرابة لا تكاد تصدق، ولكني أؤكد لقرائي الكرام جاهدا إنها أحداث وقعت فعلا وكنت انا شخصيا ممن لعب الدور الرئيسي فيها، واني لم أر ضرورة للكشف عنها حتى اليوم، لأني كنت (وما أزال اليوم)

واثقا من أنها لا أهمية تاريخية لها. غير إني عدت فقررت نشرها اليوم لسببين اثنين: أولهما أن ما اقصه الآن يصدّق ما كنت ذهبت اليه في كلمة سبق ان نشرتها، أُحمّل فيها العهد الملكي تبعة الفوضى التي سادت العراق (وما زالت تسوده)، فأخطاء ذلك الجيل،، وجهل رجالاته وتخبطهم، وقصر نظر أعلامه، وفشلهم في الوصول الى الشعب واقناعه بوجهات نظرهم، واكراهه (اكراه الشعب) على قبول سياسة خارجية ما كان مقتنعا من سلامتها، ومهازل الحياة البرلمانية، واضطهاد المعارضة وحرية الرأي، وفشل السياسة الاقتصادية، وما نجم عن ذلك من بطالة، وجول سياسي متذمر، ناقد.. الخ، كانت هذه كلها عوامل اسهمت في خلق عداء سياسي للحكم وابرز أساطينه، وفي خلق رغبة عارمة للتخلص منه (نظام الحكم) ومنهم.
أما السبب الثاني الذي دفعني إلى الكتابة اليوم قناعتي بأن سياسة ذلك العهد الخائب وأخطاءه ما فتئت تتكرر في كثير من الدول العربية اليوم، وان اسباب النقمة التي اندلعت منها ثورة 14 يوليو (1958) ما انفكت تعاد، وان العبر السياسية التي كان يمكن استخلاصها من فوضى نصف القرن الماضي ما زالت خافية على الجيل الذي يخلف الارض اليوم.
وإذا صح ما تقدم، فلا ضرر اذاً من وصف مشهد جانبي من مشاهد ذلك العهد ليستطيع الجيل الحاضر مقارنة ما جرى في ذلك العهد بما يتكرر اليوم. ومهما يكن من شيء فأرجو ألا يخلو ما سأرويه من طرافة تمتع القراء الكرام، بغض النظر عن فحواها السياسي، او انعدامه.ثم لقائي بالامير الوصي على عرش العراق بسرعة وبساطة لا تصدقان، ولا بد أن اضيف هنا ان ذلك تم نتيجة ظروف مختلفة يسرتها الاقدار، فأنقذتني من محنة لا يعلم مغبتها الا الله تعالى، فقد كنت عائل اسرتي الوحيد، وعليّ يتوقف عيشهم في مجتمع تخلت الدولة فيه عن مسؤولياتها الاجتماعية قبل المواطن تخليا يكاد يكون تاما، ولو كنت حاولت الاتصال به اعتياديا لتعذر ذلك ولذهبت ضحية نفق بيروقراطي اظلم لا ينتهي. وهذه هي الحالة اليوم لا في العراق وحده، بل في البلاد العربية كلها، وكثير من دول العالم الثالث ايضا.
وقد يكون هذا ممكنا في الدول الديموقراطية أيضا، ولكن زودت الاخيرة نفسها بصمامات قانونية تحمي الفرد من طغيان المجتمع في اغلب الاحيان وفي المدى البعيد، ولا أرى داعيا للاستطراد هنا، فثمة الكثير مما يسلي القراء الاطلاع عليه! فلأعد الى ما انتهت اليه الاحداث.

العزم الثابت
في مساء اليوم التالي، وفي الساعة نفسها التي رن فيها جرس التلفون بالامس، سمعت الجرس يدق، كان ذلك نداء من صديقي "الملازم قاسم" يدعوني الى تناول العشاء "في القصر"، وعيّن ساعة وأكد على وجوب الالتزام بها، فشكرته ووعدته بذلك. وفي الموعد المعين كنت في باب القصر، وكان "الملازم قاسم" بانتظاري، فأدخلني على نحو ما فعل البارحة، وليس مستغربا بعد نحو سبعة عقود مضت على هذه الأحداث، ان لم يبق في ذاكرتي عن تلك الزيارة ولا وجبة العشاء التي تناولتها فيها، ولا لما دار فيها من أحاديث ولا لما اعقبها من زيارات بعد ذلك إلا اخف الانطباعات العابرة. ولكن موضوعا واحدا (مضحكا) اثير في ذلك العشاء، وفيما تلاه من دعوات تكررت ثماني عشرة مرة في غضون شهر واحد، نعم، موضوع واحد ما فتئ يعاودني اليوم: هو "اصلاح الاوضاع"! وثمة امر آخر يقبع في زوايا ذاكرتي ايضا: هو اني كنت آتي بالحل المناسب لكل مشكلة طرحت او اعتراض اثير.
لم يكن هناك امر متعذر، ولا حل عسير! "يبدأ الحل بالعزم الثابت" ــ كنت مولعا بترديد هذه العبارة.
موضوع شخصي
وفي أمسية باردة لاذعة، وبعد الانتهاء من وجبة العشاء وما كان يتخللها من أحاديث الإصلاح التي أشرت إليها، وقبل اللجوء إلى حجرة المكتبة الدافئة، بموقدها الصغير الأنيق الذي كانت تضطرم فيه دوما قطع محطمة جسام من أخشاب السكك الحديد المستهلكة ذات الأرومة الساحرة، وستائرها (ستائر حجرة المكتبة) المصنوعة من القطيفة السميكة الخضراء، اقترب "سيدنا" مني، ووضع يده (رحمه الله تعالى) على كتفي، وقال: "عندي موضوع شخصي أحب أن أبحثه معاك في المكتبة". قلت إني رهن تصرف سموه، وسرنا معا باتجاه المكتبة.

الأميرة فائزة أخت فاروق
في المكتبة، وبعد العشاء، كانت تدار علينا عادة، فناجين من القهوة التركية يختلف عددها بحسب طول كل جلسة أو قصرها. في تلك الليلة (وأنا أذكر ذلك بوضوح) كانت فناجين القهوة تنتظرنا. استقر سيدنا في أريكته فتبعته، وتناول فنجان قهوته، وبعد سكوت طال بضع دقائق قال مستفهما: "سمعتك تردد أكثر من مرة قولك إنك على علاقة متينة مع عدد من أعلام الصحافة والأدباء في مصر؟". قلت: "نعم هذا صحيح".
قال: "وما مكانتهم في المجتمع المصري؟". قلت: "ذلك سؤال لا يسهل الرد عليه بدقة، ولكني أحسب أن بعضهم، بحكم عملهم ممن تربطهم بالارستقراطية الحاكمة، وقادة الحياة السياسية علاقات وثقى
ولا شك".
قال: "أريد استشارتك في أمر شخصي جدا، أنا أنوي ان أطلب يد الأميرة فائزة، أخت الملك فاروق، ولكني رأيت، قبل الإقدام على ذلك، ان أعرف مدى قبول الأسرة المالكة المصرية للفكرة مبدئيا، فهل تحسب أن بين أصدقائك من هو قادر أن يتقصى الأمر بكياسة ولباقة مناسبة، وتكفينا التعقيدات التي لا بد أن يخلقها لنا السياسيون؟"، قلت: "لا شك عندي في ذلك" وبعد فترة صمت قصيرة قال -رحمه الله-: "ما أظن انك عندك وقت تروح الى القاهرة كم يوم بنفسك تتابع الموضوع؟"
وإذ اتفق إن كانت "العطلة الربيعية" لطلاب الكليات وشيكة حينئذ، فقد أخبرته أني سعيد أن أضع نفسي رهن إشارته، فسر -رحمه الله- بذلك، وكذلك بدأت أشد الرحال إلى القاهرة.

أمتع سفرة
مر على هذه الأحداث نيف وسبعون عاما، وما فتئت سفرتي إلى القاهرة من أطرف وأمتع وأغرب ما جرى لي وأرجو أن يثق القارئ الكريم بقولي إني لو وصفت كل ما خبرت فيها لخرجت برواية سينمائية فريدة، لناءت أعمدة القبس بها! ليذكر القارئ الكريم ان الطيران لم يكن شائعا يومئذ على ما هو عليه اليوم، وان الرحلة إلى القاهرة كانت تتم عبر الصحارى الفسيحة التي تفصل بين بغداد ودمشق أو بين بغداد وعمان، وكانت تستغرق يوما وليلة في كلتا الحالتين، وكانت تتم بالحافلات، الا أن هناك بعض الحقائق الجديرة بالذكر قبل الاستطراد في سرد مغامراتي فلأقف قليلا هنا.

تنكّـر.. النكرة
أذكر مما أذكر من الإعداد لتلك الرحلة العتيدة ان الأمير -المرحوم- أوصاني وشدد علي الأخذ بالحذر، واذ اعرض الأحداث اليوم واستعيد بعض ما تبقى من كلماته في أذني يزداد استغرابي مما أروي.
قال: "ويستحسن ان تسافر متنكرا". وأعجبني ما انطوت عليه الفكرة من "ميلودراما"، والذي عاق تنفيذها أني كنت نكرة بادئ ذي بدء، فكيف يتنكر النكرة؟! وغاية ما استطعت عمله لأجل إخفاء هويتي هو ان استقل حافلة شعبية (حافلات "الانكرلي" بدلا من حافلات "نيرن" التي كان أسسها شخص اسكتلندي بهذا الاسم، وكانت أفخم وأغلى!) كما أذكر (وكيف أنسى؟) ان الحافلة عطبت عبر الصحراء الى القدس، فاختارني الراكبون للذهاب الى مكتب الشركة في القدس لإرسال من يسعفهم، واستوقفوا من أجل ذلك شاحنة بضائع تعبر الصحراء، ركبتها فاتضح انها تحمل سمكا نيئا يصدره العراق الى فلسطين، فتأمل! واذ لم يكن بد من امتطائها انقاذا للموقف فقد أذعنت للأمر الواقع وركبتها، وبعد مجازفات مثيرة شتى، أوصلتني الى حيفا ثم تل أبيب، وصلت الى القاهرة المعزية في منتصف ليلة ليلاء لا تزال حية في ذاكرتي اليوم.

الاتصال بالمازني
ولم أضع وقتا، فاتصلت بالمرحوم الأستاذ الكبير إبراهيم عبد القادر المازني، وكنت أحظى بوده وعطفه منذ تعارفنا في بغداد أيام مأتم الملك غازي قبل الحرب العالمية الثانية. فلما اجتمعنا وشرحت له الغرض من زيارتي القاهرة أكد لي أن طاهر الطناحي (من هيئة تحرير "المصور") كان فعلاً منكباً على كتابة سيرة الملكة نازلي، أم الملك فاروق، وأنه (الطناحي) أفضل من يمكن ائتمانه على ما نسر، واقترح المازني أن يجمعنا على الغداء، وقد فعل في اليوم التالي.
عن صحيفة القبس الكويتية 2001