عبدالعزيز الدوري ومشروعه لكتابة التاريخ العربي

عبدالعزيز الدوري ومشروعه لكتابة التاريخ العربي

رضوان السيّد
يورد أستاذنا الدكتور عبدالعزيز الدوري في كتابه: "التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الهوية والوعي" نصاً عجيباً بطله بطريق بيزنطيّ، تحدث الى محاوريه العرب في خمسينات أو ستينات القرن الهجري الأول بلسان عربي مُبين، وعندما سألوه عن علّة ذلك، أجاب بأنه نشأ بين العرب فأتقن لغتهم، لكن عجب محدّثيه لم ينقض، فهم يعرفون أن عرب الشام والعراق

بينهم مسيحيون كثيرون لكنهم عرب عرقاً إذا صح التعبير، والعربية لسانهم الأم؛ لكن هذا الرجل الأشقر أو الأصفر بتعبيرهم هو روميّ العِرق، ومع ذلك فإنه يتحدث العربية كأبنائها، فما هي الهوية، وما هو الانتماء؟ هل أنت أيها الرجل عربي؟ وأجاب: بل أنا روميّ! هل أنت إذن روميّ متعرّب؟ وقال مرة أخرى ضاحكاً: بل أنا روميّ نشأت بين العرب فتعلمت لغتهم! كيف تتكون الهوية إذن، وما هو الانتماء؟ الانتماء وعي إذن، وليس عرقاً أو ديناً أو حتى لساناً، الانتماء وعي وإرادة أو العكس، وإن تكن الأمور الأخرى شروطاً مكمّلة وليست صانعة. وحقبة الستينات من القرن الماضي، هي الزمن الذي انشغل فيه الأستاذ الدوري بمسألة الوعي العربي في التاريخ العربي، فتحددت المعالم الرئيسية لمشروعه في كتابة التاريخ القومي للعرب، وتاريخ الهوية والوعي والانتماء العربي، وكيف عبّر عن نفسه بالكتابة التاريخية. ففي الستينات كتب الأستاذ الدوري: الجذور التاريخية للقومية العربية، والجذور التاريخية للشعوبية، ودراسة في سيرة النبي ومؤلّفها ابن إسحاق (1965)، وبحث في نشأة علم التاريخ عند العرب.. وصولاً الى كتابه الشهير عن التكوين التاريخي للأمة العربية في الثمانينات من القرن الماضي.
وانطلاقاً من مقولة تمحور عمل عبدالعزيز الدوري العلمي حول الوعي العربي والانتماء العربي، وكيف تجليا في التاريخ، أود هنا تقديم عرض موجز لفكره التاريخي أو مشروعه التاريخي من خلال أربع نقاط أو علائق: الانتماء العربي في علاقته بالإسلام، والوعي العربي في علاقته بالدولة، والوعي العربي في علاقته بالكتابة التاريخية، والوعي العربي في علائقه بالعالم قديماً وحديثاً.
في المجال الأول، مجال العلائق بين الانتماءين العربي والإسلامي، يبدو الأستاذ الدوري شديد الحيرة، ومنذ كتابه الأول الذي نعرفه: دراسات في العصور العباسية المتأخّرة (1945). إذ يصل أحياناً الى المماهاة بين الانتماءين بحيث يبدو الإسلام في الوعي على الأقل بمثابة الدين القومي للعرب، وإلى التمايز شبه التام بين الوجودين أو الوعيين أو الانتماءَين. التماهي متحقّق في زمن النبي، وصدر الإسلام والعصر الأموي والعصرين العباسيين الأول والثاني ـ والتمايز المتنامي في العصور المتأخرة بعد القرن الخامس الهجري، وفي الأزمة الحديثة. ثم يعود الأمر لديه الى شيء من التوازن المتوتّر أو الهادئ فيقول بالتداخل والتمازج والتواشج. وخير مثال على مقولة التماهي كتابه: مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، والعصر العباسي الأول. وخير مثال على التمايز النسبي أو الكبير كتبه: الجذور التاريخية للقومية العربية، والجذور التاريخية للشعوبية، ومقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي. في حين يعود التوازن والتداخل دون التماهي أو الذوبان في كتابه: التكوين التاريخي للأمة العربية. لكنه في الحالات الثلاث جميعاً يظل موقناً بثبات الوعي العربي أو تناميه أو استقراره، وروائز أو أشائر ذاك الوعي المتواصل عبر التاريخ تبدو ثلاثة أشكال: من خلال اللسان العربي وانتشاره، ومن خلال الدولة واستمرارها أو امتدادها، ومن خلال الكتابة التاريخية.
ثانياً: ويبدو الوعي العربي في العلاقة بالدولة شديد الوضوح عنده. فالدولة التي قامت في زمن النبي بالمدينة (=كتاب المدينة) دولة عربية، وليس لأن لسانها عربي، وحكامها عرب، وجنودها عرب، ودواوينها تعرّبت وحسب؛ بل ولأن نظرية الخلافة وممارساتها تستند الى تقاليد عربية عريقة، ووعي عربي عميق. والواقع أن معظم بحوث الأستاذ الدوري دارت حول الدولة العربية أو الخلافة العربية بالذات، وباعتبارها أهم تجليات وإنجازات الوعي العربي والإرادة العربية:
ففي كتابه: النظم الإسلامية، وهو من أول الكتب في الموضوع، هناك تركيز على المؤسسات والأنظمة التي أنشأها العرب، وصارت على مدى مئات عدة من السنين هي العمود الفقري للدولة في عالم الإسلام. لقد داخلتها تأثيرات فارسية وبيزنطية طبعاً، لكن طبائعها الأولى أو التأسيسية لم تتغير حتى انهدمت الخلافة نفسها، دون أن يسقط الوعي العربي بالانتماء المتمايز.
وفي دراساته على مدى خمسين عاماً لاقتصاديات الدولة الإسلامية، هناك معلمان بارزان للمتغيرات الاقتصادية: الاقتصاد القائم على الخراج أولاً، ثم الاقتصاد القائم على الإقطاع. والنظم والمديات والممارسات التجارية في المرحلتين. والخراج نظام يكاد يكون عربياً وحسب في أصله وتطوراته. وليس الإقطاع كذلك؛ لكن أقدم صيغه عربية أيضاً.
جـ. وإذا كان الأستاذ الدوري هو الدارس الأول تقريباً لاقتصاديات الدولة العربية الإسلامية؛ فإنه كان بين اثنين أو ثلاثة من الدارسين الذين صحّحوا النظرة الى الدعوة العباسية والدولة العباسية في عصريها الأولَين. وعلى يديه نشأت مدرسة في التاريخ النقدي للدولة العباسية، باعتبارها دولة أو إمبراطورية عربية رغم اختلاف ممارساتها ومؤسستها العسكرية عما كان عليه الأمر أيام الأُمويين.
وثالثاً: فإن الوعي العربي عبّر عن نفسه بوضوح في الكتابة التاريخية. إذ أن الوعي بالذات هو الذي يدفع للتاريخ، والتاريخ إنما هو حركة الوعي، ورؤية أو رؤى للعالم. وقد ظل الأستاذ الدوري وقبل كتابه في "نشأة علم التاريخ" يتتبع الوعي العربي من خلال الكتابة في التاريخ. درس كُتّاب السيرة النبوية. ودرس مرحلة الإخباريين. واعتبر كُتّاب التاريخ العالمي على السنين تطوراً للوعي العربي بالذات والعالم مع تطور دولة الخلافة وامتدادها. وقد ناقشته في أن هذا الوعي بالتاريخ لا يشكّل خطاً أفقياً من كتابة السيرة الى كتابة الأنساب والأخبار في التاريخ العالمي. بل إن "فكرة التاريخ" أو "وحدة العالم" أو رؤيته بشكل شامل إنما جاءت نتيجة النزعة المهدوية والرسالية لدى كُتّاب السيرة النبوية المتأثّرين بالقرآن. إنما بغض النظر عن التفاصيل هنا؛ فإن الأستاذ الدوري أسّس في كتابه "نشأة علم التاريخ" لمدرسة في فهم التاريخ العربي وكتابته، تأثرت في تقنياتها وطرائقها، وفي جوانبها المالية والاقتصادية باتجاهات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي بعد الحرب الثانية؛ لكنها ما سقطت في مسائل البُنى والطبقات والماركسيات؛ بسبب سيطرة مسألة "الوعي" فيها.
ورابعاً: هناك مسائل رؤية العالم كما تبدو من خلال الوعي العربي. والأستاذ الدوري يكتب نظريته أو فَرَضيته، لكنه لا يكتب عنها دراسات نظرية. ويبدو ذلك في سائر بحوثه؛ خصوصاً في كتابه: التكوين التاريخي للأمة العربية. فقد انساحَ العرب في العالم بوعي واعٍ ناشرين لغتهم وثقافتهم ودينهم ودولتهم أو سُلطتهم. وكانوا واعين لذلك كلّه، لكنهم ما تصرفوا على أساس خصوصية إثنية أو تسامٍ عرقي. وربما جاء ذلك في نظر الأستاذ الدوري لتمثلهم العميق للإسلام ورسالته العالمية. ومن أجل ذلك تجاوز الأستاذ الدوري رؤية فلهاوزن في كتابه: "سقوط الدولة العربية" عن ثنائية عرب/ عجم. فالحركة الشعوبية هي ردة فعل على الفتوحات وسواد العرب والإسلام، لكن العرب أجابوا عليها بالثقافة المنفتحة، وليس بعنصرية السلطة أو تمييزها. وبسبب هذا الطابع غير الإثني للأمة العربية (والأستاذ الفضل شلق يسمّيه الطابع غير القومي للعرب) أمكن الانتقال بدون صعوبات أيديولودية الى زمان الدولة الوطنية أو القومية.
عمل الأستاذ الدوري على مشروعه لكتابة تاريخ الأمة العربية لأكثر من خمسين عاماً. وجيله الذي بدأ الكتابة في الأربعينات من القرن الماضي هو الذي طوّر كتابة التاريخ العربي والإسلامي الى حِرفة. وقد تأثر جيلنا في المشرق العربي به وبأحمد صالح العلي وجواد العلي، على اختلاف منازعهم واهتماماتهم. وكنّا نعي منذ ذلك الحين أن الأستاذ الدوري يملك مشروعاً يُتابعه بوعي. ثم شدّنا كل من عبدالله العروي وهشام جعيط، والفروق في المنهج كبيرة، لكننا ما أحسسنا تناقضاً أو قطيعة. وأذكر عندما قدّمني الدكتور إحسان عباس للأستاذ الدوري مطلع الثمانينات أنني قلت له: ما أزال أقرأ وأُكرّر كتابيك في نشأة علم التاريخ، وفي صدر الإسلام، وهما يتّسمان ببساطة ساحرة، لكن في كل كتبك يا سيدي كشوف وتقنيات ما عرفناها إلا منك، فبارك الله في عمرك وفي قلمك، من أين أتيت بهذه الصلابة في الوعي تحت هذا القناع من الرقّة، هل لأنك عراقي؟ وأقول له اليوم: نحن محظوظون ببقائك بيننا مفكراً وكاتباً في التاريخ العربي وفي الحاضر العربي. وسيظل إيمانك بالأمة وجوداً وانتماء ووعياً واستتباباً بين أكبر أسباب الأمل والعمل، ويا حسرتاه على العراق!

كلمة أُعدّت للإلقاء في الندوة المتخصصة التي اقيمت لتكريم الأستاذ الدوري في عمان2007