رجل لكل العصور

رجل لكل العصور

فراس الشاروط
محطة بازوليني الاولى في الاخراج كانت واقعية أشبه بالواقعية الجديدة الاولى مع شيء من الشاعرية مبدياً فيها اهتماماً خاصاً بالطبقة البروليتارية الدنيا التي تعيش في ظل المدن الصناعية وبرؤية فلسفية صوفية متوائمة مع مرجعياته الشيوعية،فجاء فيلمه الاول القواد (acetone)

مبنياً على رواية (حياة عنيفة) لبازوليني نفسه محولة البطل من مثلي الى رجل يورد العاهرات، وكلا العملين يركز على اليأس الموجود في حياة الاحياء الفقيرة وهو العالم الذي كان يعرفه جيدا وكتب عنه كثيرا في قصائده ورواياته،فكل الشخصيات تظهر واقعة في شرك ادوارها في الطبقة السفلى التي تبقى في الجوهر نفسه وبسبب سيطرة الفقر.
وغريزة البقاء فان الرغبة بالموت يجري التفكير بها وتصبح مرحباً بها كمهرب من الحياة الوحشية، أن رؤية بازوليني السينمائية عن الطبقات الدنيا هي أكثر جرأة من المعالجات الاخرى مكوناً أطارات ذهنية تبقى ماثلة في الذاكرة مثل الطفل الصغير ابن البطل الذي يشعر بالغربة ويرمي بالأحجار على قناني زجاجية فارغة وهي اللعبة الوحيدة التي يمتلكها معطيا للموقع مزيدا من المصداقية ومنيطاً الدور بممثلين غير محترفين كما في افلام الواقعية الجديدة، ولم ينقب بازوليني عميقا تحت سطح الفقر واعتمد على المسار الصوتي الذي ضم نغمات من موسيقى (باخ) المتنافرة كي يضفي الجوهر العاطفي والروحي على صوره، وركز كاميرته بشكل كبير على بطله مظهراً طبيعة الخير والشر عند الشخصية دون الحكم عليها، ولا يتردد في اظهار الجانب السيئ من الحياة، وفي مشهد ذات دلالات رمزية نرى القواد يتوسل بحفار القبور كي يدفنه عندما يموت في بقعة تقع عليها الشمس.
نفس الرؤية والثيمة الصوفية وخلق الكادرات التي استوحى تكويناتها من الرسوم الدينية الذي تزخر به كنائس ايطاليا تجسدت في فيلمه الثاني (ماما روما) حاملا ايضا التقاليد الاولى للواقعية الجديدة لكنه يقدم صورة أكثر عتمة من افلام دي سيكا وروسولليني، (اينا مانياني) تأخذ في الفيلم دور المومس المسماة ماما روما، التي تسعى جهدها لتبعد ابنها عن البيئة التي اضطرت للعيش فيها وتحاول جهدها ان تهيىء له حياة كريمة في المستقبل فتحاول ان تدخله المدرسة، وتترك عملها كمومس وتعمل بائعة في سوق الحي وتحاول جهدها لخلاص ابنها من الفساد الذي عاشته ضمن ظروف اجتماعية وبيئية قاسية،غير ان واقع الظروف يفرض عليها عكس ما كانت تحلم به، فتعود الام مرغمة الى رصيف البغاء وعندما يعلم الابن بحقيقتها يقوم بسرقة انتحارية ليموت بعدها في السجن، ولينقطع خيط التقارب بينهما دلالة على قهر الانسانية وعجزها، في فيلم (ماما روما) نرى عالم بازوليني السينمائي الواقعي، عالماً يتصارع فيه الجوع والعمل، العمال والساقطات، البؤس والجريمة انه الوجه الآخر لمدينة روما وشخصياتها الانسانية المقهورة والمطبوعة بمرارة عميقة، ماما روما يعكس شخصية بازوليني ونزعتها نحو اللقطات الفنية الجمالية، وليتأمل المشاهد اللقطة التي صور بها الابن وهو موثق لطاولة المصح في السجن وكأنه مسيح معذب، انها لقطة جديرة بأحدى لوحات رامبرانت، حيث يموت الابن وهو يهذي مصلوباً.‏
على الرغم من تميز اسلوبه في (القواد) و(ماما روما) الا أن تصويره للأماكن المختلفة للمدينة وتعاطفه مع الفقراء،يجعلان منهما جزءاً لا يتجزأ من عملية ولادة جديدة للسينما الواقعية التي شهدتها ايطاليا في اوائل الستينيات.
ومثله (ricotta) ريكوتا – جزء من فيلم جماعي- والكلمة تعني (نوع من الجبنة الإيطالية البيضاء) عن فقير يفوز ببطاقة يانصيب وقبل ان يهنأ بجائزته يدخل الى مطعم ويأكل حد التخمة ليموت فوق اطباق الطعام، فهو لم ينج من قسوة الحياة حتى وهو ثري، لكن الفيلم الاهم في مسيرة بازوليني الاولى كان (المسيح وفق انجيل القديس متي) وهو فيلم جدلي أظهر فيه المسيح برؤية شعبية من خلال عيون الشعب شخصية غاضبة، قائد جذاب، اشبه بجيفارا او فلسطيني مناضل، مستخدما ممثلين غير محترفين وصوره في ديكورات طبيعية، وهو الفيلم العظيم الوحيد الذي لم يصنع مثله لكنه بلا ريب الفيلم الاكثر ادهاشاً للبصر خصوصا في تلك الكادرات للوجوه وللناس الذين يقفون مع الجمود المخيف للمشاهد الطبيعية المحطمة المقفرة لجنوب ايطاليا،لقد أرسى في فيلم المسيح قواعد اسلوب جديد كل الجدة حين جرد قصة الرسول من مظاهر التقوى التقليدية، ومضى في تطوير هذا الاسلوب الخاص شوطاً أبعد في معالجته للأساطير الاغريقية وبرزت فيها بصمته وان كانت تنزع الى التركيز على الشكل.
بعد هذه الرؤية الصوفية المعمقة بالرموز جاءت المرحلة الثانية من اعمال بازوليني التي ذهب فيها نحو الاساطير الكلاسيكية فقدم (عقدة أوديب) عن سوفوكليس قالباً تكنيك المسرحية وحمل نصه السينمائي رموزاً فرويدية ولمحات من سيرته الذاتية حتى ليغدو النص ليس نصا واحدا بل ثلاثة نصوص مجتمعة، ألغى مايسمى بالكورس وبتدأ نصه وختمه بحكاية معاصرة، مبرزا السمات الانسانية على بطله وهو مثل ما فعله في فيلمه (المسيح) حين سيس وأنس شخصية يسوع (ع)، كما تم ((أستقى الاشكال في التصاميم من حضارات متنوعة حتى نجد الرموز الأزتيكية والسومرية على الحلل الملكية))، ونفس الشيء بالنسبة للموسيقى فيصعب نسبتها الى عصر معين فلقد اختار موسيقى واغاني ((شعبية من رومانيا كونها مزيجاً غريباً تبدو وكأنها قادمة من مسافات بعيدة، فيما تشير موسيقى يابانية الى مصير أوديب))، لقد فجر بازوليني المأساة من صميم عبوسها التراجيدي دون ان يفقدها جلالها وهيبتها برؤيا سينمائية شعرية وهو ما سيفعله لاحقا مع أسطورة (ميديا) ناقلا الخرافة الى الشاشة بعد اعادة كتابتها بأسلوب أيديولوجي لا يبتعد عن نوع من الواقعية سواء على مستوى اللغة أو الصورة، وبنفس مسار فيلم (اوديب ملكاً)، فهو لا يكتفي بالاحالة الى أعمال سينمائية سابقة بل ينقلنا الى آفاق أخرى جد مختلفة وجد متنوعة، ويكتسب طابع الاوبرا الغربية، لكنه ايضاً يتضمن في لحظات ذروته مقتطفات من الغناء الشرقي والعربي.