طالب القرغولي.. (حن وانه حن) تعيده إلى الغازية وحيدا

طالب القرغولي.. (حن وانه حن) تعيده إلى الغازية وحيدا

د. جمال العتابي
«الغازية» *، قرية أثيرة لا تبتعد عن الغراف، إنها متشبثة فيه، بأشجار الصفصاف وأزهار الدفلى، وعروق حبات السعد، لا تبتعد عن التاريخ، فآثار سومر، تحيط بها، وتلال لكش على مقربة منها ، تبدو كغيوم باهتة تطل عليها من جهة الشرق، ونخيل (قراغول) من بستان الحاج شكبان ، تنحني على الضفة اليسرى من النهر مثل شعر فتاة معطر بالحناء، والطين خاوة.

الغراف لا يبدو حاد المزاج، يجري بهدوء، يحفل بالقوارب القادمة من الجنوب تحمل التمر المطبوخ، والحبوب، الإنسان يتحدى التيار، يصعد نحو الشمال بصلابة ذراعه وصبره، انه مثل للقوة المتدفقة في الأنهار على مر العصور.طالب القره غولي يعود لهذا المنبت .. إلى الجذور تلك وهو مشدوداً إليها.. لم يغادرها.. حاضرة في عقله ووجدانه وقلبه، بعد رحيل عنها لعشرات السنين. بعودته كليلا، وحيدا..
يحيلني طالب لتذكر أيام طفولتي الأولى، فأشاركه الشعور بالحنين إلى تلك الضفاف المنبسطة ، أمام مدرسة البنات التي شغلت بناية قديمة لماكنة الطحين، إنها المرة الأولى التي يتدافع فيها الآباء يتسابقون لتسجيل بناتهم في المدرسة، يتعلمن القراءة الخلدونية على يد معلم، وضع أهالي الغازية ثقتهم فيه، ليرعى بناتهم اللواتي أصبحن صبايا ناضجات، يعلمهن أولى الحروف، ودرس الحساب والواجبات الأخلاقية، والأشياء والصحة والرسم والرياضة، انه المعلم، والمدير والمربي بآن واحد.. لا شك إن ذاكرة أبناء المدينة تختزن لهذا الطراز من المربين أثرهم الايجابي في تربية الأبناء ، وأنا واحد من هؤلاء الأبناء الذين يفخرون بهذا المعلم الذي كان والدي.
في الشارع المحاذي لمدرسة البنات ، في بيت طيني منه، يتسلل طالب بن بريح (القره غولي فيما بعد ) وقت الأصيل نحو تلك الضفاف، مخفيا نايه، (آلته الموسيقية الوحيدة) تحت ثيابه، في وقت تخلو الشوارع المتربة من المارة، إلا من كلاب تعوي، وفوانيس شاحبة معلقة على جدران متآكلة بفعل الريح والمطر ، جدران أدركت قهرها منذ زمن بعيد.. يحيط بطالب ثلة من أصدقائه.. ليبدأ الأنين بعزف على الناي فيأتي الصوت مثل مطر ناعم.. ينثال مثل الزهر ، غير آبه إلا لغناء صديق يطلق صوته بغناء جذل لحضيري أبو عزيز أو داخل حسن .. فيلتحم الزمان بالمكان، وتغدو الحياة في نظر أي منا أجمل وأمتع ، وهو يمارس دور الساحر.
شيوخ المدينة، يراقبون طالب بحذر وإمتاع .. لكنهم يخفون إعجابهم بهذا الغريد الشاب. ويتهامسون الحديث في مقهيين وحيدين لمحمد المدهوش ومحمد الجودة. إن طالب لا عمل له سوى (التموصل).. نسبة إلى (الماصول) وهي تسمية محلية للناي.. لكن لم يدر بخلدهم ذات مرة إن هذا (المموصل)، كان يوقد في ذاته مسارج الحانة، من عالم هؤلاء ، عالمه هو ، بيئته، ومحيطه وأحلامه.. ولو كان بمقدورهم أن ينتبهوا لموهبته... لكان لهم كلام آخر ...
لقد أخذت الغازية منه، والناصرية فيما بعد، مقاما حميما في تجربته إلى درجة الهوس ، لارتباط الحميمية بعالم القرية (مائها ، أهلها ، وداعتها ، بيوتها، الوافدين لها من القرى المجاورة).. إذ تمثل فيها الدف والنقاء والألفة والعطاء والمحبة ، وكل ما هو أصيل ورائع.
أيام الطفولة التي أتذكرها ترصد العالم بعيني الاندهاش ، والالتذاذ معا ، إنها تشكل بواكير الوعي بالذات وبالآخر من حولنا ، ترغمنا على الالتفات إليها ، إنها ليست في الرجوع إلى القرية ، إنما هي تعبير عن مخزون الذاكرة ، لا بلغة الماضي ، وإنما بلغة العصر وأدواته المتقدمة.
لم ندخل عصر الانقلابات بعد، ولا التطاحن السياسي والصراعات . كانت الحياة في القرية بسيطة عفوية لكنها ثرية عريضة، برموز متواضعة تمثل حقيقتنا الزمنية القاهرة التي نحيا داخل أسوارها العجيبة، لا تفتأ حتى تحتمي في إبداعات طالب.. كنا نرى القرية فردوسا لا نظير له في الجمال.. بضعة بيوت مشيدة من الآجر الملون كنا نعدها قصورا شامخة (قصر ارزيج، وقصر عبدالحسن عيسى)، واسطة نقل وحيدة برحلة يومية نحو الشطرة مصنوعة من الخشب .. يحشر فيها (الاوادم) مثل الأغنام ، ويعتلي سطحها ركاب آخرون يجدون متعة في التراب الذي يحيلهم إلى كائنات خرجت توا من دائرة القبور .. رجال ملثمون كالطوارق ، قادمون من الصحراء، وعائدون إليها.
يشهد طالب الفنان امتداد ذاته عبر هذه المشاهد اليومية.. مرة اثر أخرى.. ويتكرر مشهد السيد ظاهر ، وبستان جويسم وقناطر المناعية ، والنعومية، والفرهة ، والطبكة ، وصوت عبدالواحد الهلالي ، الشجي الحزين ، وهو يروي قصة واقعة الطف يوم العاشر من عاشوراء. وصوت الشيخ مرتضى الوائلي.. في مجالسه الحسينية.. ومواكب زفاف شباب أبناء القرية، و(اللوكسات) المضيئة المحمولة على الأكتاف، وصبري فرج مدير المدرسة الفنان الأسمر. رحيم الكتل .بدايات توهجه العلمي بذكاء نادرولافت للانتباه اهله لمواقع علمية سامية فيما بعد ومات في ظروف غامضة.
هو الامتداد عبر هذه العروق الإنسانية. الذي ولد الضوء والتوق للمجهول .. والتوهج ..
كانت الرحلة تبدأ من هنا، حيث كل الطاقات المحبوسة، وراء الاقفاص. الينبوع الذي نهل منه القره غولي سخاءه الفني ، مفصحا عن تجلياته وفيوضه اللحنية الجديدة. إنها الإشارة الأولى الصارمة المعلنة عن موهبة قادمة.
لم يبق طالب في حدود تلك العوالم، بل انتقل إلى مراحل جديدة ، حين بدأ يصوغ الحياة العراقية ، ويلتقط لمحات من موروث الغناء العربي الكلاسيكي، وغناء الجنوب الريفي ، والمقام العراقي. لم يدرس طالب ذلك في معهد موسيقي متخصص ، ولم يتعلم الموسيقى على يد معلم في مدرسة ، فالغازية ، ليس سوى الابتدائية فيها. التي تخرج منها ، هو، وعزيز السيد جاسم، وكاظم ظاهر، ومحسن الموسوي، والأشقاء محمد، وعباس الغرابي، وكاتب السطور.
فانتقل إلى الناصرية تلميذا في دار المعلمين الابتدائية ، ليتخرج معلما للأولاد... والناصرية موئل المبدعين، عالم آخر .. مدينة كالنجمة تتلألأ في سماء الخمسينات. مكتبات ، مسارح، سينمات ، شعر ، قصة ، تظاهرات احتجاج ، موسيقى غناء ، أسواق .. أحزاب ....
تأثر طالب بهذه الأجواء ، وهو القروي القادم من الغازية ، فأخذت منه مأخذا . لكنها عمقت وعيه ، وصقلت تجربته . ودربت مهارته . فاجتهد وثابر . مندمجا بهذا الوسيط . ومنسجما ومؤثرا فيه .. فانطلق نحو الآفاق الواسعة ، ولا نهائيات الزمان ، شابا يافعا يحمل كل مقومات الطموح والقدرة على الاكتشاف والتجاوز ..
فمنذ (ياخوخ يازردالي) بدأ العصف اللحني واقتحام التقليد، وكسر الجمود ، تفجير الطاقات الصوتية في حناجر لم تعرف الغناء والموسيقى، كسر الجمود والرتابة ....
هذا الالتقاط للجمال والمعنى والابعاد، الاكتشاف الاول بحق اين تكمن اسراره....؟
انه السؤال الذي يدعوني الى تتبع سبل الاجابة المقنعة عليه .
لذا ساعود الى البداية الاولى في انفلات الاغنية العراقية من نمطها التقليدي في اغنية (لاخبر) بصوت فاضل عواد. والحان المرحوم حسين السعدي والمعاصرون لتلك الحقبة نهاية ستينات القرن الماضي . يتذكرون جيدا ..ان اذاعة بغداد كانت تكرر بث الاغنية عشرات المرات يوميا لايقاعها السريع والجميل ، وكلماتها البسيطة ، فتحولت الى اغنية شارع يسمعها الملايين من الناس .. واكاد اقول وبلا مبالغة ان اغنية (لاخبر) احتلت الصدارة في تاريخ الاغنية العراقية الاكثر انتشارا وقبولا في الذائقة الغنائية للعراقيين .. كما انها وضعت مؤديها فاضل عواد امام مسؤولية فنية خطيرة لعمل غنائي يليها ...
كيف السبيل اذن .. ومن يستطيع من الملحنين ان يمنح عواد هذا الاستمرار في التألق وعدم الهبوط ، والحفاظ على الجماهيرية التي ينبغي عدم التفريط بها باغنية لاتتراجع الى الوراء ...
فكانت (اتنه ، اتنه ) التي صاغ الحانها طالب القره غولي خلاصا لهذا المأزق (العوادي) جاءت امتدادا وتاصيلا للنجاح الذي حققه فاضل . لينطلق بتجربته وهو اكثر ثباتا وثقة بمنهجه الغنائي المتميز . من اين لك ياطالب هذا التدفق ... اعود لسؤالي الذي اسلفت
لابد لي وانا احاول الاجابة على هذا السؤال .. أن اخوض البحث في مصادر الابداع التي تشكل موهبة الانسان.. واتفحص ماتتناقلة النظريات في هذا المجال .. للوصول الى اسرار هذا الالهام والكشف عن مكوناته : اذ يقول د. قاسم حسين صالح في كتاب الابداع وتذوق الجمال: ان مكونات الابداع تعود الى اربعة مصادر هي ( الحدس، التفكير، الحس، المشاعر وعلى اساس هذا النموذج تصنف خصائص المبدعين في اربعة فئات . فأين نضع طالب القره غولي من بين هذه الفئات؟ استطيع القول وفق هذا المنظور ان طالب موجود في كل تلك التصنيفات ... واكاد ان اجزم بالقول ان العنصر الرابع (المشاعر)، هو الاكثر التصاقا بتجربة طالب ونعني به التاثر الانفعالي ، والتعبير التلقائي عن العواطف ، الوعي الداخلي والسعي نحو تحقيق الذات... دون ان نقلل من تاثير العناصر الاخرى في الاهمية .. وصولا الى مرحلة الاشراق، التي تبوأها طالب في اعماله الخالدة بدءاً : من جذاب مرورا بالناصرية ، ليل البنفسج ، كالولي ، اعزاز ... وعشرات الدرر واللالى اللحنية .
(الاشراق ) ، ويسمى الالهام او التبصر، اذ تفيد الدراسات التي اجريت عنها، انها كانت مدهشة حتى لاصحابها، انها كومضة برق مفاجئة (الابداع ص 34). هكذا يخيل الي ان القره غولي وهو يصوغ الحانه.. انما هو يعيش حالات التجلي والتوحد، التي تنمو في دواخله فتفيض، ويستعيد موروثه وتاريخه، سعادة الانسان السومري وبؤسه. حزن الصبايا والامهات أنين موجع على مر الازمان لانهايات له .. ادراك للوجود بكل مكنوناته ، وبحث عن موقع في العالم يستطيع ان تؤكد الفته وعذوبته في موسيقى مثل النشيج المتصل بالاعماق ... بوح صادق تتقهقر امامه القيود .. التي اوثقت الانسان عصورا طويلة بالرتابة والجمود ...
طالب لايقودنا في اعماله الى المجهول ، فله مفرداته الفنية الخاصة ، وجملته اللحنية التي يستخدمها في التعبير عن رؤياه الفنية. هي عملية تركيب وتشكيل لأرق النقاط اللامعة في النص الغنائي ، والكلمة ، وفرها له صديق عمره المرحوم الشاعر زامل سعيد فتاح . الذي لم يفعل شيئا سوى الشعر . واجمل مافي طالب حين يشارك زامل لتلك العذوبة بصوته العابر كالشراع يتمايل تحت مساقط الضوء والظلال .. نحو ارض فسيحة وخيال مكتنز بالمعاني والرموز .. يصدح في فضاءات وجودنا ..
هاهي سفينة طالب ترحل من جديد صوب الغازية ، اشرعتها ترشح حزنا ، بعد رحلة دائبة عن الفرح والاشواق والعذابات والاحلام ، للبحث عن تلك الينابيع الاولى ، الدنيوات المفعمة بالدعة والاناشيد ... يعيد ترديد اغنية مظفر النواب ... (حن وآنه حن ونحبس الونه ونمتحن مرخوص بس كت الدمع .. شرط الدمع يجوي الجفن ) لكن حروف الاغنية تحت ظلال الغراف .. تتجمد ..
هنا يعيش عالم طالب القره غولي .
* الغازية : النصر حاليا، ناحية في محافظة ذي قار.