الحمل الطويل.. كارل ماركس

الحمل الطويل.. كارل ماركس

تأليف: فرانسيس وين
ترجمة: سـعـدي عبد اللطيف
برغم ان "رأس المال" يعد مؤلفا اقتصاديا عادة، إلا ان انكباب كارل ماركس على دراسة الاقتصاد السياسي جاء لاحقا على قضائه لسنين طويلة في دراسة معمقة للفلسفة والادب. اذ لم ترتفع دعائم مشروع حياته ذاك الا على تلك الاسس الفكرية،

فيما منحته تجربته في الاغتراب رصانة رفيعة في تحليل النظام الاقتصادي الذي حول البشر الى غرباء عن بعضهم البعض كما عن العالم الذي يعيشون فيه، العالم الذي تستعبد الانسان فيه السلطة المفرطة البشاعة والعديمة الروح لرأس المال والبضاعة. لقد كان ماركس نفسه مغتربا منذ لحظة ولادته في 5 آيار/ مايو 1818 في مدينة تريير الكاثوليكية لكن المنتمية الى دولة بروسيا البروتستانتية الأنجيلية في مذهبها الرسمي. وبرغم ان منطقة الراين الحقت بفرنسا اثناء حروب نابليون، الا انها ضمت الى بروسيا الامبراطورية قبل ثلاث سنين من ولادته. فلا عجب ان يكون كارل ماركس الشاب قد اطال التفكير في مفهوم الأغتراب مبكرا.
اذ كتب في خاطرة مدرسية تعود الى السابعة عشرة من عمره: نحن لا نستطيع دوما بلوغ الموقف الذي نعتقد بوجوب ان نوصف به، وذلك لأن علاقاتنا مع المجتمع تبدأ بتأسيس نفسها، الى حد ما، قبل ان نصل الى المرحلة التي نتمكن فيها من تحديد شكل هذه العلاقات.
بدأ ماركس الاستغراق في القراءة منذ طفولته، فيما ساعد الالحاق السابق لمدينته بفرنسا في انتشار شغف فرنسي الميل نحو مجالات السياسة والدين والحباة والفن. أما التأثير الفكري الآخر الذي لعب دورا في حياة الصبي ماركس فقد جاء من معلمه الخاص البارون لودفيغ فون فستفالم الليبرالي الواسع الثقافة الذي درسه (مع ابنته جيني فون فستالم، زوجة كارل ماركس في ما بعد) الشعر والموسيقى. واثناء جولات المشي الطويلة، كان البارون ينشد مقاطع شعرية من هوميروس وشكسبير، سرعان ما حفظها رفيقه الفتى عن ظهر قلب، ليستخدمها لاحقا كتوابل اساسية في كتاباته. وسبق لماركس ان استعاد، في شبابه، ذكريات تلك الجولات الجميلة مع البارون حينما كان ينشد مشاهد شعرية من شكسبير او دانتي او غوته امام افراد عائلته وهم يتنزهون، أيام ألعطل، في حدائق هامستيد هيث الساحرة. وقد كتب البروفسور س. س. برور ان كل فرد من عائلة ماركس كان مضطرا للعيش في ظل اجواء مثيرة من اشارات متواصلة الى الأدب الانجليزي، اذ لكل مناسبة ثمة مقتبس ادبي: لمسح الارض بخصم سياسي، لإعادة الحياة الى نص متخشب، لضخ الدفء في نكتة، لبث المصداقية في الاحاسيس- او لبعث النبض في مفهوم تجريدي لاروح فيه، كما هو الحال (في المجلد الأول من "رأس المال") عندما جعل رأس المال يتكلم عبر صوت شايلوك ( مسرحية "تاجر البندقية" لشكسبير ) مبررا استغلال عمل الاطفال في المصانع.
فعندما احتج العمال ومفتشو المصانع عليه مستندين الى قيم اخلاقية وصحية، تصدى رأس المال مجيبا:
أنا وحدي المسوؤل عن افعالي
اريد تطبيق القانون وتوقيع العقوبة
وتطبيق احكام العقد.
وللبرهنة على ان النقود تلعب دورا جذريا كرافعة، يورد ماركس مقتطفا من تيمون الأثيني (شكسبير): "النقود هي البغي المشتركة بين البشر" يليه مقتطف آخر من انتيغونا (سوفوكليس): "النقود! النقود هي لعنة الانسان، ليس هناك لعنة اكبر. النقود هي من يخرب المدن، من ينفي الرجال من اوطانهم، انها تغوي وتخدع الارواح الفائقة الصفاء، تدفع الناس الى طريق الخسة والعار...". كما شبه الأقتصاديين الذين يقدمون تحليلات تنطوي على مفارقات تاريخية بـ "دون كيشوت" الذي "انزل به القصاص لأنه تخيل خطأ بان ترحال الفرسان الهائمين على وجوههم يتناغم بشكل متساو مع كل الاشكال الاقتصادية للمجتمع".
ولعل طموحات ماركس كانت محض ادبية في البداية. فعندما كان طالبا للحقوق في جامعة برلين ألف ديوانا شعريا، ومسرحية شعرية وحتى رواية بعنوان "العقرب وفيلكس" كتبت على عجل في نوبة من نزوات الانتشاء اثر وقوعه تحت سحر الرواية الكوميدية المشهورة "تريستان شاندي" التي ألفها لورنس ستيرن. لكن ماركس اعترف بالهزيمة بعد هذه التجارب: "فجأة، كما لو انها لمسة سحرية- آه كانت اللمسة أول ضربة ساحقة – وقع نظري على المملكة النائية للشعر الحقيقي مثل قصر ناء لعبقر واستحالت مخلوقاتي الى لاشيء... اسدلت الستارة، واقدس اقداسي تحطم الى شظايا، وتوجب رفع آلهة جديدة".
وبعد تعرضه الى مايشبه الانهيار العصبي، امره الطبيب ان يتوجه الى الريف للاخلاد الى فترة نقاهة طويلة، وهناك استسلم، في النهاية، الى الصوت الحميم لجورج فيلهلم فريدريك هيغل، استاذ الفلسفة في برلين الراحل للتو الى العالم الآخر، لكن الذي غدت مؤلفاته موضوعا لنقاشات ساخنة بين مريديه من الطلبة وكذلك اساتذتهم. وهيغل كان في شبابه مثاليا ونصيرا متحمسا للثورة الفرنسية، بيد انه تحول، في كهولته، ليغدو رخي البال لينا ومؤمنا بان الانسان الناضج حقا يجب ان يسلم بـ "الضرورة الموضوعية لعالمنا ومعقوليته كما نجدها". فوفقا لهيغل "كل ما هو واقعي معقول"، ولذا فقد جادل انصار هيغل المحافظون بان الدولة البروسية مادامت واقعا فهي موجودة بهذا المعنى، من دون اي شك، وبالتالي فانها معقولة وفوق اي نقد. اما اولئك الذين ظلوا يؤمنون بمفاهيم هيغل المبكرة – ويطلق عليهم "الهيغليون الشباب" – وكانوا أكثر راديكالية بكثير، فانهم فضلوا الاستناد الى النصف الثاني من ذلك المفهوم الذي ينص على ان:"كل ما هو عقلاني واقعي". فنظام ملكي مطلق دعامته الاساسية مراقبو المطبوعات والشرطة السرية لايمثل العقلانية باي شكل صريح ولذلك فهذا النظام غير واقعي، انما مجرد سراب سيتلاشى حالما يجرؤ أحد على المسّ به.
وعن ايامه في الجامعة يقول ماركس: "عمدت في العادة على التقاط مقتطفات من جميع الكتب التي قرأتها". وهي عادة لم يتخل ماركس عنها مطلقا. وتظهر قائمة قراءاته في تلك الفترة مدى نضجه المبكر في حفرياته الفكرية. فحينما كان يكتب دراسة عن فلسفة القانون، قام بدراسة تفصيلية عن تاريخ الفن الذي ألفه وينكلمان، كما بدأ يعلم نفسه الانجليزية والايطالية، وترجم كتابي "جيرمانيا" لتاسيتوس و"الخطابة" لأرسطو، وقرأ مؤلفات الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون، وقال "قضيت وقتا طويلا ممتعا مع ريماروس‘ وانكب عقلي ببهجة على كتابه الذي يدور حول الغرائز الفنية للحيوانات". وهذا الاسلوب المتشعب المصادر، النهم القراءات، المهتم بتلمس كل جوانب الموضوع هو ذاته الذي استخدمه في بحثه حول رأس المال مانحا مجلداته اتساعا استثنائيا في مصادره. وفي اطروحته لنيل الدكتوراه المعنونة "الاختلاف بين الفلسفتين الـديموقريطسية والابيقورية" يبدو توصيف ماركس لديموقريطس وكأنه رسم لصورة ملفتة للنظر لذات ماركس نفسه: "كان شيشرون يطلق على ديمقريطس تسمية: ضليع في الفيزياء، وفي علم الاخلاق، والرياضيات، وفروع المعرفة الانسكلوبيدية وفي كل واحد من انواع الفنون".
وبدا الدكتور* كارل ماركس، لفترة من الزمن ، غير واثق من افضل السبل لاستخدام معرفته الموسوعية. فقد فكر، بعد حصوله على الدكتوراه، ان يعمل كمحاضر للفلسفة لكنه قرر، بعدئذ ، ان قربه زمانيا ومكانيا من اساتذة الجامعات امر لايمكن ان يطاق من يريد ان يفرض عليه ، دوما ، التحدث مع مخلوقات فكرية لافائدة فيها، اناس واظبوا على الدراسة، فقط ، من اجل التوصل الى غايات جديدة لاحياة فيها في كل زاوية من العالم ! ‘. اضافة الى ذلك، كانت افكار ماركس تتحول، منذ تخرجه من الجامعة، من المثالية باتجاه المادية، من المجرد الى الواقع. وكتب عام 1842 مادامت كل فلسفة حقيقية ما هي الا خلاصة زمانها ، يجب ان ياتي زمان تصبح فيه الفلسفة ليس على اتصال مع العالم الواقعي ليومها فحسب، بل ومتفاعلة معه ، ليس فقط داخليا عبر مضمونها، بل خارجيا عبر شكلها أيضا.‘ وبدأ ، في ذلك الربيع ، يكتب في صحيفة راينسش زيتنغ الليبرالية الجديدة التي تصدر في كولون، وبعد ستة اشهر فقط عين رئيسا للتحرير فيها.
* الدكتور لقب يحرص بعض البريطانيين اطلاقه على ماركس تحببا.
واتسم عمل ماركس في الصحافة باندفاعه الجريء مما يفسر سبب امضائه معظم حياته في المنفى والعزلة السياسية. فمقالته الاولى ذاتها احتوت على هجوم ساحق على كل من تعصب للنظام الاستبدادي للدولة البروسية من جهة وعلى خصومها الليبراليين البلهاء من جهة اخرى. كما انه لم يكتف بخلق اعداء له بين اوساط الحكومة والمعارضين لها معا، بل استدار على رفاقه انفسهم، شاجبا لدى الهيغليين الشباب "فظاظتهم وبذاءة لسانهم". وبعد شهرين فقط من تسنم ماركس لمسوؤلية رئاسة تحرير الجريدة، أمر حاكم المقاطعة من مسوؤلي رقابة المطبوعات في برلين بتقديمه للمحاكمة بسبب نقده الوقح والمهين"، فيما ناشد نيقولاي ، قيصر روسيا ، الملك البروسي الامر باغلاق الجريدة، بعد ان شن ماركس هجوما على القيصر وحكومته في مقالات ساخرة عنيفة. وهكذا صدر الامر باغلاق الجريدة في آذار/مارس 1843، حيث كان لماركس من العمر 24 عاما عندما جند قلمه لاشاعة الفزع في التيجان الجاثمة على دول أوربا مثيرا سخط ملوكها. وعندما ادرك ماركس ان لا مستقبل له في بروسيا قبل دعوته للأنتقال الى فرنسا للعمل كرئيس تحرير مشارك لجريدة جديدة يصدرها المنفيون الالمان باسم دويتش - فرانزوسش جاهربوشر. لكن ماركس ارسل توضيحا واحدا فقط : "عقدت خطوبتي واتهيأ للزواج، ولن استطيع ولا يجب ولن اغادر المانيا من دون خطيبتي".!
تزوج كارل ماركس جيني فون فستفالن في حزيران/يونيو 1843. واثناء بقية فصل الصيف، عندما كان ينتظر استدعاء الجريدة له الى باريس، تمتع بقضاء شهر عسل طويل مع زوجته في منتجع كرويزناخ. وحينما كان لايمضي وقته بالتمشي غرب النهر، كان يلزم غرفته يقرأ ويكتب بنهم شديد. فقد كان ماركس يحب كتابة افكاره التي يتوصل اليها على الورق. وتظهر صفحة بقيت من دفتر ملاحظاته آنذاك صيرورة عمله:
"ملاحظة. تحت حكم لويس السادس عشر، الدستور نعمة على الناس من الملك (وثيقة فرضها الملك)، وتحت حكم لويس فيليب ، الدستور نعمة من الناس على الملك ( وثيقة تفرض الملكية). وعموما يمكننا ملاحظة ان تحويل المسند اليه الى مسند ، والمسند الى مسند اليه، وتبديل من يقرر الى ما يقرر، يمثل دوما ثورة قريبة جدا.... فالملك يضع القانون (الملكية القديمة ) ، القانون يصنع الملك ( الملكية الجديدة ).
بيد ان قلب القواعد البسيط هذا يكشف ايضا عن خلل في الفلسفة الالمانية. فقد افترض هيغل ان "فكرة الدولة" هي الفاعل والمفعول به هو المجتمع، في حين ان التاريخ اظهر ان العكس هو الصحيح. بيد ان قلب هيغل رأسا على عقب يحل بنجائجة المشكلة: فالدين لا يصنع الانسان بل الانسان يصنع الدين، والدستور لايخلق الشعب بل الشعب يخلق الدستور. وبرغم ان ماركس استلف الفكرة من لودفيغ فيورباخ ، الذي جادل في كتاب له ان الفكرة تنهض من الوجود ، وليس الوجود من الفكرة فان ماركس وسع منطقها من الفلسفة المجردة الى العالم المادي. وكما كتب في اطروحة حول فيورباخ نشرت عام 1845 ، ان الفلسفات لم تقم حتى الآن إلا بتقديم تفسيرات للعالم والمطلوب الآن تغييره.. هنا، على شكل نطفة بعد، الاطروحة الاساسية لمجلدات "رأس المال". فالرأسمالية تظل، برغم النجاحات الاقتصادية الباهرة والواضحة، تلعب دورا كارثيا لأنها تحول الناس الى مجرد سلع قابلة للمقايظة بسلع اخرى. وحتى تلعب الانسانية دورها المؤكد في كونها فاعلا للتاريخ وليس مفعولا به ، فليس هناك مهرب من استبداد الراسمالية.
كان اعضاء الهيئة الثلاثية المشرفة على جريدة "دويتش - فرانزوسش جاهربوشر"، وهم كارل ماركس، والصحافي آرنولد ريوج والشاعر جورج هيروغ، قد وصلوا الى باريس في خريف عام 1843 واسسوا "تعاونية اشتراكية" أي كومونة في منطقة ريو فانيو، تلهمهم التعاليم الطوباوية للفيلسوف الاشتراكي الفرنسي شارل فورييه. وكانت حياة تجربة العيش في ظل الكومونة قصيرة الأمد مثل حياة الجريدة نفسها: بعد عدد واحد اختلف المحررون الثلاثة مع بعضهم وتفرقوا. بعد ذلك، قبل ماركس عرضا بالكتابة في جريدة "فورفاتس" الشيوعية النصف شهرية التي كان يصدرها المنفيون الالمان ، والتي عرض ماركس على صفحاتها لاول مرة قناعاته بان الوعي الطبقي يمثل بذور الاخصاب للثورة. اذ قال فيها ان "البروليتاريا الالمانية تلعب دور المنظر للبروليتاريا الأوربية ، بالضبط كما تلعب البروليتاريا الانجليزية دورها الاقتصادي والبروليتاريا الفرنسية دورها السياسي". وذلك قبل ان يعلن أنجلز لاحقا ان الماركسية ذاتها هي مزيج من هذه الروافد الثلاثة. وكان ماركس ، في هذه الفترة ، احكم القبض على زمام الفلسفة الالمانية وعلم السياسة الفرنسي ، وتوجب عليه بعدهما تثقيف نفسه بالاقتصاد البريطاني ، فبدأ يقرأ مؤلفات آدم سميث ، ديفيد ريكاردو وجيمس مل مدونا بعجالة تعليقاته النقدية على كل صفحة يمر عليها في مؤلفاتهم. هذه التعليقات النقدية ، التي جمعت في كتاب ونشرت تحت عنوان "مخطوطات باريس" تمثل المسودات الاولى لما غدت عليه لاحقا مجلدات راس المال.
وتبدأ اول مخطوطة بتأكيد مباشر: يحدد الاجور الصراع الضاري بين الراسمالي والعامل. ويكسب المعركة الراسمالي حتما. يستطيع الرأسمالي الاستمرار في الحياة مدة اطول من دون العامل ، لكن العامل لا يقدر على ذلك من دون الراسمالي.‘ واذا كان رأس المال لاشيئ غير الثمار المتراكمة لجهود العمال ، فاذن ، فان رؤوس اموال البلاد ودخلها لا تنمو الا عندما تستلب من العمال منتوجاتهم اكثر فاكثر ، وعندما يواجه العامل باضطراد عمله كملكية غريبة عنه وتتركز تصاعديا وسائل وجود العمال وجهودهم بايدي الراسمالي ‘. وحتى في اكثر الظروف الاقتصادية ملائمة ، فان مصير العامل سيواجه ، حتما ظروف كدح اشد ، وموتا مبكرا ، اختزاله الى آلة، وعبودية لرأس المال ‘. ويصبح عمله كائنا خارجيا يوجد خارجه ، مستقلا عنه وغريبا عليه ، ويبدأ بمواجهة العامل كسلطة ذات حكم ذاتي، والحياة التي نفخها العامل على الشيئ يواجهه ككائن عدواني وغريب ‘. هذه الصورة استمدها من رواية " فرانكشتاين " ( كتبتها ماري شيلي زوجة الشاعر الرومانطيقي الشهير شيلي ) وهذه الرواية احد الكتب المحببة الى نفس ماركس ، وتحكي قصة رجل يخلق في مختبره وحشا ، فينقلب الوحش ضد خالقه. ورغم ان بعض الباحثين الكبار يدعون ان هناك قطيعة جذرية ‘ بين فكر ماركس الشاب وماركس الراشد ، فان تحليلات ماركس وتعبيراتها المذهلة تشي بكل وضوح بان كاتبها هو ماركس نفسه الذي جادل في رأس المال ، بعد اكثر من 20 سنة ، بان الوسائل التي تزيد الراسمالية بها الانتاج تتمثل بـ تحويل العامل الى شبح لأنسان ، تحط من انسانيته الى حد تحويله الى آلة ، تدمر المضمون الحقيقي لعمله بتحويل هذا العمل الى نوع من التعذيب ، وتدفعه الى الاغتراب عن الطاقات الفكرية الكامنة في صيرورة العمل.... تحول زمن حياته الى زمن للعمل ، وتجر زوجته واطفاله الى مطحنة الراسمالية الساحقة‘.
في شهر آب/اغسطس 1844 عندما كانت جيني زوجة ماركس تزور امها في المانيا ، جاء فردريك انجلز ، وكان عمره 23 عاما لزيارة ماركس في باريس. كان ماركس وانجلز قد التقيا ، سابقا ، بشكل سريع ، لمرة واحدة فقط ، في مكتب جريدة راينسش زيوتنغ ، وكان ماركس معجبا بشكل عميق بكتاب انجلز المعنون نقد الاقتصاد السياسي ‘ والذي قدمه الى جريدة دويتش – فرانزوسش جاهربوشر. ويستطيع المرء القول لماذا : برغم ان ماركس يعتقد ، الآن ، بان القوى الاجتماعية والسياسية تحرك عجلة التاريخ ، لكن مايفتقده هو المعرفة المباشرة بالراسمالية في التطبيق. وكان أنجلز مؤهلا ان ينير له الطريق ، فهو ابن ووريث الماني لصناعي يملك مصانع للقطن في مانشستر – قلب الثورة الصناعية ومولد الرابطة المناهضة لقانون الحبوب ( تقييد حرية تصدير واستيراد الحبوب الذي ادى الى حركات احتجاج واسعة النطاق اذ ادت الى ارتفاع كبير في اسعار الخبز ) ، مدينة كبيرة تعج بالحركات التشارتية ( منظمات انجليزية في القرن التاسع عشر هدفت الى تحسين اوضاع الطبقة العاملة من الناحيتين الاجتماعية والصناعية ) ، انصار روبرت اوين ( مصلح اجتماعي واشتراكي بريطاني ) والنشطاء الاشتراكيون من كل الالوان. انتقل انجلز الى مقاطعة لانكشاير في خريف عام 1842 ، ظاهريا ، لتعلم مهنة العائلة ، وفي الحقيقة ، قصد الاطلاع على العواقب الانسانية التي ادت اليها الراسمالية في ظل العهد الفيكتوري. وكان انجلز ، في النهار ، مديرا شابا ماهرا في بورصة القطن ، وبعد ساعات يغير وجهته، ويمضي وقته متحريا شوارع البروليتاريا واحياء الفقراء القذرة في المدينة لجمع مواد لرائعته المبكرة " وضع الطبقة العاملة في انجلترا ( 1845 ).
وبرغم ان ماركس وانجلز قضيا سوية 10 ايام فقط في باريس ، الا ان الجرد الوحيد لنقاشاتهم الملحمية وردت على شكل جملة واحدة فقط كتبها انجلز بعد 40 سنة : عندما زرت ماركس في باريس خريف عام 1844 ، غدا واضحا اتفاقنا التام في جميع المجالات النظرية وبدأ عملنا المشترك منذ ذلك التاريخ. ‘ لقد اكملا بعضهما بشكل تام – ماركس بثروة معلوماته ، وانجلز بخبرته بالثروة. كان ماركس يكتب ببطء ومعاناة ، وتتناثر على صفحات مخطوطاته كثرة من الاشياء المحذوفة بالحبر والتصحيحات ، بينما كانت مخطوطات انجلز مرتبة و انيقة وكانه حقا من رجال الاعمال. كان ماركس يعيش حالة من الفوضى والفقر المدقع معظم حياته ، فيما كان انجلز يتسلم راتبا ممتازا ويواصل انتاجا هائلا من الكتب والرسائل والمقالات الصحفية – ويجد ، في الوقت نفسه ، الوقت للتمتع بمستوى عال من الحياة البرجوازية – اذ كانت هناك حصن في اصطبلاته والكثير من النبيذ في قبوه. ومع ذلك ، برغم ايجابيات الحياة الواضحة لصالحه ، كان انجلز يعرف منذ البدء انه لن يكون ابدا الرفيق المهيمن في هذه الشراكة. وتقبل من دون اية شكوى اوغيرة ، بان واجبه يتمثل في ان يقدم الدعم الفكري والمادي الذي يجعل من حياة ماركس وعمله اقل عناء. وكتب يقول ، لا استطيع ، ببساطة ، ان افهم كيف يستطيع احد ان يحسد عبقريا ، فالعبقرية شيئ خاص جدا ، ونحن الذين لانملكها يجب ان نعرف ، منذ البدء ، انه حق لايمكن الحصول عليه، وعليه ان تكون حاسدا لعبقري فلا يعني ذلك الا انك ، بالتأكيد ، صغير العقل بشكل مرعب. "
لم تكن هناك بينهما اسرار او محرمات : المراسلات بينهما ماهي الا مزيج لاذع من التاريخ ونقد الآخرين اقتصاديات ملغزة ونكات تلاميذ المدارس. وادى انجلز دوره كراع بديل لماركس – يبعث له بالنقود ليقتات بها ، يهتم اكثر ما ينبغي بتفاصيل حياته الصحية ويحذره دائما بالا يهمل ابحاثه. ومن اوائل الرسائل المتبقية في شهر تشرين الثاني /نوفمبر 1844، كان يحث فيها ماركس بالحاح، ودون تأخير ، بتحويل ملاحظاته السياسية والاقتصادية الى كتاب للنشر : اسع الى اطلاق المواد التي جمعتها الى العالم بسرعة. لقد أزف وقت ذلك ، و انت ادرى بذلك ، بحق السماء ! ‘ وبدأ صبر انجلز ينفذ بعد ثلاثة شهور : حاول ان تكمل كتابك في الاقتصاد السياسي حتى لو كان الكثير فيه مما لايرضيك ،لايهم الامر حقا ، فالعقول قد نضجت ويجب ان نوجه ضربتنا مادام الحديد ساخنا... حاول ، لذلك ، ان تنهيه قبل شهر نيسان ، نظم امرك كما افعل ، ضع لنفسك موعدا اخيرا تكمل فيه الكتاب بلا ريب، وتأكد ان تدفعه الى الطبع سريعا.‘ الا ان كل هذا ماهو الا امل لايرتجى ‘ اذ مرت 20 سنة قبل ان يسلم المجلد الاول من رأس المال الى المطبعة.
وليس انجلز نفسه برئ تماما من اللوم هنا. فبعد فترة قصيرة من لقائه بماركس في باريس ، اقترح انجلز التعاون معا في كتابة كراس قصير – لا يتعدى ال 40 صفحة يتضمن نقدا للهيغليين الشباب الاكثر حماسا. وبعد ان اكمل نصيبه مسطرا 20 صفحة في ايام معدودة ، لم تصب أنجلز الدهشة الا قليلا ‘ عندما عرف بعد عدة شهور الى ان الكراسة انتفخت ، حينها ، الى 300 صفحة. كان ماركس من نوع الكتاب الذي لا يستطيع مقاومة الاغراء، مفضلا قضاء متعة مباشرة في تسطير الكراسات والمقالات على الجهود الصامتة التي لا بهجة آنية فيها التي يتطلبها العمل في تحفته ، التي عنونت , حينها ، مؤقتا ب نقد الاقتصاد والسياسة. وبرغم وعده بتسليم المخطوطة الاقتصادية الى الناشر الالماني كارل ليسكه عند حلول نهاية صيف 1854، فانه وضع المخطوطة جانبا بعد ان كتب جدول المحتويات ليس الا. واوضح للناشر ليسكه ، الامر المهم جدا، كما يبدو لي، ان يسبق تطوري الايجابي تأليف تفنيد عنيف مثير للجدل ضد الفلسفة الالمانية والاشتراكية الالمانية حتى الوقت الحاضر.