الإبحار في فراديس الجمال: صلاح القصب نموذجاً

الإبحار في فراديس الجمال: صلاح القصب نموذجاً

بعد تجارب آندريه إِنطوان ونزعته الواقعية في الإخراج، أراد الكثير من المخرجين الخروج من معطف الواقعية، أي البحث عن شكل مسرحي آخر بعيدا عن القواعد الثابتة التي نادى بها آندريه انطوان.أرادوا إيجاد عوالم أشد إيهاما وأكثر جمالا من واقعية تتكرر وتُشاهد كل يوم من خلال روتين الحياة للإنسان العادي،

لتعرض مجددا على الخشبة.
هذا ما انتبه إليه الرمزيون من خلال طروحاتهم القائلة بإن الطبيعية تقتل الإيهام وتقتل الصور التي يمكن أن تنتجها الذاكرة الجمالية، وهكذا خطا المسرح خطوات مهمة وجريئة في عدم محاباته للواقعية والانطلاق إلى عوالم الشعر الخلاقة، ظهر (آدولف ابيا، كوردن كريك وجان لوي بارو) وغيرهم من الذين اهتموا بالجانب البصري امثال (الالماني ماكس راينهارت والروسي فسفورد مايرخولد وبرخت والفرنسي جاك كوبو والالماني اورين بسكاتور ومن ثم تجارب ارتو وكروتوفسكي واوجينو باربا .. لعل المخاضات التي افرزها القرن العشرين وما جرى فيه من أحداث هي التي أحدثت ثورة فنية، بل انها ليست على مستوى الفن لوحده وانما على مستوى الشعر والفن التشكيلي وكذلك الموسيقى، وهذا مايُشيراليه الناقد عواد علي بقوله (لقد تميز الإخراج المسرحي الخلاق للقرن العشرين بمنهجه الكلي الذي يعبر عن أجتهادات لاحدود لها، ومغامرات فنية، وأتجاهات مختلفة يجمع بينها المنحى التجريبي والطليعي، ويتصدر فيه أشتغال المخرج على البناء المشهدي والبحث عن فضاءات جديدة للعرض والقراءة المغايرة المنتجة التي تهدف إلى الإمساك بما هو مسكوت عنه في النص او لامفكر فيه وإطلاقة في فضاء العرض في صيغة علامات حرة لاتكتمل دلالاتها الا بفعل قراءة المتلقي لها وفعاليته في إستنطاقها وتأويلها. وبذلك تداخلت سلطة المخرج ( القارئ الأول للنص ) وسلطة المتلقي ( القارئ الثاني للنص والعرض) في إنتاج الخطاب المسرحي وإزاحة المؤلف.
مسرح صورة، أم مسرح كادر؟
في النصف الثاني من عام 1996 وصلتُ إلى بوخارست عاصمة رومانيا - احدى دول اوربا الشرقية الاشتراكية سابقا-. كنتُ في شوق لمعرفة هذه العاصمة التي تخرج منها واحدا من أهم المخرجين المسرحين العرب وقد يكون أهمهم وسنتطرق لذلك ونوضحه فالقصب هو مشروع ورقتنا هذه وسنبين لماذا نجده من أهم المخرجين العراقيين والعرب عموما..
شوقي نابع من السحر الذي سحرنا به القصب، والذي تخرج من جامعة بوخارست في نهاية السبعينيات وجاءنا حاملا لواء الثورة الجمالية في المسرح من خلال أول أعماله بعد عودته من رومانيا وما إستلهمه من أستاذته الرومانية ( ساندا مانو) وما تركته هذه المخرجة المبدعة من تأثيرات في الشكل المسرحي السائد وقيامها بثورة بصرية أمتد تأثيرها الى الساحات المسرحية المجاورة لرومانيا كبلغاريا وهنكاريا.
عندما صرخ القصب من خلال عروضه المسرحية لتذهب الذاكرة الإنفعالية لستانسلافسكي إلى الجحيم ودعونا نبحر في فراديس الجمال البصري( المشكلة هي ليست بقضية الإنسان المتلقي وقضية المسرح، عندما تكون هناك قرارات جمالية، عندما يكون المسرح قد دخل إلى رحاب أكبر أتساعا وعندما يدخل إلى فراديس الجمال، عندما يدخل إلى الفلسفة فعندما يرتقي المسرح جماليا ويرتقي فنيا، هذا يعني بأن الإنسان قد أرتقى أيضا فنيا لذلك الانحسار الموجود هو عندما تكون هناك أعمالاً مألوفة، أعمالاً تقليدية، أعمالا متوارثة، أعمالا ساكنة، أعمالا ميته فهذا يعني بأن الجمهور قد أبتعد، قد كون مسافة بينه وبين تلك العروض وعندما تكون هناك عروض متألقة، عروض كبيرة فإن المسافة ستتلاشى وسيندمج المتلقي والعرض في محيط واحد تجربة الدكتورصلاح القصب في مسرح الصورة، تختلف اختلافا جذريا عن كل ما هو مطروح بالساحة المسرحية العراقية منذ ولادتها وإلى حين عودة القصب من دراسته..
برومانيا ومشروع القصب الذي يقترب كثيرا من طروحات آرتو ومايرخولد، من خلال اهتمامهما بالجانب البصري على المنطوق الأدبي وحركة الممثل وإستثمار طاقته الجسدية على الخشبة وكذلك تهميشهما للنص المسرحي ولا يخضع القصب لسلطة المؤلف، بل العكس هو الصحيح يخضع النص لسلطته الإبداعية ولمشرطه الذي لا يرحم كمشرط الجراح حين يستأصل الداء من الجسد العليل.
تجربة القصب أثارت ردود فعل عديدة في العراق، لكنه حصن نفسه بأسلحة ليست تقليدية، من خلال إصداره لبيانات مسرحية، يسعى من خلالها للتعريف بتجربة مسرح الصورة، وأيضا قدم تطبيقات مختبرية كعروض مسرحية من أجل تكامل عناصر تجربته المسرحية، وبعد كل هذه السنوات الطوال لازال القصب يدافع عن تجربته من خلال طروحاته النظرية ومن خلال عروضه المسرحية، تحت تسمية مسرح الصورة وهو يبحث دائما عن معالجات وقراءت مسرحية جديدة غير تقليدية - قراءت خاصة به وحده، وهويعتبر التجريب في المسرح عملية إنقطاع عن الماضي مثلما هو سفر وتجوال في فضاءات المستقبل الذي يبحث فيه عن فراديس يسكنها كل ماهو جميل وجليل وهو القائل في قراءته لمسرحية ماكبث ( في مكبث شعرت اني وسط جحيم كوني يديره الملائكة متسربلين بأنظمة مملؤة بالقلق والفزع، ( مكبث ) عين لا ترى من خلال لحظة الرؤيا بل نظرات من خلال استعادة قوى وحركة زمن مضطرب مصطدم متنافر لا يعرف الرحمة والحب في كثير من تفصيلاته وهوامشه اليومية ( مكبث ) جحيم منتقم لسوداوية القرن العشرين ) 2، وقتها سمعنا الكثير من الكلام بأن القصب نقل حرفياً تجربة أستاذته ( ساندا مانو ) الى العراق لغرض تقديمها، باعتبارها صاحبة منجز بصري مهم برومانيا.
شكك الكثير في إمكانية هذا المبدع البصري، قالوا سيأتي اليوم الذي سينضب خزينه الجمالي الذي خزنه من رومانيا وبعدها سيفتضح أمره كغيره من المخرجين أصحاب التجربة المسرحية الواحدة والذين توقفت تجاربهم بعد تجربة أوعمل مسرحي واحد قدموه بعد عودتهم من بلدان الدراسة، بعد تجربتهم الواحدة لم يقدموا شيئا يستحق المتابعة او الدراسة، لكن القصب لم يتوقف، بل أستمر بالعطاء متنقلا بين فراديس الجمال وكان المنظر الأول لهذا الإتجاه المهم في مسيرة المسرح العراقي والعربي..
شاهدتُ عروضا مسرحية كثيرة وخاصة للمسرح التجريبي او لعروض مسرحية تنظم لإتجاه المسرح لصوري ( مسرح الصورة )كما يسمى والذي يطلق عليه (مسرح الكادر ) في رومانيا. في مشاهدات عديدة اخرج مسرورا من المسرح وفخورا بتجربة أستاذي القصب، فخورا لان تجريته لاتشبه تجاربهم ولم يكن القصب ناقلا ولا مستنسخا لتجارب المسرح الروماني، وجدتها تجربة خاصة بصلاح القصب، نعم هناك بعض التناص في الشكل العام للعرض المسرحي لكن هذا ليس مثلبا يأخذ على تجربة القصب، بأعتبار ان العرض المسرحي كان ومازال في حالة تناسل منذ المخرج الاول ( الدوق سايس منكن )الى الان لكن الاختلاف يكمن في تغير الشكل المسرحي وهذا يتطور وفق معطيات كثيرة منها الزمن، الحالة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، الخ، وطبعا هذا الاختلاف يرجع الى معطيات البلد بالدرجة الاولى كانت تجربة القصب، تجربة فريدة في الثورة الشكلية الجديدة لتأسيس شكل مسرحي اخر، شكل مسرحيا يبنى أساساً على الصورة المسرحية، هذا الشكل لايحدده النص الادبي، بل يشكله القصب نفسه وهذا ما اعلنه هو ايضا( انني لا استنسخ الخطاب المسرحي أواستنسخ المؤلف بقدر ما أعمل على منحه لغة العصر والتفكير بمنطق جديد عصري يتلائم وفي نفس الوقت يتمرد على الحاضر وأعتقد ان هذا المنطق يعتمد في جوهره على الجدلية ).
وكما يقول الناقد عبد الخالق كيطان (يعتمد خطاب المخرج القصب دائما وأبدا على حوار العين والخشبة، انه يركز فكرة المرئي على حساب الادبي الخطاب المسرحي عند القصب، هو خطاب بصري ناتج من القراءة المغايرة التي ينشدها القصب للنص الادبي وأخضاع النص للمنظومة الجمالية التي يفجرهاالمخرج في النص الادبي وهذه المنظومات يوظفها المخرج للشكل المسرحي الذي يريده- المخرج / المؤلف- بأعتبار ان المخرج هو مؤلف ثانٍ للنص، اي (نص العرض) وما فعله القصب لنصوص مسرحية مهمة مثل( الملك لير، العاصفة، مكبث، الخال فانيا، الشقيقات الثلاث، هاملت ) هو مايدعم كلامنا هذا ولعل مسرحية هاملت تملك من الخصوصية في تجربة القصب ما يميزها عن تجاربه السابقة او على الاقل بالنسبة لنا كمشاهدين، لانها أول اعمال القصب بعد عودته من رومانيا وهي كانت أشبه بالبيان الاول للثورة البصرية التي نادى بها، اعني تمرده على القدسية التي يحملها النص الكلاسيكي خاضعا كل النصوص التي أخرجها لقراءته وليس لخطاب المؤلف ( أنني لا أتوقف عند النص الابداعي لشكسبير وتشيكوف ومايكوفسكي وأبسن ويوربيدس وبيكت وأنما أذهب بعيداً بحثا عن تلك الارواح التي صنعت الذاكرة في خطابها المسرحي من خلال هذا الاستحضار و الاستنطاق أقدم النص وأدعمه بالزمن الاتي من المنصف القول ان القصب هو واحد من القلائل الذين تندرج تجاربهم تحت لواء التجريب باعتبارها تجربة ذات خصوصية، هذه الخصوصية تحمل الكثير من التأسيس لاتجاه مسرحي جديد وهذا الاتجاه هو نتيجة بحث دائم في الاشكال المسرحية من خلال المتابعة والقراءة وبالتالي الثورة على ما يقدم من أعمال جميعها تتحد ث بلغة شكلية واحدة وتتكررسماتها المسرحية في أغلب العروض، وهذا ما أراده القصب في عروضه، أرسال رسائل بصرية من خلال أستخدامه لمنظومات علاماتية وجمالية متكاملة أنتجها من قراءته للنص الادبي وهذا ما يذهب اليه أبراهام مول ( يتألف العرض المسرحي من رسائل متعددة تستخدم في آن واحد من أجل إنشائها قنوات أو ضروب كثيرة من ظروب أستعمال قناة في الاتصال تجتمع في تركيب جمالي أو أدراكي وكذلك ما قاله جير فلتروسكي ( كل ما يكون في المسرح يكون علامة وبما ا ن مفردة تجريب هي من تصريف جرب يجرب تجريباً اذا لابد ان يكون هناك تأسيس نظري يدعم هذه التجربة من أجل تكامل سماة وجودها ومن ثم الاعلان عنها وهذا ما فعله القصب، أخذ يقدم لنا تجربته بشكل عملي وقدم تجارب مهمة في مسيرة المسرح العراقي والعربي ومنها ( الخليقة البابلية، هاملت، طائر البحر، الملك لير، العاصفة، حفلة الماس، الشقيقات الثلاث، عزلة الكرستال، أحزان مهرج السيرك، الحلم الضوئي، مكبث ) ولم يكتفي بما قدمه عملياً، بل قام بأصدارخمسة بيانات مسرحية وهي (كمياء الصورة، جماليات الصورة، أثيرية الصورة، مابعد الصورة والصورة بين النظرية والتطبيق) وكذلك مجموعة مقالات للتعريف باتجاهه المسرحي الذي أسماه ( مسرح الصورة )، وهنا نستشهد بما قاله القصب ان مسرح الصورة هو محطات تأسيسية متجددة يقظة ومتمردة على المؤسسة المسرحية التقليدية انها تأسيس جمالي فلسفي ومن خلال رافد التنظير لفلسفة الصورة وانبثاقها الاثيري التجريبي ورافد التطبيق في انجازه الابداعي لمجموعة العروض المسرحية التي سجلت لهذا الاسلوب خطواته المعرفية في مساحات الممارسة الاخراجية للتجربة المسرحية العراقية والمعاصرة لهذا قلنا بأن تجربة القصب من أكثر التجارب أهمية ومن اكثر التجارب التي تنطوني تحت مفردة التجريب، لانها تجربة حملت ملامح وجودها لحظة ولادتها وهي تجربة مسرحية تحمل الكثير من سماة التكامل وهي اشبه بتجربة اي باحث كميائي اوجراح، حيث يقوم هذا الباحث بدراسات نظرية لبحثه في أكتشاف دواء مثلا أو أجراء عملية جراحية وبالتالي تطبيق نتائج بحثه عمليا، وهذا ما فعله القصب تماما كأي جراح، قام بدراسات نظرية لعمليته المعقدة ومن ثم أجرى عملياته الجراحية أمامنا على خشبة المسرح.