كارل ماركس وفريدريك انجلز..للصداقة قيمة جمالية

كارل ماركس وفريدريك انجلز..للصداقة قيمة جمالية

عبد العزيز لازم
لم يزودنا تاريخ الفكر البشري بمثال واحد عن علاقة شخصية بدأت من الرأس وحتى الوجدان كتلك العلاقة التي ربطت بين فيلسوفين سياسيين ثوريين في ظروف لا تؤدي بالضرورة الى خلق صداقات ذات بعد استثنائي .

كانت الصداقة بين كارل هاينريش ماركس (1818-1883 ) وفريدريك انجلز(1820-1895) صفحة عاكسة لجملة من المواقف والتاملات الداخلية وجهود التنقيب المستقل فضلا عن ذلك النوع من االعاطفة غير المعلنة التي تفاعلت دون اتفاق . لم يكونا توامين ولم يولدا في مدينة واحدة ولم يجلسا على مفاعد دراسية متقاربة ولم يقضيا اوقات طفولة في شارع او حي واحد ، بل ان تاريخي مولدهما وموتهما كانا مختلفين . اما الانتماء الطبقي لكليهما فلم يكونا متطابقا ايضا . جاء كارل ماركس من عائلة تنتمي الى الطبقة الوسطى في مدينة (ترير) الالمانية وتلقى ثقافته الاكاديمية في مدن بون وبرلين وجينا .في عام 1842 وبعد مساهماته في صحيفة ( راينشة تسايتونك ) اصبح محررا فيها فصارت كتاباتها بذلك تثير الجدل بل ومخاوف السلطات لأنها كانت توجه النقد الى الظروف السياسية والاجتماعية التي كان المجتمع في المانيا يعيشها . لحد هذا العام لم يظهر انجلز في حياة ماركس . بل ان انجلز الذي ولد في مدينة «بارمن» ( برتال الآن ) والذي انحدر من عائلة بروتستنتانية ثرية ارسل الى انكلترا من قبل عائلته لدراسة الطرق التجارية في مصنع للغزل في مانشستر ، وهناك كان وجها لوجه مع المعاملة القاسية التي كان يتلقاها عمال مصنع النسيج فاصدر كتابا مبكرا بعنوان ( ظروف الطبقة العاملة في انجلترا ) بين عامي 1842 و1844 الذي يسلط فيه الضوء على الظلم الشرس الذي كان العمال الصناعيون وعمال المناجم والعمال الزراعيون يتلقونه من الراسماليين في بداية القرن التاسع عشر . اتصل بحركة الشارترية (الوثيقية) وهي حركة تدعو الى توسيع حقوق العمال في التصويت ثم قام بعمل دراسة عن الاقتصاد السياسي وعبر عن قناعته بان شرور العصر هي نتيجة حتمية لهيمنة مؤسسة الملكية لخاصة ولايمكن ازالتها الا بالنضال الطبقي الذي يبلغ ذروته في المجتمع الشيوعي . ان تلك النشاطات المستقلة قد اسست السمعة الميزة لفريدريك انجلز كاقتصادي سياسي ثوري من جهه وأقامت عناصر التماثل في الافكار بله في وسائل البحث بينه وبين صديقة القادم كارل ماركس الذي لم يلتق به لحد هذه المرحلة ( 1844) من جهه اخرى .
في وقت آخر من تلك السنة ( 1844) فقط التقى انجلز ماركس حينما زاره في باريس . وكان ماركس قد نشر بعض الأعمال حول الفكر الشيوعي . لقد اكتشف الرجلان انهما قد توصلا بشكل مستقل الى افكار متطابقة . واكتشفا ايضا وبسرعة غريبة عناصر الصداقة التي جمعت بينهما ليس اثناء حياتهما فقط , بل واصلت تلك الصداقة الاسطورية فعاليتها وحيويتها حتى بعد وفاتهما . وقد تباهى بها لينين بعد ذلك في القرن العشرين واعتبرها واحدة من الانجازات الجمالية الشيوعية التي لم يستطع المجتمع الراسمالي انتاج مثيلا لها وقد تحداهم علنا ان هم ذكروا مثالا حياتيا على نشوء صداقة تشبة تلك التي ربطت بين ماركس وانجلز ،بل كان لينين يعتقد ان تاريخ الفكر البشري باسره لم يقدم نموذجا من نماذج الولاء الثنائي الطوعي المتبادل بين مفكرين استطاع عنصر التكامل بين نشاطهما الفكري ان يؤسسس لصداقة متعددة الجوانب وراسخة في التاريخ.
بعد لقاء باريس تعاهد الصديقان على العمل معا وكان ذلك العنصر هوالعنصر الاقوى من بين العناصر الاخرى في تعميق روح الصداقة بينهما . ان هذا التعاون الذي استمر حتى بعد وفاة ماركس ( 1883 ) اتخد اتجاهين رئيسيين اولهما الشرح المنهجي لمبادىء الشيوعية التي عرفت فيما بعد بالماركسية وثانيهما العمل من اجل تنشيط الحركة الثورية في العالم من خلال الاممية الشيوعية . وقد اتفقا على نوع من تقسيم العمل فيما بينهما ، فرغم ان كلاهما بذلا جهدا مكثفا لدراسة الفلسفة الا انهما قررا وفق اتفاق تقسيم العمل ذاك على ان يقوم ماركس بتناول الفكر السياسي والاقتصادالسياسي والتاريخ الاقتصادي . بينما ركز انجلز على العلوم الطبيعية والرياضيات وعلم الانثروبولوجيا والعلم العسكري واللغات . وقد انتج ذلك النشاط التكاملي للصديقين من اجل الفكر الجديد ظهور اعظم بيان عرفه التاريخ الحديث في الشرق والغرب وهو البيان الشيوعي الذي لا يستطيع أي ادب سياسي ثوري في العالم ان يتجاوز تاثيراته ولا يستطيع أي ادب شيوعي الا ان يعود اليه باعتباره مرجعا فكريا شاملا رغم ايجازه . فماذا كانت آلية ظهور تلك الوثيقة ؟ لقد وضع انجلز نفسة مسودة البيان وعرضه على ماركس الذي اعاد قرائته ثم وضع الصيغة النهائية له . وهذا مثال يوضح مدى مساهمة فريدريك انجلز في بناء الفكر الشيوعي . وثمة مثال آخر لا يقل اهمية وخطورة عن ذلك هو ان ماركس لم يستطع اكمال الجزئين الثاني والثالث من كتابه الرئيس ( راس المال ) بسبب الارهاق والفقر المدقع فضلا عن انشغاله في ادارة المجلس العام للأممية ، فبعد وفاته قام صديقه انجلز بانجاز تحرير ذينك الجزئين استنادا الى ملاحظات ومسودات تركها ماركس نفسه وطبعا بفضل مساهمات انجلز ايضا الذي تكاملت افكارة الشيوعية مع افكار صديقه .
اما الفقر المدقع الذي كان يعيشه ماركس في لندن فكان ايضا حقلا آخر يرسم صورة الصداقة النادرة مع انجلز فلولا مساعدات انجلز المادية لماركس لما استطاع الاخير ان ينجز الكثير مما انجزه بل لما استطاع الاستمرار في الحياة كما يرى بعض مؤرخي الشيوعية . في رسالة مؤثرة ينقلها ديفيد ريازانوف في كتابه (كارل ماركس وفريدريك انجلز ، مقدمة عن اعمالهما وحياتهما ) كتبها ماركس الى انجلز وكان يواجه صعوبات جمة في اعداد الجزء الأول من كتابه( راس المال ) للنشر : ( لقد انتهيت من هذا الجزء اخيرا ، انني مدين لك في امكانية انجاز ذلك. فبدون تضحياتك الشخصية من اجل تقديم الدعم كان من غير الممكن بالنسبة لي الاستمرار في العمل الشاق من اجل وضع الاجزاء الثلاثة .» الفصل الحادي عشر من كتاب كارل ماركس وفريدريك انجلز )
كانت مساهمات انجلز في دعم صديقه ماديا ذات اثر كبير في تمكينه من العيش ومواجهة العوز المعيق لأنجاز الكثير من الاعمال الفكرية والثورية فقد كان ماركس ومن بعده انجلز دائمي الاتصال بالثوريين في مختلف انحاء العالم من خلال الاممية الاولى التي انحلت عام 1872 ومن ثم تكوين الاممية الثانية عام 1889 والاخيرة انبثقت بعد وفاة ماركس بمساهمة نشيطة من قبل انجلز الذي اصبح عضوا في مجلسها العام . ان ارسال انجلز الى مانشستر للعمل في مصنع النسيج هناك قد مثل انعطافة كبرى في حياته الفكرية والسياسية وقد احتفظ بوضعه الوظيفي كاجير في المصنع حتى بعد وفاة والده الذي ترك ثروة كبيرة كرجل اعمال ، الا انه تخلص من العلاقة التجارية ضمن تلك التركة بعد فترة قضاها عضوا في قيادة الشركة المتولدة وكان يصفها ب( تجارة الكلاب ) . وقد اعلم صديقه بانه كان يحاول الاتفاق مع شركائه بالاحتفاظ بوضع يمكنه من تحقيق الاستقلال الاقتصادي له ولصديقه ماركس لتدبير امور عيشهما الضرورية قبل الانفصال عنهم وترك تلك التجارة وقد احيل على التقاعد بعد خمسة اعوام . لقد استطاع تخفيف العبىء المعيشي عن ماركس بكرم فائق لم يكن ميسورا في تلك الايام التي تصاعد فيها التكالب على المصالح الانانية بفضل طبيعة العلاقات بين الناس التي اشاعتها الراسمالية في حياتهم.
شارك انجلز صديقه ماركس في جميع مراحل بناء الحركة الثورية في العالم فقد رافقه الى كولون عام 1948 لمتابعة الثورة التي اندلعت في بعض الاقطار الاوربية واصدرا سوية صحيفة شيوعية لخدمة الثورة وبعد فشلها عادا الى لندن . واثناء اعوام ماركس الاخيرة تسلم انجلز زمام عضوية المجلس العام للاممية الثانية بعد ابتعاده عنها لفترة طويلة ، لكنه استطاع مواصلة الاتصال بالثوريين في العالم مستفيدا من اتقانه لأثنتي عشر لغة معروفة وموظبا قدرته على النقاش والاقناع في علاقاته مع الثوريين في مختلف انحاء العالم .ورغم انه اصدر اعمالا عملاقة في المجال الفكري الماركسي مثل ( دياليكتيك الطبيعة ) و( اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ) و( ضد دوهرينك ) وغيرها الا انه عرف بقوله الشهير المشحون بالجمال الانساني وعنوان التواضع حول علاقته بماركس:( لقد كنت دائما عازف الناي الثاني الى جانب ماركس. ) فاي جمال يتزين به الفكر ومناهج التغيير أكثر من ذلك ؟

مصادر
- كارل ماركس وفريدريك انجلز ، مقدمة حول اعمالهما وحياتهما ، الفصل الحادي عشر _ ديفيد ريازانوف
- مايكروسوفت ستودينت 2009 – انكارتا