البحث في نشاة علم التاريخ عند العرب

البحث في نشاة علم التاريخ عند العرب

شكيب كاظم
كانت بداية تعرفي على الجهد المعرفي للدكتور عبد العزيز الدوري يوم قرأت كتابه (مقدمة في تاريخ صدر الاسلام) الصادر ضمن منشورات مكتبة المثنى ببغداد عام 1949 المكتبة التي طوح بها حريق مدمر صبيحة العشرين من آب/ 1999 لايخلو من اغراض مقصودة بعد ان طوت الايام حياة صاحبها الاستاذ قاسم محمد الرجب في الاول من نيسان/1974 وهو في بيروت، والكتاب هذا عبارة عن الآراء والملاحظات التي عرضت للاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري اثناء المدة التي قام فيها بتدريس التاريخ الاسلامي (بين شتاء 1943 وصيف 1949)

تناول فيه خطر الهوى على التاريخ العربي وضرورة تقسيم التاريخ الى ثقافي وسياسي واقتصادي واجتماعي كذلك إغفال المؤرخين العرب المتقدمين لاهمية العامل الزمني واخطاء النساخين في تشويه النص التاريخي من خلال الوقوع في التصحيف والتحريف فضلاً على وقوفه عند عهد الرسالة والخلافة الراشدة مما يحتاج كل بحث من هذه المباحث الى اكثر من وقفة كما أطلعت بشكل دقيق على كتابه (التكوين التاريخي للامة العربية.
دراسة في الهوية والوعي) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بيروت بطبعته الاولى عام 1984 اذ اعتمدت عليه في السنة التحضيرية لنيل درجة الماجستير من معهد التاريخ العربي للدراسات العليا. ان كتاب (بحث في نشاة علم التاريخ عند العرب) للعلاقة عبد العزيز الدوري كتاب رائد آخر يضاف الى سلسلة البحوث التاريخية الرصينة التي رفد بها الدوري مكتبة العرب التاريخية فضلاً عن مباحثه الرصينة المنشورة في المجلات الاكاديمية المتخصصة ومنها مجلة المجمع العلمي العراقي. انه كتاب فريد في بابه ومجال بحثه - والذي يقع في اربع مئة وثمان وثلاثين صفحة من القطع الكبير - اذ يتناول كما مثبت في العنوان نشأة علم التاريخ لدى العرب وتطوره خلال القرون الهجرية الثلاثة الاولى مشيراً الى ضرورة دراسة (تاريخ التاريخ) او تطور الكتابة التاريخية وما رافقها من مناهج وآراء واقفاً عند اوائل من كتبوا في هذا الباب او حدثوا وهم: عبيد بن شرية الجرهمي (ت 65 هـ) وأبان بن عثمان بن عفان (ت. بين 95 - 105 هـ) مثلثاً بعروة بن الزبير (ت 94 هـ) وهو فقيه ومحدث مشهور، ذاكراً شراحبيل بن سعد (ت 123هـ) وعبد الله بن ابي بكر بن حزم (ت 130) - وهو غير ابن حزم الاندلسي وعاصم بن عمر ابن قتادة (ت 120) واقفاً وقفة طويلة عند ابي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري (ت 124) وموسى بن عقبة (ت 141) وابن اسحق (ت 151 هـ) الذي قدم لنا اقدم سيرة تناولت حياة الرسول الاكرم - صلوات الله وسلامه عليه - وقد قسم هذه السيرة الى ثلاثة اقسام:
1- المبتدأ
2- المبعث
3- المغازي، او غزوات الرسول الاعظم وسراياه ولقد انتقدت سيرة ابن اسحق من قبل الباحثين المتخصصين ، كونه أدخل فيها الكثير من الاسرائيليات ، الناتجة عن مصاحبة ابن اسحق للعديد من الرواة من اهل الكتاب وبالتالي تأثيرهم فيه مما ظهر جليا في مروياته. وإذ وقف الدكتور عبد العزيز الدوري المؤرخ الفيلسوف وقلة هم الذين يفلسفون حوادث التاريخ فكثير من المؤرخين ينقل الحوادث التاريخية كما هي او كما وصلت من خلال سلسلة الرواة او كما يعرف بالسند او الاسناد مستعيرين هذا المنهج منهج السند من دراسة الحديث النبوي الشريف الذي تأخر جمعه وتمحيصه الى قرن من الزمان من حياة الرسول الكريم اذ أن جمع الحديث النبوي الشريف حصل ايام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) وذلك لنهي الرسول عن كتابته خشية الاختلاط بالقرآن الكريم في ايام الكتابة الاولى تلك فانه يدرس في الفصل الثاني اصول مدرسة التاريخ في المدينة والتي يطلق عليها اسم (المغازي) كذلك وهي التي تتناول المعارك التي خاضها رسول الله من اجل نشر الدعوة الاسلامية واقفاً عند اهم معلمين من معالم هذه المدرسة التاريخية الرصينة وهما: عروة بن الزبير بن العوام الذي امضى العمر منشغلاً بالدرس والعلم بخلاف اخويه: عبد الله ومصعب اللذين شغلتهما السياسة والحرب مما هو معروف لمن درس التاريخ الاسلامي وكان من نتيجة ذلك انهما تمكنا من السيطرة على الجزيرة العربية والعراق لسنوات عديدة حتى ان الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان فكر ملياً بتحويل الحج من مكة المكرمة الى بيت المقدس لسيطرة عبد الله بن الزبير على الديار المقدسة بمكة ومن اجل تعزيز فكرته ونقلها الى الواقع فانه نسب الى ابن شهاب الزهري حديثاً يجيز الحج الى المسجد الاقصي!! ولم يستطع الى ذلك سبيلاً لتوجيه سهام النقد الى الحديث المنسوب والشك فيه لان الزهري لم يشتهر في ذلك الوقت 72 - 73 للهجرة اذ كان شاباً وفي بدايات درسه العلوم والتاريخ والحديث وعروة بن الزبير القائل: امنيتي الزهد في الدنيا والفوز في الآخرة، وان اكون ممن يروى عنهم العلم ولقد روى ابن هشام (ت 218) وصاحب السيرة المعروفة باسمه (سيرة ابن هشام) وهي عبارة عن تشذيب وتهذيب لسيرة ابن اسحق عنه بانه (كان يصوم الدهر كله الايوم الفطر ويوم النحر ومات وهــــو صائم). ثم يقف العلامة عبد العزيز الدوري عند ابي بكر محمد بن شهاب الزهري ثاني اثنين من اعلام مدرسة المدينة التاريخية وواضع اللبنات الاولى لها واذا كان عروة بن الزبير رائد علم التاريخ فان الزهري - كما يقول الدكتور الدوري - اسس المدرسة التاريخية في المدينة. واذ درسها فانه يثني بدراسة ضافية وممتعة لاصول مدرسة التاريخ في العراق، والعراق سباق في كل حقل وميدان ونشأتها وتطورها واقفاً عند اتجاهين تركاً بصماتهما الواضحة علي الدرس التاريخي هما: اتجاه اهل الحديث الذي نقل اصول دراسة الحديث النبوي الشريف الى الدراسة التاريخية مؤكداً السند في نقل الرواية. والاتجاه القبلي الذي جاء نتيجة الاهتمام بالشؤون القبلية وفعالياتها ولايخلو الامر من تفاخر قبلي ازاء نزعات التهوين من شأن العرب وكان هذا الاتجاه استمراراً للقصص وأيام العرب في الجاهلية حيث حفظ لنا الرواة من خلالها الكثير من الحوادث والامور التي سبقت ظهور الاسلام مما هو مثبوث ومدون في الكثير من المصادر والمظان. ما أعجبني في هذا الكتاب انه مجموعة كتب في كتاب واحد مظان عدة ومصادر ومراجع يقدمها فيلسوف التاريخ الدكتور عبد العزيز الدوري بين يدي القارئ كافيه مؤونة البحث والتنقيب عنها وهي ليست في متناول كل احد، فبعد ان قدم لنا دراسة رصينة ورحبة - شأن كل كتبه - في نشأة علم التاريخ عند العرب فانه يقدم لنا مقتبسات مطولة من كتب التاريخ ومصادره الاولى المتقدمة: 1- مثل قطعة من مغازي وهب بن منبه (ت 110 - 114 هـ) الذي يعد من أوائل من كتب في هذا المجال وكذلك كتاباته كما وردت في طبقات ابن سعد وتاريخ ابي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310) الموسوم بـ(تاريخ الرسل والملوك) وكتاب (التيجان في ملوك حمير واليمن) لابن هشام تحقيق (ن.ف.كرنكو) طبعة حيدر اباد الدكن 1347 وكتاب (حلية الاولياء) لابي نعيم الاصفهاني. 2- كذلك مرويات عروة بن الزبير التاريخية المبثوثة في الطبقات الكبري لابن سعد او كما دونها الطبري. 3- وبعض من كتابات الزهري كما وردت في طبقات ابن سعد وسيرة أبن هشام وكتاب (أنساب الاشراف) للبلاذري. 4- فضلاً علي مرويات (موسى بن عقبة) التي وردت في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير وتاريخ الطبري. 5- وروايات محمد ابن اسحق الواردة في كتاب (البدء والتاريخ) لمطهر بن طاهر المقدسي ، وكتاب (الاكليل) للهمداني ، وسيرة ابن هشام وتأريخ الطبري. 6- وكذلك مارواه محمد بن عمر الواقدي (130 - 207) في كتابه (المغازي) أو مارواه عنه الطبري في تأريخه ، وكذلك البلاذري في (أنساب الاشراف). 7- فضلاً عن مرويات ابن سعد (ت 230 هجرية) في كتابه ذائع الصيت (الطبقات الكبرى). 8- ومادونه ابو مخنف لوط الازدي (ت157) الوارد بعض هذا الذي دونه في تأريخ الطبري ، او ما ورد منه في كتابي (فتوح البلدان) و (أنساب الاشراف) للبلاذري. 9- ومرويات عوانة بن الحكم (ت ، 147) المنبثة في كتاب (انساب الاشراف) للبلاذري، وكذلك تأريخ الطبري. 10- واقوال سيف بن عمر (ت 180)التي ذكرها الطبري في تأريخه. 11- ونصر بن مزاحم المنقري (ت 212هـ) ومروياته في كتابه (صفين) والذي قام بنشره المرحوم عبد السلام هرون سنة 1365 هـ، ونصر هذا علوي الهوى والتوجه. 12- وماذكره علي بن محمد بن عبد الله بن أبي السيف المدائي (135 - 225 هـ) مما هو مروي في كتاب (فتوح البلدان) للبلاذري وتأريخ الطبري. 13- روايات هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت 204) عن ابيه (ت146) مماهو مذكور في الطبقات الكبرى لابن سعد ، وتأريخ الطبري ، او مما هو مدون في كتابه (الاصنام) طبعة لايبزج عام1941. 14- فضلاً على مارواه مصعب بن عبد الله الزبيري (ت 233 - 236) في كتابه (نسب قريش) الذي قام بتحقيقه المتشرق ليفي بروفنسال. 15- تزاد علي ذلك منقولات الهيثم بن عدي الطائي (ت 206) المتفرقة في كتابي (فتوح البلدان) و (انساب الاشراف) للبلاذري ، وكذلك تأريخ الطبري. 16- غير ناسين معمربن المثنى (ابو عبيدة) (110 - 211) الذي عرف بمروياته الكارهة للعرب ، حيث ينقل لنا حديث (يوم الكلاب) الوارد في كتابه (النقائض) ، نقائض جرير والفرزدق ، وحديثه عن واقعة (ذو قار) أو اخباره عن عبيد الله بن زياد بن أبيه (أبي سفيان) الواردة في كتاب (انساب الاشراف) للبلاذري. 17- ويجب ان لاننسى حديث احمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت 279) عن الفتنة الواردة في كتابه (أنساب الاشراف) أو حديثه عن فتح مدينة دمشق واراضيها سنة 14هـ مماهو وارد في كتابه (فتوح البلدان) على يد خالد بن الوليد المخزومي ، دون قتال الذي كتب لهم كتاباً هذا نصه :(بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ماأعطى خالد بن الوليد أهل دمشق ، إذا دخلها أعطاهم أماناً علي انفسهم واموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لايهدم ، ولايسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء والمؤمنين ، لايعرف لهم (لايعرض؟ ) إلا بخير اذا اعطوا الجزية) مما يظهر سماحة الاسلام ، ورحابة صدره ازاء الديانات الاخرى والتعايش معها دون احقاد وضغائن ولا أعتقد ان اليهود ، عاشوا عهداً من الحرية الدينية والتسامح وتقلد الوظائف العالية والمناصب ، مثلما عاشوه في اكناف المسلمين في بلاد الاندلس حتى اذا سقطت الدويلات الاندلسية ، دويلات الطوائف ، وآخرها (غرناطة) بيد المتعصبين والغلاة ، اضطهد اليهود وتفرقوا وحطوا الرحال - غالباً - في اصقاع الدونمة في تركيا ، وقلبوا ظهر المجن للعرب والمسلمين ، من خلال افكار جماعة الاتحاد والترقي التي قادت الانقلاب ضد السلطان العثماني عبد الحميد 1908 والتي قادت الدولة العثمانية الى الكارثة كارثة الحرب مع المانيا ضد الحلفاء مما هو معروف للدارسين والباحثين. 18- ثم نقرأ في الكتاب مرويات اليعقوبي (ت 284) في كتابه (التأريخ) والمعروف لدى الدارسين بتأريخ اليعقوبي ، وفيه حديث عن تأريخ العالم قبل الميلاد - شأنه شأن اغلب المؤرخين المسلمين ، المسعودي مثلاً - وللتأريخ الاسلامي حتى سنة 259 ، وصولاً الى أيام أحمد المعتمد علي الله بن جعفر المتوكل. ثم ينقل لنا العلامة الدكتور عبد العزيز الدوري - الذي ماعرف العراق حقه وفضله وعلمه ، شأنه مع الكثيرين ، قدموا خلاصة عقولهم لآخرين ، وما احراهم أن يقدموها لبلدهم! 19- نقولات ابن قتيبة أبي محمد عبد الله بن مسلم الكاتب (ت 270) في كتابه (المعارف). 20- وأبي حنيفة الدينوري في كتابه (الاخبار الطوال) والمتوفى سنة (282) وأخيراً نصل الى الطبري في كتابه التأريخي الكبير والرائد (تأريخ الرسل والملوك). ان كتاب (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب) للعلامة الكبير الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري ، يضع بين يدي القارئ نماذج منتقاة ومصفاة من هذه الكتب التأريخية التي ذكرتها آنفاً ، التي هي بمثابة الكتابات التأريخية العربية الأولى . إنه كتب في كتاب وكتاب يضم كتباً أتحف به الدكتور الدوري مكتبة التأريخ العربي الاسلامي ليضاف الى كتبه الاخرى والتي زينت هذه المكتبة مثل :(تأريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري) و(دراسات في العصور العباسية المتأخرة) و (العصر العباسي الأول : دراسة في التأريخ السياسي والاداري والمالي) و (مقدمة في التأريخ الاقتصادي العربي) و (النظم الاسلامية :الخلافة ، الضرائب ، الدواوين والوزارة) وليقف في مقدمة من وضع اللبنات الاولى لمدرسة العراق التأريخية الحديثة ، الى جانب بقيـــــــــــــــــة الرعيل من هذه المدرسة : الدكتور صالح أحمد العلي ، الدكتور حسين أمين ، سعيد الديوجي ، الدكتور ناجي معروف ، الدكتور بشار عواد معروف ، الدكتور عبد الجبــــــــــــار ناجي والدكتور خالـــــــــد العسلي ، والدكتــــــــور نافع توفيق عبـــــــــــود ، والدكتور كمال مظهر أحمد والدكتور سيار الجميل. والدكتــــــــور جواد علي وحامد البازي.