يهود العراق في القرن التاسع عشر

يهود العراق في القرن التاسع عشر

وليد خدوري
شاعت في الكتابات الغربية فكرة تصوير الطوائف اليهودية في البلاد العربية كمثال للأقلية المغتربة التي تعاني اجتماعياً واقتصادياً على السواء. بيد أن الدراسة المتأنية لسجل التاريخ توضح ان الوضع كان مختلفاً تماماً عما صورته وسائل الاعلام الصهيونية خلال العقود الأربعة الماضية. وكما تشير هذه الدراسة لوضع الطائفة اليهودية في العراق،

فان ظروف هذه الطائفة المحلية ومستوياتها وتقدمها كانت شبيهة بغيرها من قطاعات المجتمع، ولولا الاثارة الدعائية للصهاينة خلال النصف الأول من القرن العشرين لتطورت الحالية اليهودية في العراق على نسق غيرها من المجموعات الاجتماعية في البلاد.
الخلفية:
من الضروري كي ندرس الطوائف الأجتماعية في العراق قبل ظهور الدولة الحديثة أن نفهم كلا من الدينامية الداخلية لهذه التجمعات وعلاقتها بالاسلام وبالسلطات العثمانية الحاكمة، ودينامية العلاقة بين الجماعات القائمة في ذلك الحين.
وللقاعدة القانونية الأولى التي تحكم العلاقة بين حكومة اسلامية والجماعات غير الاسلامية داخلها – أهل الذمة – هي أن الشريعة الاسلامية تختص بشؤون المسلمين، في حين أن العلاقة بين الذميين داخل كل طائفة تحكمها شرائع ومؤسسات تلك الطائفة، وكان الزعيم الديني لكل مجموعة مسؤولاً امام الخليفة الاسلامي، ونتبع وضعية الذمي الفرد من انتمائه الى طائفة تتمتع بالحماية، وقد ولد هذا النظام أثناء الامبراطوريات الاسلامية وعاش معها، واستمر طيلة العهد العثماني.
وكان من جوانب العلاقة التعاقدية بين الخليفة الاسلامي واهل الذمة تمتع هؤلاء الاخيرين بحرية العبادة، والتنقل والاقامة والتعليم. أما التزامهم فكان دفع الجزية مقابل ما يحصلون عليه من حماية، وعدم مساعدة أعداء الدولة. ولقد فرضت بعض القيود الاجتماعية لكنها في أغلب الاحوال لم تكن تنفذ. وكانت تنتهك بحرية، ونضرب مثلاً على ذلك من أيام الدولة العباسية هو الخروج على القاعدة القاضية بعدم اقامة دور عبادة جديدة لغير المسلمين، فقد ذكر الحاخام بنيامين بن توديلا الذي زار بغداد في عام 1168 أنه كان فيها في ذلك الحين ثمانية وعشرون كنيساً يهودياً. وما كان يمكن أن يكون واحد منهم قد بني قبل الحكم الاسلامي، فقد بنى الخليفة المنصور بغداد في عام 762. وهناك شواهد مماثلة وفيرة على هذا التساهل القانوني في غيرها من المدن.
وفي ذروة الحكم العباسي في بغداد أسهم الفلاسفة والباحثون والعلماء من كل العقائد في هذه الحضارة المزدهرة. ولعب التجار اليهود – وبخاصة مجموعة الردانية – دوراً رئيسياً في التجارة الخارجية للأمبراطورية، وحين انهار الحكم العربي، وحطمت الغزوات القبلية العسكرية قواعد الزراعة والتجارة والادارة العامة، عانت كل الطوائف من ذلك دون استثناء.
وسادت الحكم العثماني (1534-1914) الغزوات الأجنبية والمنازعات المسلحة المحلية. وأدى عدم الاستقرار المزمن الى الركود: فلم تطبق برامج اجتماعية عامة حتى القرن التاسع عشر، واتبعت الآستانة (استانبول) سياسة الاهمال الكامل لمناطق العراق. وعلى سبيل المثال فان اصلاحات منتصف القرن التاسع عشر (التنظيمات) لم تطبق في العراق الا بعد عدة عقود من تطبيقها في الاستانة.
غير أن الامبراطورية العثمانية اعترفت بوضعية أهل الذمة كمحميين. ومنذ عام 1362 صدرت للطائفة اليهودية (أهل الملة) فرمانات تجيز لهم بناء المعابد والمدارس، وتمنحهم حرية التنقل والعمل والاقامة. وفي الوقت الذي كان اليهود يعانون فيه الاضطهاد الاجتماعي والديني في أوربا كان كثير منهم من الدبلوماسيين وأغنياء التجار والحرفيين في الامبراطورية العثمانية ، بيد أن الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية ظلت متخلفة في الامبراطورية بوجه عام، وفي العراق بوجه خاص، بالرغم من الاصلاحات في مجال القانون والمؤسسات في أواخر القرن التاسع عشر فلم يكن يعيش حياة الرخاء سوى عدد قليل من العراقيين في المدن الكبرى أما غالبية السكان – وبصرف النظر عن عقيدتهم – فكانوا يعانون أثار قرون من التدهور الاقتصادي والاستغلال وسوء الادارة. وكان اغلب الحكام العثمانيين يجهلون لغة البلاد وظروفها. كما كان التعليم الحديث مقتصراً على أبناء الاعيان في حين لا يتلقى غيرهم سوى تعليم ديني تقليدي. وسيطر الولاة العثمانيون على السكان المحليين بأساليب تجمع بين القوة العسكرية واجتذاب الاعيان والقيادات الدينية الى حاشيتهم. وأسهمت الكوارث الطبيعية في تخلف المنطقة العام. فقد لقى نحو ستين في المائة من سكان بغداد مصرعهم في ربيع عام 1831 حين اجتاح المدينة الفيضان والطاعون في الاسبوع نفسه.
الظروف الاجتماعية:
تاريخ اليهود في العراق تاريخ قديم يرجع الى عام 586 قبل الميلاد ان لم يكن قبل ذلك. فمنذ ذلك الوقت، وطيلة الامبراطورية الاسلامية – لعب اليهود دوراً فكرياً ودينياً وتجارياً له شأنه. وتشمل الانجازات البارزة خلال هذه الفترة وقبل دخول العثمانيين في العراق في القرن الرابع عشر، أكاديميات سورا، نوهدرا، بومباديتا، التلمود البابلي، مراكز اكسيلارش وغوينم، أعمال (رسيونسا) بالاضافة الى الارساليات الدينية الى مصر وشمال أفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأقصى.
والمدونات التي تسجل ظروف المجتمع العراقي بين القرن الرابع عشر والقرن التاسع عشر متناثرة غير أن اقوال الرحالة منذ القرن السابع عشر تصف بغداد كمدينة تضم ما بين عشرين ألف وثلاثين الف منزل، يقطن اليهود ما بين مائتين وثلاث مائة منزل منها، ويزودنا الرحالة في أواخر القرن التاسع عشر بأرقام أكثر مدعاة للثقة، إذ يقدرون عدد أبناء الطائفة اليهودية في بغداد بخمسين ألف نسمة. ويتفق هذا الرقم مع التعداد الذي اجرته سلطات الاحتلال البريطاني في عام 1920 فقد قدر المجموع الكلي لسكان العراق في ذلك الحين بـ(2.849.282) نسمة بينهم (87.484) من اليهود، يعيش منهم (50.000) في بغداد و(15.000) في الشمال و(7000) في البصرة .
وكان يهود العراق يشكلون جزءاً لا يتجزا من المجتمع. وكانت ممارساتهم الثقافية والاجتماعية هي ممارسات السكان في مجموعهم: (كانت طائفة معرّبة تماماً... فقد كان "اليهود" يتحدثون العربية فيما بينهم، ويستخدمون العربية في شعائرهم الدينية، ويكتبون العربية بحروف عبرية في مراسلاتهم وكانت حياتهم الاجتماعية هي حياة العرب، وكذلك مطبخهم... وخرافاتهم وحتى... الحريم) .
وكانوا أيسر حالاً بالمقارنة باليهود الذين يعيشون في المجتمعات الشرقية الاخرى.
فقد وجد الحاخام اسرائيل بنيامين – الذي طاف بالمنطقة في منتصف القرن التاسع عشر – أن الطائفة اليهودية في بغداد مستقرة تماماً:
((لم أجد أخوتي الاسرائيليين بأي مكان آخر من الشرق، في مثل هذه الظروف السعيدة، ولا بمثل هذه الجدارة)).
وكان أغلب معتدلي الدخل اليهود يعيشون – كغيرهم من المجموعات الاجتماعية – في قطاعهم الخاص في بغداد، في حين يعيش أقرانهم من الاغنياء في بيوت مرفهة على شاطئ دجلة الى جانب الاعيان المسلمين والمسيحيين والموظفين الاتراك. وهكذا كانت الظروف الاقتصادية – الاجتماعية لليهود العراقيين تختلف من حي الى آخر في المدينة، ومن منطقة الى أخرى في البلاد، كما كانت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمهنة التي يختارون، وبشكل عام كانوا أكثر اشتغالاً بالتجارة، وقليلاً ما كانوا يعملون بالزراعة.
وكانت التجارة مركزة في وسط العراق وجنوبه، وبخاصة في بغداد والبصرة حيث كان جزء كبير من الطائفة اليهودية يسهم في التجارة. وعملت عائلات كثيرة في التجارة الخارجية، وأقامت بيوتاً تجارية في فارس والهند وانكلترا. أما الغالبية فكانت من صغار تجار المفرق في المدن الكبرى، وفي كل المناطق الريفية، باستثناء بعض الاقاليم في أواسط حوض الفرات.
وفي الشمال كان هناك عدد قليل من التجار اليهود بين القبائل الكردية يعملون كمستشارين للأغوات والامراء. أما غالبيتهم فقد كانت تعمل في الزراعة. كما كان هناك عدد من كبار الملاك يعمل لديهم فلاحون هم أنفسهم من اليهود. غير ان الاغلبية كانت تعيش في الجبال المنعزلة في نفس المستوى الاقتصادي – الاجتماعي الذي كان يعيش فيه سائر الفلاحين في العراق. وكانوا مدججين بالسلاح، يدفعون مبالغ سنوية للقبائل الاقوى مقابل الحماية، ويؤدون خدمات لكبار الملاك مثل شق القنوات وبناء المساكن.
كما كان هناك كبار ملاك يهود في أماكن أخرى من العراق مثل البصرة والحلة وديالى حيث كانوا يمتلكون بساتين النخيل وحدائق الفاكهة وحقول الحبوب. وفي المدن الاصغر مثل عانة وهيت كان بعض اليهود تجاراً وكبار ملاك ارض في الوقت نفسه.
وكان بعض أفراد الطائفة اليهودية يعملون أيضاً في الصناعات البدائية التي كانت قائمة في ذلك الحين: النسيج وصناعة الحرير والجلود. وكانت منتجاتهم تستهلك محلياً فيما عدا بعض صادرات الحرير من كردستان.
القيادة السياسية:
وطيلة هذه الفترة – حين كانت الادارة المركزية ضعيفة أو غير موجودة – كانت الجماعات الطائفية في بغداد خاضعة للنفوذ السياسي والديني المباشر لبضع عائلات حصلت على سلطاتها بحكم النسب أو احتراماً لعلمها وثروتها. وكانت هذه العائلات نتيجة لقلة عددها ولامتيازاتها الخاصة – مثل الاعفاء من الضرائب ومن الخدمة العسكرية – تتنازع فيما بينها، وتدبر المكائد لبعضها البعض. وكثيراً ما كانت العائلة ترتبط بوال معين، يتأرجح مصيرها مع تأرجح مصيره. وكانت علاقتها بالطوائف التي تمثلها علاقة استبدادية، وانتشرت حوادث الرشوة والمظالم. وكجزء من حاشية الوالي كانوا ينفذون رغباته، ويقتسمون الاموال التي يوزعها.
وكانت اسهامات هذه العائلات في الدراسات الدينية والعلمية قليلة الشأن والمدارس التي يديرونها كانت تخرج رجال دين موظفين، رجعيين في نظرتهم الى كل من العالم الروحي والعالم الدنيوي.
وكان الحاخام باشاى هو الممثل الديني الاكبر للطائفة اليهودية. أما حاخام باشاى الآستانة فقد كان ممثل كل يهود الامبراطورية في مجلس الدولة. وكان مسؤولاً عن تحديد نسبة الضرائب وجبايتها من الطائفة، والتصديق على تعيين الحاخامات الادنى مرتبة. وفي بغداد كان ممثلو الطائفة المحلية يختارون. الحاخام باشاى، ويصدق على اختياره الوالي وحاخام باشاى الآستانة. غير أنه مع الزمن انعزل عن الطائفة، وأصبح صنيعة للوالي أكثر منه ممثلاً للطائفة، وأدى هذا الى نزاع كبير داخل صفوف الطائفة اليهودية في بغداد عام 1879. فقد ظل ساسون بن ايليا سموحة، حاخام باشاى في ذلك الوقت، خمساً وثلاثين عاماً في منصبه، وكان يتمتع بتأييد الوالي وحاخام باشاى الآستانة. وكان من دواعي تذمر الطائفة ضده اختلاس الضريبة العسكرية. ووجهت أغلبية الطائفة اليهودية – وبينهم عدد من الحاخامات الادنى مرتبة- عريضة الى الوالي يطلبون فيها عزله. وشعر الوالي بأنه مضطر الى الاستجابة لهذا الطلب على الرغم من صداقته لسموحة، غير ان حاخام باشاى الآستانة ألغى القرار. الا ان عودة سموحة الى منصبه كانت قصيرة الاجل. فقد أدى مسلكه بالطائفة اليهودية الى ارسال برقية الى الآستانة، وأخيراً تدخل السلطان نفسه وفرض عزل سموحة. وفي ذلك الوقت كان النزاع قد أدى الى انقسام كبير داخل صفوف الطائفة اليهودية في بغداد .
والى جانب الحاخام باشاى كان هيكل السلطة داخل الطائفة اليهودية يشمل بيت الدين – الذي يفصل في المنازعات داخل الطائفة – في حين كان الحاخام يحدد العقوبات. وكان بيت الدين يتألف عادة من أفراد العائلات اليهودية التجارية الثرية. والواقع أن عائلة بمفردها كثيراً ما كانت تتوارث كل هذه المناصب قروناً بأكملها.
وكان (الناسى) هو الممثل الدنيوي للطائفة، وكثيراً ما كان أغنى تجارها. كما كان أيضاً صاحب بيت مال الوالي أو مستشاره المالي. ويدير شؤون الطائفة المالية – وأساساً جباية الضرائب – مجلس الملة الذي تنتخبه الطائفة، ويتألف من عشرة أعيان يشرفون على البرامج التعليمية والاجتماعية للطائفة.
وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر كان (ناسى) بغداد – وليس الحاخام باشاى – هو الذي يسيطر على السلطة السياسية الفعالة في الطائفة. وقد توارثت عائلة ساسون هذا المنصب جيلاً بعد جيل. وكانت تربطها بالآستانة روابط وثيقة. وحين وصل داود باشا – آخر الولاة المماليك – الى السلطة في بغداد عام 1817 كان عليه أن يعتمد على آل ساسون للحصول على فرمان من الخليفة. غير ان هذا العمل بالتحديد أثار العداء لآل ساسون داخل حاشية الوالي، الامر الذي أدى في النهاية الى هجرة فرع من العائلة الى الهند ثم الى انكلترا فيما بعد. وفي العقود التي أقبت (التنظيمات) ظل أغنى تجار المدينة يشغل منصب (الناسى) لكن السلطة السياسية عادت الى الحاخام باشاى .
• الديانة:
كان يهود العراق جميعاً من طائفة الحاخاميين، الذين يتمسكون تماماً بالتلمود. ومع التدهور الثقافي داخل الطائفة والبلد عموماً أثناء العهد العثماني، أصبحت الممارسات الدينية مثقلة بالطقوس وبخاصة في المناطق الريفية.
وكانت هناك بعض الصلات باليهود الاجانب أثرت على الممارسات والمعتقدات الدينية لليهود العراقيين. وكانت القبالية والصوفية منتشرتين بوجه خاص بين الطوائف اليهودية في أوروبا الشرقية وتركيا وصفد وفلسطين. وكانت صلات اليهود العراقيين قوية بشكل خاص مع هذه الجماعات، كما كانت مطبوعاتهم الدينية مألوفة في بغداد. وفضلاً عن هذا فقد شجع الحاخام يوسف حاييم، أحد القادة الروحيين الرئيسيين في بغداد من عام 1859 الى عام 1909 انتشار هذه الممارسات. وكان للحاخام عدد كبير من الاتباع باعتباره رجلاً مثقفاً وثرياً وخطيباً مفوهاً، وواضعاً لأثنين وثلاثين من كتب المواعظ والتعليقات والصلوات القبالية والاشعار والطقوس .
• التغيرات في القرن التاسع عشر:
أدى ادخال (التنظيمات) في القرن التاسع عشر الى تحول في الوضعية الرسمية لأهل الذمة. فقد منح المرسوم الهمايوني عام 1856 – وبدرجة أقل المرسوم الشريف لعام 1839 – حقوق المواطنة المتساوية لكل شعوب الامبراطورية بما في ذلك ضمان تأمين الحياة والملكية، والألتحاق بالوظائف المدنية والعسكرية، والمساواة في الضرائب، وحرية العبادة، والمحاكم الخاصة والمختلطة، والمساواة في حق الشهادة. ولم يعد النظام الطائفي قائماً الا من حيث استمرار السلطات الدينية في السيطرة على أمور مدنية مثل الزواج والميراث.
ومنح دستور 1876 حق التمثيل لأصحاب الملكية في المجالس والهيئات التشريعية المحلية والاقليمية والامبراطورية. وكان لهذه المؤسسات الجديدة أهمية رمزية كبيرة رغم ان السلطات كانت هي التي تنتقي هؤلاء النواب، ورغم ان وظائفهم كانت محدودة. وكان من بين النواب اليهود مناحيم دانيال أحد نواب بغداد الثلاثة في أول برلمان عام 1877، وساسون حزقيال الذي شغل هذا المقعد في برلمان عام 1909، ويوسف كركي عضو المجلس الاداري في بغداد عام 1873، ويوسف شنطوب عضو المجلس عام 1888. وكان هؤلاء جميعاً من أثرياء التجار فيما عدا ساسون حزقيال الذي كان موظفاً بوزارة التجارة، ثم أصبح فيما بعد أول وزير مالية للعراق، واحتفظ بهذا المنصب طيلة سنوات.
وفي العقد الاخير من القرن التاسع عشر بدأ التعليم اليهودي يتمتع بمساعدات أجنبية لا من الطوائف اليهودية العراقية الثرية في الهند فحسب، ولكن أيضاً عن طريق (الاليانس الاسرائيلي العالمي) في باريس، والجمعية الانكلو-يهودية في لندن، لبناء مدارس ابتدائية وثانوية. وقد بقت هذه المدارس كل من نظم التعليم العسكري والمدني التي بدأت في عام 1870، وتخرج منها نحو ستين بالمائة من كل طلاب المدارس الثانوية في العراق قبل بداية القرن الحالي.
وقد أقامت (الاليانس) والجمعية الأنجلويهودية أول مدرسة للبنين في عام 1865. وأقيمت مدرسة للبنات – هي أول مدرسة من نوعها في العراق – في عام 1897. ولم يتمكن من تلقي التعليم الحديث من العراقيين غير اليهود في الفترة نفسها الا أبناء الاعيان وأبناء عدد من ضباط الجيش. ويكشف تعداد عن التعليم أجري في بغداد عام 1913 عن الارقام التالية :
عدد المدارس نوعها عدد الطلاب ذكور اناث
38 مدارس ابتدائية رسمية 1525 300
13 مدارس ثانوية رسمية (عسكرية ومدنية) 2705 -
6 مدارس الجعفرية الخاصة 860 -
12 مدارس مسيحية خاصة 995 918
39 مدارس يهودية خاصة 4791 1095

وبالرغم من تأثير أوروبا الغربية على نظام التعليم اليهودي العراقي فقد ظل العمل الفكري للطائفة مقتصراً على المواضيع الدينية، وكانت الكتب والصحف المتوفرة خلال القرن التاسع عشر تأتي أساساً من بولندا وروسيا، وكانت أول دار طباعة يهودية – أقيمت في عام 1855 – تصدر في الاساس كتباً في الموضوعات الدينية وبخاصة القبالة والزوهار. وفيما عدا ذلك كان من بين ما أصدرته ترجمة عربية لرحلات الحاخام بنيامين بن توديلا الاثنتي عشرة وبعض مؤلفات موسى بن ميمون. وظهرت صحيفتان: هادوبر (1868-1870) بالعبرية وجيشورون (1910) بالعربية والعبرية. وكانتا تتناولان شؤون الطائفة المحلية.
وطيلة هذه الفترة لم تسجل سوى بضعة حوادث من التوتر بين الطائفة اليهودية وغيرها من الجماعات. وكانت هذه الاحداث القليلة ضئيلة الشأن. وعلى سبيل المثال ثار نزاع في عام 1860 حين أوقفت السلطات – دون سبب محدد – الحج الى ضريح حزقيال على مقربة من بغداد. وتمت تسوية المسألة بعد تدخل الجمعية الانجلو-يهودية لدى السلطان. وفي عام 1889، بيع ضريح خارج بغداد يسمى النبي يوشع – وهو أحد أضرحة حاخامات بغداد – لاحد المسلمين خلال النزاع بين ساسون سموحة الحاخام السابق ومجلس الملة. وخلال نفس العام توفي أحد الحاخامات وثار النزاع حول ملكية المكان. والقي القبض على الحاخام باشاى وبضعة أشخاص آخرين. وتمت الاتصالات من جديد بالجمعية الانجلو-يهودية وهيئة النواب اليهود في لندن، الذين اتصلوا بدورهم بالسفير البريطاني في الآستانة. وأدى هذا الى عودة المكان للطائفة بالرغم من البيع السابق، وأطلق سراح الحاخام باشاى واتباعه، وعزل السلطان والي بغداد .
واستمرت الظروف الاجتماعية والاقتصادية لليهود العراقيين في الازدهار طيلة النصف الأول من القرن العشرين، وأنتشر التعليم بين الشباب، وتضاعف عدد الطلاب، وألتحقوا بالمعاهد العامة فضلاً عن المدارس اليهودية الخاصة. وزادت عددهم في هذه المدارس الأخيرة من 5886 من الطلاب والطالبات في عام 1913 الى 11435 في عام 1935 . كما أرتفع عدد المعابد اليهودية في بغداد من 29 معبداً عام 1915 الى 41 معبداً عام 1936 .
وأزدهرت الطائفة اقتصادياً أيضاً وبخاصة مع ظهور الدولة الجديدة. وزيادة النشاط التجاري. ويقدر تقرير اصدره جوزيف شيشتمان من الوكالة اليهودية، النشاط التجاري اليهودي في العراق قبل الحرب العالمية الثانية كما يلي :
• الواردات 95% في أيد يهودية
• المقاولات 90% في أيد يهودية
• الصادرات 10% في أيد يهودية
غير أن عنصر الاضطراب الرئيسي حدث مع صبغ فلسطين بالصبغة الصهيونية وتغلغل الوكالة اليهودية بين صفوف الطائفة اليهودية العراقية في الأربعينيات. وقد نظم عملاؤها الخلايا الصهيونية، ووضعوا أسس الهجرة في الفترة الاخيرة من العقد، بعد أن واجهوا معارضة شديدة من الطائفة ذاتها في بداية العقد، ودبروا عمليات التخريب والاضطرابات الداخلية. والتوتر عمداً بين افراد الطائفة، وبينهم وبين بقية السكان، ومع السلطات، لخلق جو داخلي ودولي ملائم لحملات الهجرة. ويتضح هذا بجلاء في الفقرة الختامية التالية لتقرير للوكالة اليهودية كتبه أحد عملائها عند عودته من العراق :
" ... ولا يمكن أن تقوم هجرة واسعة من العراق في المستقبل المنظور (أوائل الاربعينيات). وينبغي توجيه جهودنا الاساسية الى زيادة عدد كوادر الدفاع التي أقمناها هناك وتدريبها التدريب الملائم. وعلى هؤلاء الكوادر أن يواصلوا في نفس الوقت النشاط التعليمي، ويمهدوا للهجرة الى فلسطين مهما كان الثمن، وأياً كانت الوسيلة".
وينتهي بنا التسجيل الوجيز سابق الذكر لتأريخ اليهود العراقيين الى النتائج التالية:
1- كانت ظروف الطائفة اليهودية العراقية – اذا ما درست في اطار عملية تطور المجتمع العراقي في القرت التاسع عشر، والظروف الاجتماعية العامة التي كانت سائدة عندئذ – طيبة بالمقارنة مع بقية السكان. وبالرغم من ألوان الاستبداد والفساد التي سادت في البلاد طيلة القرن، فقد توفرت لهم حرية العقيدة والاقامة والعمل والتنقل. وفضلاً عن ذلك، لم يحدث سوى قدر قليل من التوتر – اذا كان قد حدث ثمة توتر – بين الطائفة اليهودية وغيرها من الفئات الاجتماعية اثناء فترة التغيرات السياسية العاصفة التي جرت بالعراق خلال الفترة نفسها. وبالطبع كان هذا الوضع على طرف نقيض مما كان عليه الوضع في اوربا في ذلك الوقت.
2- استفاد شعب العراق من فترة الاصلاحات. في المبراطورية العثمانية وبدأ تعليم الصغار منذ ذلك الحين على مستوى اوسع من ذي قبل. وأدى هذا التوسع في نظام التعليم بالاضافة الى الاتساع التدريجي للتجارة، والتطور السريع للأقتصاد، الى توفير فرص اجتماعية واقتصادية جديدة للسكان في مجموعهم، وبرز يهود العراق في هذين المجالين من مجالات التطور.
3- ان عنصر الاضطراب في تأريخ اليهود العراقيين الحديث، الذي أدى الى هجرتهم الحادة والفجائية بعد قرون من الانسجام والألتحام الاجتماعي، وفي فترة حرجة من فترات الأندماج الأجتماعي هو الدعاية والأثارة اللتين وجهتها اليهم – والى بقية اليهود العرب – الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية. وبعد هذا الجانب مقترناً باحتلال فلسطين عام 1948 وبالتهديدات المستمرة لأمن الشعوب العربية من العناصر الرئيسية في تحليل التأريخ الراهن للشرق الأوسط.
عن مجلة دراسات فلسطينية
اذار 1987