التكوين التاريخي للأمة العربية:مراجعة وتحية إلى عبد العزيز الدوري

التكوين التاريخي للأمة العربية:مراجعة وتحية إلى عبد العزيز الدوري

حسن حنفي
التكوين التاريخي للأمة العربية من أهم مؤلفات الدوري وأحدثها.
يغوص في أعماق الشخصية العربية لمعرفة مكوناتها التاريخية اعتماداً على منهج النشأة والتكوين، أي التراكم التاريخي للظاهرة. وهو ما يسميه البنيويون التتالي الزماني (Diachronism) من اجل التعرف على ماهيتها، الهوية والوعي، الهوية الثابتة، والوعي المتغير، وهو ما يسميه البنيويون أيضاً المعية الزمانية (Synchronism)، ضد خطأين شائعين:

الأول ان الشخصية العربية جوهر ثابت، وماهية أبدية لم تتغير، خارج التاريخ، وتتجاوز الزمان والمكان كالذات الإلهية.
والثاني انها مجرد تتبع تاريخي ووجود للعرب في التاريخ، دون ان يكون لهم هوية وراء الحوادث أو وعي يتحكم فيها. الأولى النزعة الجوهرية أو الماهوية (Essentialism)، والثانية النزعة التاريخية (Historicism).
فالكتاب منهج وتطبيق، نظرية وممارسة.
وهذا عرض نقدي للكتاب تحية له، وتقديراً لشخصه المتواضع ووداعته وإنسانيته، وان كان اقرب إلى العرض منه إلى النقد. لا يظهر النقد إلا في بعض التساؤلات بعد الخاتمة، لعلها تثير التفكير وتجد الإجابة. هذا العرض والتساؤلات تكريم متواضع لشيخ المؤرخين العرب والمفكر القومي الرصين.
وقد طبق المنهج التاريخي الاجتماعي الاقتصادي السياسي باقتدار. فالتاريخ ليس مجرد حوادث صماء بل هي حوادث لها دلالات وآثار في المجتمع وتكوينه سياسياً واقتصادياً وثقافياً. لذلك تظهر مفاهيم النشأة والتكوين والجذور في عديد من الفصول: نشأة الثقافة العربية، تكوين المجتمع العربي، ويظهر ذلك في مجموع كتاباته السابقة.
والظواهر الاجتماعية مستقلة عن الشخصيات التي تعبر عنها وعن التنظيمات والجمعيات التي تجسدها. ومع ذلك ضم الكتاب شخصيات ساهمت في بلورة الوعي العربي والهوية العربية، كما ضم تنظيمات وحركات وجمعيات ساهمت في تطور الوعي العربي.
وقد ظهر في وقت بدأ العرب يتشككون في وجودهم التاريخي، وهويتهم القومية ووعيهم السياسي بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967. ولم تنجح حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 بفضل تحالف مصر وسوريا في إعادة الوعي لهم أو فشل العدو الصهيوني في اجتياح بيروت 1982، وبانسحابه من جنوب لبنان 2002، وبانتصار المقاومة في الجنوب عليه في تموز/ يوليو 2006، ثم في غزة في كانون الأول/ ديسمبر 2008- كانون الثاني/ يناير 2009، نظراً إلى التفريط في نتائج حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 بالانفتاح الاقتصادي والتحالف مع الولايات المتحدة، وبصلح مصر المنفرد مع العدو الصهيوني ابتداء من كامب ديفيد في 1978، ثم معاهدة السلام العربية- الإسرائيلية في آذار/ مارس 1979، ثم معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل في 1994، ثم افتتاح سفارة للعدو الصهيوني في موريتانيا قبل إغلاقها بعد الانقلاب الأخير، وافتتاح مكاتب اتصال له في قطر والمغرب وتونس.
ظهر في وقت بدأت تعصف بالوطن العربي موجات من الطائفية، سنة وشيعة في العراق والخليج والسعودية، ومسلمين وأقباط في مصر، ومن العرقية، عبر وبربر وكرد وتركمان في العراق والمغرب العربي، بل ومن القبلية في السودان بين شماله وجنوبه، وشرقه وغربه. بل ظهرت النزاعات الحدودية بين قطرين عربيين متجاورين مثل المغرب والجزائر، والسعودية واليمن، والعراق والكويت، وقطر والبحرين، ومصر والسودان، ولبنان وسوريا، والأردن وفلسطين، ومصر وفلسطين. ويصل بعضها إلى النزاع المسلح. وسادت القطرية: مصر أولاً، الأردن أولاً، الكويت أولاً. وأصبحت مؤتمرات القمة مجرد اجتماعات احتفالية للمصالحة بين القادة العرب. واستمرت جامعة الدول العربية شكلاً بلا مضمون، وعم التغريب والارتماء في أحضان الغرب باسم العولمة والاستثمار ورأس المال الذي ليس له وطن، والدولة بلا حدود ولا سيادة وطنية ولا استقلال اقتصادي. وأصبح التحالف مع الولايات المتحدة هو السلوك الطبيعي، وقبول قواعد عسكرية لها داخل الوطن العربي، على أرضه وفي بحاره.
بل زاد عدد المهاجرين العرب إلى إسرائيل والمتزوجين من إسرائيليات. وخرج جيل جديد عربي إسرائيلي، لا يعرف العدو من الصديق، دار الإسلام من دار الحرب. فالكتاب يعبر عما هو كائن في اللاوعي العربي، ولا يعبر عنه احد، وإلاّ وكان يسبح ضد التيار.يضم الكتاب سبعة فصول: ثلاثة في النشأة القديمة، وأربعة في التكوين الحديث.
الفصل الأول، وهو اصغر الفصول وعنوانه: (العرب قبل الإسلام: الموطن والموقع والأصول). الموطن هو المكان، والموقع هو التكوين القبلي، والأصول هي بدايات تكوين الهوية العربية والتكوين العربي. ولا ينفصل العرب عن باقي القبائل السامية مثل الكلدانيين في شبه الجزيرة العربية، وترجع أصولهم إلى ثمود وسبأ. وشبه الجزيرة العربية مفتوحة من جوانبها الأربعة، الشمال نحو الأتراك، والشرق نحو الفرس، والغرب نحو مصر، والجنوب نحو الأحباش. وقد تفاعلت مع هؤلاء عن طريق التجارة أو الغزو. بيئتها صحراوية تعيش على المراعي. وثقافتها الشعر. ليس لقبائلها انساب مكتوبة. معروف انهم ينتسبون إلى عدنان وقحطان. أولاد قحطان هم العرب العاربة، وأولاد عدنان هم العرب المستعربة. قحطان في الجنوب ناحية اليمن، وعدنان في الشمال ناحية الشمال.
وكان الدين عاملاً أساسياً في حركة القبائل، المسيحية في نجران وفي الحبشة وبيزنطة، واليهودية في شبه الجزيرة، والمجوسية في فارس، والحنيفية في قريش بتقاليدها في الأشهر الحرم والإيلاف والمعلقات. وهي العناصر التي جمعها الإسلام في الدين الإبراهيمي الجديد. وظهر القران كأحد الأنواع الأدبية مع الشعر وسجع الكهان، وكان ظهور الخط العربي وقت ظهور الإسلام، مزيجاً من الآرامية والنبطية. وكانت القبيلة أو العشيرة هي الوحدة السياسية للعرب قبل ان يحولها الإسلام إلى الأمة. فالإسلام تكوين عربي قبله وساهم فيه بعده. هو مقدمة ونتيجة، وسيلة وغاية، علة ومعلول. هناك بين الجاهلية والإسلام اتصال أكثر من الانفصال، على عكس ما هو شائع عند بعض الوعاظ: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام). وحلف الفضول قبل الإسلام دليل على ذلك الذي يأخذ حق المظلوم من الظالم. ولو كان الرسول حاضراً لكان احد موقعيه.
والفصل الثاني (الإسلام والعربية: تكوين المجتمع العربي الإسلامي)، بعد ظهور الإسلام طبقاً للمنهج التاريخي سواء في المشرق أو في المغرب. فقد انتشر الإسلام شرقاً إلى إيران وأواسط اسيا قدر انتشاره غرباً إلى المغرب العربي حتى الأندلس. فقد أعطى الإسلام العرب عقيدة وامدهم برسالة، وأبطل الصراع بين القبائل، وفرض الجهاد. ووحدهم في امة لا يحدها زمان ولا مكان، يتفاضل أفرادها بالعمل. وجاء القرآن بلسان عربي مبين. وقامت مؤسسة الخلافة لتضع شكلاً من أشكال النظام السياسي، لا يقوم على الوراثة بل على الاختيار الحر طبقاً لمبدأ الشورى. وهذا لم يمنع المسلمين من الوقوع في الفتنة لغلبة المصالح السياسية على نظم سياسية غامضة. ثم دخلت الوراثة في العصر الأموي، وأصبحت السلطة بأيدي العرب وحدهم، مما سبب رد فعل عند العباسيين الذين اعتمدوا على الموالي من الفرس مع استمرار مبدأ الوراثة وارتباطها بالمشيئة الإلهية. ثم ظهرت سلطة الأتراك. وضعفت الدولة المركزية. وظهرت إمارات شبه مستقلة تعترف بالخليفة العباسي شكلاً. الأمة مصدر السلطة، و العدل أساس الحكم، والخلافة بالاختيار المباشر أو من أهل الحل والعقد، والشورى دليل مشاركة الأمة. ودخل كل ذلك في مقومات تركيب الأمة. وكانت اللغة العربية لغة الفاتحين. فتعربت الشعوب المفتوحة في مصر والمغرب العربي. وأبقت شعوب أخرى على لغتها مثل الفرس والترك، واعتبر الموالي عرباً لتشجيع التعريب، ورفعت عنهم الجزية. فساعد الإسلام على نشر التعريب، ثم ساعد التعريب على نشر الإسلام. وساعدت الثقافة بعد ذلك على نشر التدوين بالعربية، فعربت الدواوين التي كانت تكتب بالفهلوية في المشرق، وباليونانية أو القبطية في المغرب. وانتشر التعريب في الشام بناء على انتقال القبائل العربية من الجنوب إلى الشمال. ووزعت الأراضي على القبائل. وانتشرت طرق التجارة. وتم تعريب مصر تدريجياً من الشمال إلى الجنوب. ثم أنشئت مدن للثقافة العربية كالقيروان في تونس، وفاس في المغرب، بالرغم من ثورات الخوارج في المغرب. واتخذها البربر لغة التخاطب، ولغة الفتوحات، ولغة الدين. تجلى الوعي العربي إذن في اللغة العربية. فالعروبة نتيجة التعريب، والتعريب نتيجة انتشار الإسلام.
والفصل الثالث (الأمة العربية- الهوية) يصف تجلي الوعي العربي أساساً في الهوية والثقافة بعد نشأة العلوم الإسلامية وظهور مفهوم الأمة العربية في الواقع وفي الفكر والأدب وفي الوعي الشعبي. فقد تحولت العروبة إلى تعريب في القرنين الأولين.
ثم تحول التعريب إلى ثقافة وعلوم ابتداء من القرن الثالث. فقد بدأ العرب بدراسة القرآن المصدر الأول للدين الجديد، وانشأوا علوم القران، ثم جمعوا الحديث، وانشأوا علوم الحديث. ثم بدأوا تفسير القرآن في علوم التفسير. ثم وضعوا سيرة الرسول في علم السيرة أسوة بسير الأنبياء السابقين. ثم قننوا الفقه، عبادات ومعاملات في علوم الفقه. وبالتالي نشأت العلوم النقلية الخمسة. وبعد عصر الترجمة في القرن الثاني الهجري نشأت العلوم النقلية العقلية التي يجتمع فيها النقل والعقل، علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وعلوم التصوف، وعلوم الحكمة، اي الفلسفة كي تدون معظمها باللغة العربية، وان كان بعض مصنفيها غير عرب ولكن تعربوا، وكتبوا بالعربية. فقد أصبحت العربية ليست فقط لغة التخاطب الشفاهي بل أيضاً لغة التدوين. وظهرت علوم اللغة تجمع بين النقل والعقل، بين الشواهد والقياس، على أيدي رواة النحو وواضعي المعاجم.
كما ظهرت علوم التاريخ لجمع أخبار العرب وسيرة الأمة الجديدة الناشئة. وكانت الترجمة عن اليونانية غرباً، والفارسية شرقاً، التي امدّت علماء المسلمين بلغة وتصورات ومناهج جديدة ينسجون عليها.
وظهرت تيارات عدة، قبلية قديمة وإسلامية جديدة، أنصار فارس كمسكويه، وأنصار اليونان كالفلاسفة، خاصة إخوان الصفا. وبدأ التقابل بين العرب والعجم في الشعر، وفي تصنيف العلوم، كما في (الفهرست) لابن النديم. وتنوعت الأنواع الأدبية بين النثر والشعر والمادة الأدبية بين الشعوبية والعربية. وظهر أنصار العروبة عند الأدباء والمؤرخين والشعراء، يركزون على نقد الجاهلية ، ويظهرون دور العرب في التاريخ. ويتحدث ابن المقفع عن سجايا الأمة، والفارابي يرى ان الأمة غاية التجمع البشري. ويجعل المسعودي للسان العنصر الرئيسي لتكوين الأمة.
ويظهر ابن خلدون العرب امة أصحاب خصائص مميزة، وفضل بديع الزمان الهمذاني (398هـ) العرب على غيرهم من الأمم، وارجع الزمخشري العروبة إلى العربية، ولاحظ البيروني صلة العروبة بالإسلام. وتجلى هذا الموقف بوضوح في الشعر العباسي. قامت العروبة على أساس لغوي ثقافي، وليس على أساس عنصري شعوبي. وتوارت مفاهيم القبيلة والنسب. وشارك العامة في بلورة الوعي العربي في مجموعات منظمة مثل العيارين والشطار والفتيان.
والفصل الرابع (العرب في عصر التنظيمات) حتى الفصل السابع يصف تحول العروبة من ظاهرة لغوية ثقافية إلى ظاهرة سياسية قومية، كما تحولت اليهودية من تيار روحي ثقافي عند الكالي في القرن الثامن عشر إلى تيار سياسي قومي عند هرتزل في القرن التاسع عشر. وقد بدأت التطورات الاقتصادية ومظاهر التحديث والإحياء الثقافي ومفاهيم الوطنية وحركة الوجهاء والمناشير في الظهور.
وقد بدأ هذا العصر بالإقطاع العسكري في العراق الذي ورثه العثمانيون الذين واجهوا به الدول الأوروبية، فأقاموا المصارف الأجنبية، وسنوا التشريعات الحديثة، كما فعل محمد علي وسعيد إسماعيل. وصدر قانون حق الدولة في امتلاك الأراضي. وبدأ التحديث الإداري والعسكري والتعليمي اثر النظم الغربية، وعلى يد نخبة من خريجي المدارس والمعاهد العليا الجديدة. حدث ذلك في مصر، وفي سوريا في عصر محمد علي، ثم ظهر في تونس. وبدأت حركة للإحياء الثقافي للغة العربية والنثر والكتابة والشعر وإنشاء المدارس، خاصة دار العلوم، وبدأت حركة الترجمة والترجمة عند نصر الهوريني والطهطاوي. وجمع علي مبارك في خططه (الخطط التوفيقية) بين المصادر العربية والإفرنجية. وطور محمد عبده أدب المقالة. وبرزت الصحافة، خاصة السياسية مثل مجلة (روضة المدارس) لنشر العلوم والفنون. وأسست الجمعيات مثل جمعية المعارف (1886م)، وساهم في نشر هذه العلوم والفنون باللغة العربية علماء سوريا والعراق، وتأسست دار العلوم، وساهمت في تطوير اللغة العربية. كما ساهمت المدارس المسيحية في سورية ولبنان قبل وصول الإرساليات الأجنبية في تطوير اللغة العربية الدينية.
وشارك في ذلك التيار الإسلامي على يد الأفغاني ومحمد عبده. ثم ظهرت فكرة الوطنية بفضل انتشار أفكار الثورة الفرنسية. ودافع عنها الطهطاوي (فليكن هذا الوطن لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع). فالأخوة الوطنية مثل الأخوة الدينية. وسار على أثره محمد عبده وخير الدين التونسي. ووضع البستاني معجمه محيط المحيط. ومن الشعراء إبراهيم اليازجي الذي مجد الشعراء العرب والعروبة. وظهرت منشورات في مدن الشام تدعو إلى إنشاء مملكة عربية، منها ثلاثة: الأول يدعو إلى السيف والإصلاح وتحرير العرب من ظلم الترك. والثاني يعبر عن اليأس من الإصلاح على يد الأتراك بعد ان وعدوا به مرات عديدة. والثالث يخاطب أهل الوطن ويندد بالظلم التركي.
مجلة الفكر العربي المعاصر العدد الثالث لسنة 2007