علي كما عرفته ـ لقطات وآراء

علي كما عرفته ـ لقطات وآراء

القسم الاول
خالص عزمي
عزيز علي في شيخوخته ( في 26 تشرين الأول ـــ أكتوبر ــ من عام 2010 تمر الذكرى الخامسة عشرة على رحيل الفنان والشاعر والملحن العراقي البارز المرحوم عزيز علي ؛ وما هذه الأسطر إلا باقة ورد عطرة يفوح شذاها على قبره اعتزازا وتكريما).

لوحة قلمية :
شعر رأسه ناعم الملمس يفرق ما بين جانبيه خط مستقيم بالتساوي ؛ وجبهة عريضة صافية الا من بعض التجاعيد المتواضعة ؛وحاجبان سوداوان كثان يضفيان على عينيه العميقتين شيئا من الجدية والإصرار؛
وجه طويل سمح يتوسطه أنف روماني يطل على شارب خفيف منسق؛ وفم مستقيم الطرفين إذا افتر عن ابتسامة ؛ بدت ملامح صاحبها أكثر تسامحا وتلقائية. طويل القامة رقيق الجوانب ؛ هو والأناقة المحتشمة صنوان لا يفترقان أبدا حتى في اشد حالات البؤس والفاقة التي تعرض لها في حياته. صراحته التي لا حدود لها ومجابهته الحادة أوصلته في كثير من الأحيان إلى مشاكل شخصية في غاية العنف والتعقيد، شاعر وملحن ومنشد من الطراز المتميز الذي لا يجاريه في أسلوبه احد؛ كتب بالفصحى واللهجة الشعبية العراقية ؛ فأجاد في الاثنين اجادة ذات مستوى رفيع .لهذا كانت الاغلبية الساحقة من الشعب العراقي تنتظر مساء الاربعاء من كل أسبوع لتستمتع باقواله والحانه ودقة تعابيره في الاداء .قدم أعماله المبهرة في السياسة والاجتماع والتربية العامة ؛ فكان صوتا مدويا ينبه على الأخطاء والأخطار والآفات التي تنخر في جسد المجتمع . لهذا بقيت أقوله تلك و بالصيغة التي قدمها خالدة تسمع وتستوعب وكأنها كتبت ولحنت هذه الأيام .
لقطـات :
الأولى :
كان من عادة احد أبناء عمومتي الأكبر مني سنا أن يصطحبني وشقيقي (المرحوم ) طارق عزمي إلى إحدى دور السينما لمشاهدة احد الأفلام التي تتناسب وأعمارنا؛ وكان اغلبها من تلك التي تبرز فيها معالم البطولة والشهامة واعمال الخير ؛ وكان لابد لنا ونحن نتوجه من بيتنا في محلة جامع عطا عصرا إلى جسر (الشهداء) ؛ أن نمر على محلة الشيخ بشار ؛ حيث ينظم إلينا زميلنا في الدراسة الابتدائية والمتوسطة (المرحوم) هاتف حمودي الجلــيل ؛ وكان من الصدف المحببة التي لا تنسى أن نلتقي بشخص طويل القامة ؛ صبوح الوجه ؛ أنيق الملبس بشكل ملفت للنظر وهو يقف أمام بيته في تلك المحلة ؛ وحينما سألنا صديقنا هاتف عنه ؛ قال ( انه المنولجست المشهور عزيز علي)؛وكنا قد سمعنا به وطالما استمتعنا ببعض مونولوجاته الاجتماعية من إذاعة بغداد ومنها (دكتور ؛ والقبول؛ وشوباش ... الخ) لقد بقي ذلك اللقاء الاول العابر محفزا لملاحقة ما كان يقدمه من الاذاعة ؛ او ما تنشره الصحف عنه من لقاءات وأخبار فنية
الثانية :
في عام 1944؛ كان والدي المرحوم (خليل عزمي) قد عين رئيسا لتسوية حقوق الأراضي في كربلاء( وهي محكمة تختص بحل المنازعات المتعلقة بالأراضي الزراعية والبساتين)؛ وتبعا لذلك فقد التحقت الأسرة به وحللنا في بيت مرفه يجاور دار زميلي في الدراسة الممثل الكبير بدري حسون فريد .
وفي احد الأيام و كان العيد على الأبواب طلب والدي من الفراش الحاج هادي أن يصطحبني وشقيقي ليشتري لنا أحذية جديدة بتلك المناسبة السعيدة بعد أن وصف له موقع المحل. سرنا في الشارع الرئيس ؛ ثم توقف الحاج هادي ليدخلنا إلى معرض أنيق ونظيف له واجهة زجاجية صفت على رفوفها مجموعة من الأحذية البراقة؛ وحينما وقف صاحب المحل أمامنا مرحبا ؛ فوجئت بأنه الشخص ذاته الذي التقيناه في محلة الشيخ بشار ؛ انه الفنان (عزيز علي)؛ كرر الترحاب وقدم ألينا مجموعة من الأحذية بعد أن لمعها ( ونحن في غاية الاستغراب) بمنديل ناصع البياض: فاخترنا ما راق لنا منها ؛ سألنا الفنان عزيز علي عن دراستنا ولم نجبه بشيء من التفصيل ثم طلب منا الجلوس لنتمتع "باستكانات" من شاي النومي حامض ؛ وتبسط معنا بالحديث مؤكدا لنا بين الفينة والاخرى على حبه العميق لمدينته بغداد التي ابعد عنها قسرا. كان حديثه ممتعا بخاصة و أن طريقته بالكلام كانت تتسم باللباقة وحسن انتقاء التعابير. خرجنا من عنده وقد رسخ عندي الاعتقاد بسعة ثقافته ذات الجوانب المتعددة .
الثالثة :
في عام 1954 تخرجت من كلية الحقوق وفتحت مكتبا لي لممارسة المحاماة في مدخل زقاق العاقولية كما واصلت نشر نتاجي الادبي في الصحافة والقاء بعض الاحاديث من الاذاعة العراقية وكنت في تلك الفترة التقي الفنان عزيز علي بين الحين والاخر ( قبل هذا التاريخ ايضا ) في اروقة الاذاعة او في نادي الكمرك الذي كنت اتردد عليه في بعض الاماسي و الذي كان هو من اعضائه المعروفين باعتباره من موظفي الكمارك القدامى حيث يتصدر مائدة كانت من الفنانين أذكر منهم (سلمان شكر ومحمد كريم ورضا علي ويحيى حمدي ... الخ).
وذات يوم وبينما كنت أسير عصرا في شارع الرشيد متوجها نحو ساحة حافظ القاضي ومن هناك إلى مقهى البرازيلية لألتقي صفوة الأصدقاء (عبد الملك نوري ؛ عبد الوهاب البياتي ؛ فؤاد التكرلي ؛...الخ) لاح لي الفنان عزيز علي وهو يجلس في معرض للمصنوعات الجلدية يقع في ركن ( عكد النصارى) القريب من الشورجة : فوجدنها فرصة لتحيته تقديرا وإعجابا؛ وما كدت ادخل؛ حتى قام مرحبا ومقدما لي صاحب المحل وهو يقول
(قريبي عبد الامير الصايغ / لابد وان سمعت به عن طريق الإذاعة ) كان الفنان الصائغ قريب الشبه بالفنان عزيز علي؛ وكان مطربا؛ توقف عن الغناء مع أن له موهبة متميزة بالأداء واللحن؛ الح على عزيز علي بالجلوس؛ فجلست لفترة استمع فيها لحديث فناننا الكبير وهو يتكلم عن اسلوبه في طرح المشاكل ؛ فاستغليت فرصة للاستفسار منه عن السبب الذي دفعه لاتخاذ هذى المنحى الفريد في التعبير عن نقده الصريح والمباشر لمختلف ما يعانيه الشعب من العلل السياسية والاجتماعية وغيرها ؛نظر إلي مليا وقال وهو يبتسم : سأروي لك واقعة شخصية صغيرة قد تشيرك الى الدافع الذي يجعلني ألاحق العيوب وأنقدها نقدا لاذاعا دونما اعتبار لأية نتائج قد تسبب لي متاعب جمة :
حينما نجحت في امتحان البكلوريا في امتحانات الصف السادس الابتدائي فرح والدي فرحا جما و قرر الترفيه عنا بإرسالي و العائلة إلى أقاربنا في كربلاء وقضاء أسبوعين فيها للتمتع والاستجمام، وهكذا سافرنا فسنحت الفرصة أمام والدي لكي يطلي البيت بألوان مشرقة بهيجة؛ وقد بدا لي بعدئذ انه اهتم على وجه التخصيص بغرفتي التي أضحت خاصة بي لوحدي بعد أن انتقلت إلى الدراسة المتوسطة والتي كانت بنظر الأسرة مرحلة ثقافية متقدمة تستوجب ذلك الامتياز.
كان والدي و الصباغ قد بذلا المستحيل من اجل انجاز كل العمل قبل موعد عودتنا لتصبح المفاجأة بمثابة هدية ثمينة للنجاح الذي أحرزته؛ وقد نجحا في ذلك فعلا .
عدنا إلى البيت و بهرنا حقا بمظهره الخارجي وحينما دخلناه هللت العائلة لهذا الانجاز الذي حول البيت الغامق الى لون ناصع مفرح ؛ ومع ان والدي كان يبدو منهكا الا انه أخذني بيده الى غرفتي وهو في غاية الفرح قائلا ( بابا عزيز من هذا اليوم هاي غرفتك وحدك ... ها انت فرحان ؟ شلون دتشوفها سويناها الك مثل المراية) نظرت الى الغرفة وجلت فيها أتطلع الى اجزائها؛ وفجأة تسمرت امام ركن منها فقال ابي (ها عزيز خير) قلت ( يابا دتشوف ذيك الزوية اليم السكف؛ اني دا أشوف فد نقطة سوده هناك ... هي صغيرة مثل الذبانة يمكن انتو ما شفتوها حتى تصبغوها) عندها مسك أبي بأذني وفركها وهو يصرخ وقد غدا وجهه أشبه بالطماطم (ولك كل هذا الشغل و الصبغ الجميل ما شفته ؛ بس شفت نقطة سوده أصغر من راس عود الشخاط).
هنا ضحك فناننا الكبير وهو يقول (عرفت أستاذ خالص الآن : لماذا أصبحت ناقدا؛ أنها موهبة سارت مسرى الدم في عروقي مبكرا وجعلتني أراقب المجتمع والجو العام و أكتشف العيوب وانقدها بشعري والحاني وأدائي !!)
الرابعة :
كنت اعرف عن الراحل عزيز علي إعجابه الكبير بالشاعر احمد شوقي؛ وحينما بدأ عمله في المسرح في فرقة الرائد الكبير حقي الشبلي ؛ كان يهوى تمثيل مسرحيات شوقي. إلا أن الفرصة لم تتح له لانقطاعه عن التمثيل .
ذات صباح جمعة كنت أمر مبكرا على مكتبة بشار في المنصور لصاحبها الأديب الباحث الأستاذ عامر رشيد السامرائي؛ فوجدت عنده مجموعة كاملة ؛ أنيقة و جديدة من مسرحيات شوقي(طبعة دار المعارف بمصر)؛ فابتعتها وغلفتها؛ وأخذتها هدية إلى عزيز علي, جلسنا بالهول كالعادة ؛ وشربنا الشاي وتناولنا الكيك الذي تجيد عمله ابنته الكريمة (مي). راح أثناء ذلك يقلب المسرحيات ويبدي إعجابه بطبعتها الراقية ؛ ويكرر شكره على الهدية أكثر من مرة .
في الأسبوع الذي تلاه ؛ زرته يوم الجمعة أيضا فرحب بي وذهب الى غرفته وعاد بعد لحظات وهو يحمل كتابا ؛ قدمه لي وإذا بإحدى المسرحيات التي اهديتها اليه في الاسبوع الماضي الا وهي ( مصرع كيلوباتر) وقد وضع بين بعض صفحاتها ورقة صغيرة تشيرا الى شيء ما؛ لما فتحت الكتاب عند موضع تلك الإشارة ؛ فوجئت ببعض الصفحات وقد خطها بقلمه المرتعش خطا جميلا وواضحا؛ لم استفسر منه عن السبب وإنما أدركت مما بين يدي أن تلك الصفحات كانت بيضاء لم تطبع سهوا؛ لذا فقد وجد من اللائق ان يكملها اعتمادا على حافظته .
عندما فرغت من القراءة التفت إليه وأبديت إعجابي بذاكرته القوية وبخطه الجميل ؛ فرد علي قائلا (اخوي خالص : آني موبس حافظها لكن هم اكدر امثلها لك رغم تقدمي بالسن) وفعلا راح يمثل ذلك المشهد ليختتمه واقفا بدشداشه البيضاء في وسط الغرفة مشيرا إلى الجمهور المفترض وهو يقول :
أسمع الشعب (ديون) كيف يوحون إليه
ملأ الجو هتافا بحــياة قاتــليه
أثر البهـتان فيه وانطلى الـــزور عليه
يالــه من ببـغاء عقله في أذنيــه!!
حينما فرغ من تمثيله القصير قال : ليس إعجابي بأمير الشعراء مجرد انبهار وإكبار؛ بل لانه مدرسة تعليمية ضخمة في اللغة والأوزان والابتكار وحسن انتقاء المواضيع ؛لقد تعلمت من شوقي مثلا كيف يستخدم معجمه الواسع في التعبير عما يريد أن ينظمه شعرا ؛ ففي مسرحية مجنون ليلى استخدم ألفاظ البداوة والصحراء والعشق العف ؛ وفي مصرع كليوباترا استخدم لغة الرقة و المدينة المتحضرة والحكم والتسلط ...وهكذا وقد جاريته في ذلك منذ الثلاثينيات؛ ارجع الى ( اقوالي ) جميعا ....ستجدني قد استعملت ما يناسبها من معاني وألفاظ وأمثال شعبية : فتعابيري في (البستان) ؛ هي غــــيرها في (السفينة) ؛ وفي (دكتور) هي غيرها في (تهنا بهالبيده)؛ وفي (طنطل) هي غيرها في (بغداد) وهكذا تراني قد استخدمت صيغا وألفاظا تتناسب تماما والحالة التي أنظم في صميمها .... من حيث المكان والزمان ولغة الناس في الحقبة التي يدور في جوها الموضوع مؤسسا كل ذلك على قاعدة ( لكل مقام مقال).
*باحث وصحفي عراقي
الموضوع جزء من سلسلة ذكريات عن الفنان الراحل عزيز علي ستنشر تباعا