اصداء الثورة الدستورية 1908 في ولاية الموصل

اصداء الثورة الدستورية 1908 في ولاية الموصل

د. صلاح هرؤري
كان لاعلان الدستور الثاني في الدولة العثمانية في اعقاب الثورة الدستورية التي قادتها جمعية الاتحاد والترقي في 23 تموز عام 1908، صدى واسع في معظم الدولة العثمانية، حيث عمت جراء ذلك موجة عارمة من الفرح والابتهاج املا في بداية عهد جديد تترجم فيه شعارات الحرية والعدالة والمساواة الى واقع ملموس.بينما كان صدى الثورة الدستورية في ولاية الموصل وكان التجاوب حذرا،

ولعل ذلك يعود لسببين الاول: مكانة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في نفوس سكان الولاية بوصفه خليفة للمسلمين ورائد الجامعة الاسلامية، وكان للحملات الدعائية التي روجها اعوان السلطان عبد الحميد من دعاة الجامعة الاسلامية دور في بروز مكانة السلطان عند سكان الولاية، والثاني: ضعف الوعي الدستوري بين سكان الولاية. ابدت الاوساط المحافظة في الولاية تحفظاتها على الثورة لاعتقادها بان ذلك سيؤدي الى تجريدها من امتيازاتها القديمة، اما رجال الدين فقد وجدوا وكأن الدستور يخالف احكام الدين فيما رأى الشيوخ واصحاب النفوذ في الدستور وسيلة لتقليص نفوذهم اما الانسان العادي فقد كان يرى في الدستور ما هو مخالف للقيم والتقاليد والعادات السائدة في المجتمع فليس من المستغرب ان يعارضها.
في الجانب الاخر اعرب بعض سكان الولاية عن تأييدهم للثورة الدستورية عن طريق اقامة الصلوات في المساجد وتنظيم المظاهرات المؤيدة التي طافت شوارع مدينة الموصل كما قام البعض بتزيين الدوائر الحكومية والبيوت العامة فيما زار البعض مرقد النبي يونس (ع) في المدينة احتفالا بهذه المناسبة.
رحب عدد من الشعراء بالثورة الدستورية وذلك من خلال نظم الابيات الشعرية التي وصفت الحادثة بالثورة، كما عبرت شخصيات ثقافية في مدينة الموصل عن تأييدها للثورة الدستورية وذلك من خلال نشر مقالات مؤيدة للثورة الجديدة في استانبول.
اولا: الخارطة الادارية لولاية الموصل 1879-1908م:
حظيت ولاية الموصل باهتمام كبير من جانب الدولة العثمانية، ولا سيما بعد ان اتخذت الولاية شكلها النهائي سنة 1879، والتي اصبحت ولاية مستقلة بعد ان كانت سنجقا تابعا لولاية بغداد العثمانية، ولفهم طبيعة العلاقة بين الولاية والدولة العثمانية والاصلاحات الادارية التي شهدتها الموصل باعتبارها ولاية عثمانية، ارتأينا اعطاء صورة مبسطة عن الخارطة الادارية لولاية الموصل خلال الفترة 1879-1908.
سلكت الدولة العثمانية طريقة التنظيم الاداري في ادارتها الداخلية على الطراز الاقطاعي، فانقسمت البلاد الى ايالات (ولايات) وكان يحكم كل ايالة حاكم يتصرف في شؤونها الادارية والمالية والعسكرية.
وكانت الايالات تنقسم الى وحدات ادارية اصغر تعرف بالسناجق. يحكم كل سنجق متصرف وهذه السناجق تنقسم الى اقضية، كل قضاء يحكمه موظف اداري يدعي القائممقام، ويتكون القضاء من مجموعة من النواحي التي تضم مجموعة من القرى ولكل قرية مختار او مختاران حسب عدد نفوس القرية.
اعيد في سنة 1879م تشكيل ولاية الموصل الى جانب ولايتي بغداد والبصرة وضمت ولاية الموصل سنجقين (لواءين) هما: السليمانية وكركوك فضلا عن سنجق الموصل نفسه تحدها من الشمال ولايتا وان وديار بكر ومن الشرق مملكة فارس ومن الغرب سنجق دير الزور ومن الجنوب ولاية بغداد، بلغت مساحة الولاية 91000كم2، وقدر عدد نفوسها سنة 1907بـ (351200) نسمة.
جرى تقسيم ولاية الموصل من الناحية الادارية الى ثلاثة سناجق هي:
اولا: سنجق الموصل ومركزه مدينة الموصل، ضم السنجق ستة اقضية هي: الموصل، العمادية، زاخو، سنجار، عقره ودهوك.
ثانيا: سنجق كركوك ومركزه مدينة كركوك، وضم ستة اقضية هي: كركوك، اربيل، رانية، راوندوز، كويسنجق، صلاحية (كفرى).
ثالثا: سنجق السليمانية ومركزه مدينة السلمانية، وضم خمسة اقضية هي: السليمانية، كنعبر، معمورة الحميد، بازيان وشهر بازار.
من الجدير بالذكر انه جرى تقسيم الولايات العثمانية الى درجات، فكانت الموصل ولاية من الدرجة الثالثة بعد بغداد والبصرة (6).لانها اصغر مساحة منها.
تعرضت ولاية الموصل الى تغييرات ادارية كبيرة، فتارة يتم تقليصها وتارة يضاف اليها سناجق او اقضية فتتسع بذلك الولاية، فمثلا في سنة 1881م تم اقتطاع قضاء سنجار وناحية تلعفر من الولاية والحقت بسنجق دير الزور، وفي سنة 1883 اعيدت ثانية الى سنجق الموصل (مركز الولاية). ويبدو ان هذه التغييرات قد استمرت في السنوات اللاحقة ففي سنة 1890 تم اقتطاع قضاء العمادية من ولاية الموصل والحق بولاية هكارى، ثم اعيد ثانية الى الموصل.) ومن الجدير بالذكر ان هذه التغييرات الادارية كانت تتم بعد صدور ارادة سلطانية
كان التقسيم الاداري لولاية الموصل خلال سنة 1907-1908م على النحو الاتي: اولا: سنجق الموصل ويضم الاقضية الآتية: الموصل، العمادية، زاخو، سنجار، عقرة، دهوك.
ثانيا: سنجق كركوك ويضم اقضية كركوك، اربيل، رانية، راوندوز، كويسنجق، صلاحية (كفري).
ثالثا: سنجق السليمانية ويضم اقضية السليمانية، كنعبر، معمورة الحميد، بازيان وشهر بازار.
قسمت الاقضية كذلك الى درجات ادارية حسب مساحتها، غير ان هذه الدرجات قد تغيرت فقد كان قضاء دهوك التابع لسنجق الموصل من الدرجة الثانية ثم تحول الى الدرجة الثالثة.
عموما لم يكن الوضع الاداري لولاية الموصل مستقرا ويعود ذلك الى اسباب عديدة منها اضطراب الوضع الامني في الولاية بصورة عامة واستمرار هجمات العشائر على الوصل واطرافها، وكذلك الاضطرابات التي تعرضت لها الولاية بسبب عصيان الايزدية في سنجار والشيخان وهجماتهم المتكررة على الطرق والقوافل واضطرار الدولة العثمانية الى ارسال الحملات المتكررة ضدهم، فضلا عن الاوضاع الاقتصادية السيئة بسبب حالات الغلاء والمجاعات والافات. الامر الذي كان يترك الاثر على الاستقرار والامن، فيضطر المسؤولون الى اجراء تغييرات ادارية لمعالجة الاوضاع كما ان سرعة استبدال الولاة بآخرين كانت تؤدي في نهاية المطاف الى تغييرات ادارية اذ ان كل وال جديد يقوم بتغييرات ادارية وفق ما يراه مناسبا.
ثانيا: الثورة الدستورية (المشروطية) الثانية 1908.
لم تحدث الثورة الدستورية التي قامت بها جمعية الاتحاد والترقي في (23 تموز 1908) فجأة، بل كانت ثمرة جهود استمرت عقودا عدة من النضال السري والعلني. ترجع اصول هذه الجمعية الى سنة 1865م حين ظهرت فئة من المثقفين الشبان اطلقوا على انفسهم تركيا الفتاة ، فقد طالبوا في البداية وتحت تأثير المؤسسات والعادات الاوربية والغربية بالتحرر من طغيان السلاطين العثمانيين، وبادخال الحكومة الدستورية في الامبراطورية العثمانية اقتصر نشاط تركيا الفتاة في ايام السلطان عبد العزيز على اصدار الصحف، التي كانت ترسل الى الامبراطورية العثمانية بواسطة دوائر البريد الاجنبية، كما رأى هؤلاء ان الاصلاحات التي ادخلها رجال التنظيمات منذ سنة 1839م قد زعزعت الاساس الاخلاقي والعقدي للمجتمع العثماني من دون ان تقدم بديلا مناسبا، وذهب بعضهم مثل نامق كمال وضيا باشا الى ابعد من ذلك فقالوا ان التنظيمات قضت على الحقوق التي كان الناس ينعمون بها في ظل الحكم الاسلامي، ولم تعطهم شيئا من مزايا الحكم الغربي المقتبس وقد فتح هذا الحكم ابواب ممالك السلطنة امام النفوذ و التدخل الاجنبيين فكان الانهيار الاقتصادي نتيجة حتمية للاستغلال الاجنبي والاستبداد الداخلي. اما العلاج، في نظر انصار هذه الفكرة، فهو الحكم الدستوري النيابي، القائم على اساس اسلامي، وبذلك كانوا من اوائل المفكرين المسلمين الذين حاولوا التوفيق بين النظم السياسية الغربية ومبادئ الشورى الاسلامية.
وفي سنة 1889م بعث نشاط مجموعة من طلاب المدرسة العسكرية من خلال ايجاد تنظيم (جمعية) سرية ثورية باسم الاتحاد والترقي تهدف الى محاربة الحكم الفردي واعادة الحياة الدستورية. يرى فريق ان تكوين هذه الجماعة هي البداية الحقيقية لحركة تركيا الفتاة، او ان هذه هي الجمعية الاولى لتركيا الفتاة والتي كانت تدعى في البداية باسم الترقي والاتحاد ثم اشتهرت فيما بعد باسم الاتحاد والترقي . فيما يعتبر احد الباحثين ان جمعية الاتحاد والترقي هي اللجنة التنفيذية لتركيا الفتاة.
ان قيام هذا التنظيم داخل المدرسة العسكرية يعود اساسا الى ابراهيم تيمو حيث فاتح ثلاثة من اصدقائه في مايس 1899 لخلق منظمة ثورية، وهم كل من اسحق سكوتي وجركس محمد رشيد وعبد الله جودت.
كان اثر جمعية الكاربوناي الايطالية فيها واضحا من حيث ان المفروض ان اعضاءها ان يعرف بعضهم بعضا بارقام سرية.
انضم الى هذه الجمعية بعد مدة قصيرة اشخاص مثل شرف الدين مغمومي وكرتيلى شفيق وكريم سيباطي ومكلي صبري وسلانيكي ناظم.
شكلت جمعية الاتحاد والترقي فروعا لها في العواصم الاوربية حيث كان لها فرع في باريس انضم اليه الكثير من الطلاب والدراسين فيها، كما كان لها فروع في ولاية سلانيك..
حاولت جمعية الاتحاد والترقي منذ البداية استقطاب الاشخاص الذين لهم ماض مجيد في القضايا الوطنية. وعلى الرغم من المراقبة الشديدة المفروضة على هذه الجمعية، الا أنه انضم اليها عدد من الموظفين في الحكومة.
في الحقيقة ركزت جمعية الاتحاد والترقي جهودها نحو استقطاب الجيش بجانبها، وكانت النتيجة ان انضم اليها العديد من الضباط.
كانت الاغلبية الساحقة من اعضاء فرع سلانيك من الضباط المتنفذين في الجيش العثماني، ومما زاد من قوتهم انضمام المشايخ وصغار الموظفين اليهم، وكان فرع سلانيك خاضعا للمركز في باريس الذي يوجههم بالنظريات والاراء الغربية ويشجعهم على النضال. ارسل الدكتور ناظم من قبل احمد رضا الذي كان في باريس للاتصال بالتنظيم الموجود في سلانيك، واطلق على هذا التنظيم اسم التنظيم الخارجي لجمعية الاتحاد والترقي.
حاولت جمعية الاتحاد والترقي في سنة 1896 القيام بحركة انقلابية الا انها فشلت وتم نفي قادتها الى الخارج عقب فشل المحاولة الانقلابية.
عقدت جمعية الاتحاد والترقي مؤتمرين لها، الاول كان في باريس سنة 1902 يحمل اسم المؤتمر الاول للاحرار العثمانيين والثاني في باريس 1907 وسمي ايضا بالمؤتمر الثاني للاحرار العثمانيين، وفي الحقيقة ان المؤتمر الاول كان نتيجة انشقاق الجمعية الى المركزية ومثل هذا الاتجاه احمد رضا واللامركزية الذي مثله صباح الدين وهذا يعني ان المؤتمرين قد دخلوا في تنافس فيما بينهم وادى الامر الى تاسيس جمعية المبادرة الخاصة باللامركزية بزعامة الامير صباح الدين، بينما كان من نتائج المؤتمر الثاني توحيد جمعية الاتحاد والترقي بزعامة احمد رضا والجمعية التي قادها الامير صباح الدين.
يشير البعض الى وجود صلة بين جمعية تركيا الفتاة والمحافل الماسونية في ايطاليا وقد اتخذت هذه الصلة صفة رسمية وقد ساعدت المحافل الماسونية الجمعية وكانت مفيدة جدا للحركة، كما ان البعض من اعضاء الجمعية كانوا ماسونيين،
غير ان الدكتور ارنست ارامزور لا يتفق مع الرأي المذكور مشيرا الى ان: دور للماسونية في اعداد ثورة سنة 1908 لا يتفق مع الحقائق، لان ضباط الجيش الثالث الذين قاموا فعلا بالثورة لم يكونوا كلهم ماسونيين، ويضيف ايضا (اما فيما يتعلق باعضاء تركية الفتاة في اوربا، فيبدو ان عددا منهم ارتبط بالمحافل الماسونية لما كانوا في المنفى، الا انه يمكننا تعيين عدد الذين فعلوا ذلك، بل يمكن القول بالتأكيد ان اثنين على الاقل من ابرز قوادها لم ينضما للماسونية، وهم احمد رضا والدكتور (سلانيكلي) ناظم. كما يذكر في مكان اخر ان اعضاء تركيا الفتاة كانوا من المؤمنين بقوميتهم سواء داخل الامبراطورية أم خارجها لم يكن من طبيعتهم الرضوخ لقيادة اية منظمة دولية.
اصدرت الجمعية العديد من الصحف ومنها مجلة رسمية باسم مشورت في باريس وميزان في القاهرة وعثمانلي في جنيف وذلك لنشر افكارها الثورية، وكانت الصحف ترسل الى تركيا بواسطة دوائر البريد الاجنبية.
بشكل عام يمكن ان نحدد ثلاثة ادوار في حياة جمعية تركيا الفتاة ابتداء من تاريخ تأسيسها الى القيام بثورة 1908 واستعادة الدستور الذي علقه السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1876، يمتد الدور الاول بين سنتي 1889-1897 حيث كان عمل الجمعية داخل الامبراطورية العثمانية وفي استنبول بشكل خاص، على الرغم من ان الحركة بدأت في المدرسة الطبية العسكرية الا انها وسعت دائرة نشاطها تدريجيا، فضمت اليه البعض من خارج المدارس العليا، كما تعرضت الحركة الى ملاحقة جواسيس السلطان فاضطر البعض من اعضائها الى مغادرة البلاد واللجوء الى باريس، لكن الذين بقوا في البلاد لوحقوا وقبض عليهم فنفي البعض وسجن الاخرون، ولذلك يمكن القول، قد وضع حد للعمل داخل تركيا في سنة 1897.
بينما يبدأ الدور الثاني من سنة 1897 ويمتد حتى سنة 1906. ومجال العمل في هذا الدور كان خارج الدولة العثمانية اي في باريس وجنيف والقاهرة، وكان احمد رضا وصباح الدين من اهم شخصيات الجمعية خلال هذا الدور وقد اختلفا في الوسائل والطرق وحتى بعض الاسس، لكنهما ظلا يعملان في سبيل الدستور، كما كثرت الصحف التي نشرها اعضاء الجمعية لتوضيح موقفهم امام الرأي العام الغربي، ومن هذه الصحف مشورت في باريس وميزان في القاهرة وعثمانلي في جنيف وكانت الصحف ترسل الى داخل الدولة العثمانية عن طريق دوائر البريد الاجنبية.
وفي الدور الثالث الذي بدأ في 1906 عادت الجمعية الى العمل داخل الدولة، مع انها لم تنقطع عن العمل في الخارج، ومن ثم جاء العمل الداخلي للقيام بثورة 1908 واجبار السلطان على العمل بالدستور الذي علقه سنة 1876.
مهما يكن من امر فان الثورة المشروطية التي قامت في 23 تموز 1908 والتي قادتها جمعية الاتحاد والترقي احدى لجان تركيا الفتاة، حيث تحركت وحدات من الجيش وطالبوا باعادة العمل بدستور 1876، وعلى الرغم من ان السلطان قد ارسل مبعوثا اليهم الا انه قتل وبعد ان ادرك السلطان بان عرشه في خطر اقدم على قبول الدستور والعمل على بث افكار الحرية والاخاء والمساواة التي نادت بها الجمعية منذ انطلاق تأسيسها.
في 31 اذار 1909 تم خلع السلطان عبد الحميد الثاني عن الحكم، ونصب اخوه محمد رشاد باسم محمد الخامس سلطانا للدولة العثمانية اثر الحركة التي قامت بها مجموعة من انصار الوضع القديم والذين طالبوا بالعودة الى احكام الشريعة الاسلامية. وتوسعت الحركة لتتحول الى تمرد قام به عدد من الضباط والجند وهاجموا مجلس المبعوثين والباب العالي، وطالبوا بسقوط الحكومة الجديدة وحل المجلس ونادوا بالغاء الدستور واعلان حكم الشريعة الاسلامية وانتشرت حركات مماثلة في الاناضول. واتهم السلطان عبد الحميد بتدبير الثورة المضادة، فزحف جيش سالونيك الى استانبول بقيادة محمود شوكت، واجبروا السلطان عبد الحميد على التنازل عن الحكم.
التأخي

ثالثا: صدى عودة الدستور في ولاية الموصل العثمانية:
عبرت شعوب الدولة العثمانية بموقفها بين مؤيد ومعارض تجاه الثورة الدستورية التي حدثت في سنة 1908، فمن ناحية انتشرت جراء الثورة موجة من الفرح وكانت سببا لاقامة المهرجانات والابتهاج في معظم ارجاء الدولة العثمانية التي شارك فيها المواطنون املا في بداية عهد جديد تترجم فيه شعارات الثورة من الحرية والعدالة والمساواة الى واقع ملموس
ومن جهة اخرى وقفت مجموعة من انصار الوضع القديم موقفا معارضا تجاه الثورة وطالبوا بالغاء الدستور وعودة حكم الشريعة الاسلامية.
ولم تمر الثورة دون ان تترك اثرا في العراق فعلى الصعيد الرسمي اقيمت الاحتفالات الواسعة ورفعت معالم الزينة في معظم المدن والاقضية والنواحي .
اما على الصعيد الشعبي فقد اختلفت مواقف العراقيين، واستقبلت الجماهير الشعبية انباء الثورة بمشاعر الاستغراب. كانت للمساواة بين الناس وتقييد سلطة السلطان التي نادت بها الثورة قد سببت ازعاجا شديدا لبعض الاوساط العراقية المحافظة الذين كانوا ينظرون الى مفهوم المشروطية بقلق وتوجس.
اثارت الثورة (المشروطية) اهتماما واسعا في العراق، ولا سيما عند المثقفين وهم قلة في المجتمع العراقي ومن الذين درسوا في مدرسة الحقوق والمدارس الرشدية والعسكرية في بغداد والكلية الحربية والمدارس في استانبول فاتصلوا بالجامعات والفئات المختلفة وتبنوا بالاراء والافكار الحديثة او انتسب بعضهم الى جمعية الاتحاد والترقي ودعمها بالقول والعمل، وعبروا عن تأييدهم الثورة وفرحوا لنجاحها باعتبارها انتصارا للحرية والحكم الدستوري وخطوة نحو التقدم والتخلص من الظلم والاستبداد واستقبل النصارى واليهود عودة الدستور بالفرح، ربما املا في المساواة الدينية.
جاءت المعارضة من كبار الوجهاء والاغنياء واصحاب المصالح الذين لم ترق لهم المساواة بين الاغنياء والفقراء وبين المسلمين وغير المسلمين، هؤلاء وجدوا ان الدستور خطر على افكارهم وامتيازاتهم الاجتماعية، اما الاخرون من ذوي التفكير الديني فقد اعربوا عن سخطهم لما حدث ووجدوا في شعارات الثورة مثل المساواة والاخاء اهانة لهم واذلالا للاسلام والمسلمين
تشير الدراسات التاريخية الحديثة والمتعلقة بتاريخ ولاية الموصل الى ان صدى اعلان عودة الدستور في ولاية الموصل كان محدودا او لم يكن بمستوى الحدث الخطير ويرجع ذلك الى سببين:
الاول: وجود اعداد من انصار السلطان عبد الحميد الثاني في الولاية والذين تأثروا بنزعته الدينية والداعية الى تبني سياسة الجامعة الاسلامية القائمة على اساس اتحاد العرب والترك تحت لوائه وتأثر سكان الولاية بالحملات الدعائية التي كانت الدولة تروجها لصالح فكرة الجامعة الاسلامية. كما حرص السلطان على خطب ود الاسر المتنفذة في الولاية ولا سيما الاسر الدينية، عن طريق اغداق الامتيازات عليها، وسعى في الوقت نفسه الى كسب ولاء الجماهير الشعبية عن طريق رعايته للمراقد الدينية ومنح الهبات السخية لها. واولى السلطان عبد الحميد علماء الدين البارزين عناية خاصة ومنح اوسمة لهم، كما اغدق على البعض منحا سخية وخصص لهم مراتب عالية.(43).
الثاني: ضعف الوعي الدستوري بين اوساط سكان الولاية .
من الجدير بالذكر ان بعض الاوساط المحافظة في مدينة الموصل (مركز الولاية) قد ابدت تحفظات على عودة الدستور ودعوة النظام الجديد الى المساواة بين المسلمين وغير المسلمين لاعتقادهم بان ذلك سوف يؤدي الى تجريدهم من امتيازاتهم القديمة.
اما رجال الدين فقد نددوا بعودة الدستور واعتبروه خروجا عن الدين وراى الشيوخ والمتنفذون في الدستور وسيلة للحد من نفوذهم .
في الجانب الاخر رحب بعض سكان الولاية بالثورة الدستورية عن طريق اقامة الصلوات في المساجد وتنظيم المظاهرات المؤيدة التي طافت شوارع مدينة الموصل، كما قام البعض بتزيين الدوائر الحكومية والبيوت العامة فيما زار البعض مرقد النبي يونس (ع) في المدينة احتفالا بهذه المناسبة .
رحب عدد من الشعراء بالثورة الدستورية وذلك من خلال نظم الابيات الشعرية التي وصفت الحادثة بالثورة، فقد نظم الشاعر الموصلي محمد حبيب العبيدي قصيدة عبر فيها عن ترحيبه باعادة الدستور، كما عبرت شخصيات ثقافية في مدينة الموصل عن تأييدها للثورة الدستورية مثل فهمي عبد الرحمن المدرس الذي نشر مقالات مؤيدة للثورة الجديدة في استانبول).
اما موقف سكان الاقضية التابعة لسنجق الموصل وهي: العمادية، زاخو، سنجار، عقرة، دهوك، فقد عبر عنه الدملوجي بصورة واضحة بالقول: (عندما اعلنت المشروطية العثمانية ونادى المنادي بالحرية والمساواة صعب على الكورد فهمها، والاقبال عليها، فطبقة العلماء والوجوه والمتقدمين يرون فيها ما ينقص من نفوذهم ويضيع من مكانتهم حيث تبيح الحرية للانسان كل عمل يرتضيه لنفسه والمساواة تجمع الفقير والغني والخادم بالسيد، اما طبقة العلماء والمتنفذين فكانوا يشوهون معنى الحرية والمساواة ويدلون على مفاسدها ومضارها).
لم يستوعب سكان هذه الاقضية الاهداف الحقيقية للمشروطية والشعارات التي رفعتها الحكومة الجديدة في استنبول، ومن الارجح ان البعض اراد ان يفهموهم ما يتفق مع مصالحهم ولذلك قالوا لهم بانها تمنحهم الحرية، وتعفو عن المجرم، وتخلي سراح المسجونين، والموظف الذي لايعجبهم متى ارادوا طردوه واستبدلوه بغيره، ولا يعطون من الضرائب الا بقدر ما يشتهون، وطبقة العلماء والمشيخة يرونها مخالفة لاحكام الدين.. واشاعوا بين الناس ان اعمال الاتحاديين مخالفة للشرع الشريف وانها ترمي الى اعطاء الحرية للمرأة باكثر مما تستحق ويحق للبنات الزواج ممن يحببن ويلبسن الملابس القصيرة. ويعني هنا ان الانسان العادي افهم من المشروطية كل ما يخالف القيم والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع، فليس من المستغرب ان يعارضها. ان تلك التفسيرات الخاطئة وصلت الى موظفي الدولة واعتقدوا ان لا احد يستطيع محاسبتهم مهما فعلوا، وهم الان في مامن من القوانين.. بشكل عام اصبح الناس قسمين: هذا وطني صادق. وهذا غير وطني خائن، صفتان للاتحادي وغير الاتحادي .
لا تشير المصادر الى صدى الثورة الدستورية في الاقضية التابعة لسنجق السليمانية بوضوح ربما يرجع ذلك الى عدم تمكننا من الحصول على المصادر المتعلقة بالموضوع غير ان الثورة واعلان الدستور كان فرصة لبعض التجار والاوساط المتنفذة في السليمانية للانقضاض على سلطة الشيخ سعيد البرزنجي، ونظرا لشهرة وسلطة الشيخ سعيد في السليمانية طلب السلطان عبد الحميد ان يزوره في العاصمة استنبول فلبى الشيخ الطلب في عام 1904، واعطاه السلطان الشفرة الخاصة للاتصال به في وقت الحاجة، ويقال ان السلطان عين الشيخ مستشارا دينيا خاصا له بعد عودة الشيخ الى السليمانية ازداد نفوذه اكثر حتى ان الموظفين العثمانيين كانوا يمتثلون لاوامره ويحاولون كسب رضاه غير ان التجار والاقطاعيين استاءوا من سلطته وكانوا ينتهزون فرصة للايقاع به، عندما حدثت الثورة الدستورية عمل الشيخ على احداث الاضطرابات داخل المدينة، مما حدا بالموظفين والتجار الى ارسال البرقيات الى استنبول ومدينة الموصل مركز الولاية لوضع حد للوضع الناشب في المدينة كما اتفق اعضاء فرع الاتحاد والترقي في السليمانية مع التجار لابعاد الشيخ من السليمانية.
ارسل الشيخ الى الموصل تحت رقابة مشددة بحجة ارساله الى استنبول، ودبرت له هناك مؤامرة قتل هو واحد ابنائه وعدد من افراد حاشيته .
ويعني هنا ان الثورة كانت فرصة للتجار والمثقفين في مدينة السليمانية للتخلص من سلطة ونفوذ الشيخ سعيد الذي وقف الى جانب السلطان ضد الثورة من خلال احداث الاضطرابات داخل المدينة باعتباره من المنتفعين من العهد الحميدي.
من الجدير بالذكر ان المصادر المتوفرة بين ايدينا لا تشير الى صدى الثورة الدستورية على الاقضية التابعة لسنجق كركوك والتي تضم ستة اقضية هي كركوك اربيل، رانية، راوندوز، كويسنجق، صلاحية (كفرى)، وبما ان الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية لم تكن تختلف في سنجق كركوك مقارنة بالسناجق الاخرى التابعة لولاية الموصل، لذا كان صدى الثورة الدستورية فيها كباقي الاقضية الاخرى، حيث شاركت جماهير الناس باقامة الحفلات والمهرجانات الحماسية احتفاء بالدستور، ليس عن شعور بالمشروطية ومعرفة بها، بل هكذا اريد منهم كما قيل لهم ان المشروطية تمنحهم الحرية، وتطلق المسجونين، والموظف الذي لايعجبهم متى ارادوا طردوه واستبدلوه بغيره. اما علماء الدين فقد وقفوا سلبيا واشاعوا ان المشروطية ترمي الى اعطاء الحرية للمرأة باكثر مما يستحق ويحق للبنات الزواج ممن يحببن ويلبسن الملابس القصيرة. اما الموظفون فقد فسروا المشروطية بمعنى اخر، اذ انهم اشاعوا انهم اصبحوا في مامن من عقاب القانون ولا سيما من تقرب منهم او انتسب الى جمعية الاتحاد والترقي بشكل عام ان العوائل الارستقراطية التركمانية داخل كركوك قد رحبت بالثورة لان بمجرد انتقال السلطة الى الاتحاديين سوف تتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي وثقافي كبير.
خلاصة القول ان الثورة الدستورية والتغييرات الجديدة والمفاجئة في قمة السلطة العثمانية قد احدثت اختلافا في المواقف السياسية في ولاية الموصل ازاء هذه المتغيرات الجديدة، وهناك من ناصر الثورة، ورأى فيها البعض فرصة لتحقيق المساواة والعدالة، في حين ظهرت هناك مواقف سياسية اتخذت جانب الحذر والريبة لا سيما بين اوساط العوائل المتنفذة وعلماء الدين والوجوه والمتقدمين خوفا على مصالحهم وتقاليدهم الدينية والاجتماعية العريقة. .