جماليات و دلالات الجسد في ســينما بازولينـــي

جماليات و دلالات الجسد في ســينما بازولينـــي

حميد عقبي
بير باولو بازوليني، مخرج سينمائي نزل من سماء الشعر و المسرح، تعددت نشاطاته الابداعية، فهو شاعر، روائي، ناقد و رسام. عانى الفقر و التشرد خلال طفولته و شبابه. وصل أخيرا الى روما مع والدته. أقام في شقة بائسة في احدى المناطق الشعبية الفقيرة، ثم انطلق في فضاء الفن و الابداع. تعد أعماله حاليا مرجعاً و منهلاً فلسفياً و جمالياً لطلبة الفن و الأدب و السياسة و علم الاجتماع.

سوف نركز في هذا الموضوع على قيمة الجسد و دلالته الجمالية و الفلسفية، و يمكننا اختيار فيلم 'أوديب ملكا' كنموذج لهذه الدراسة.
بالنسبة إلى بازوليني، اللغة الأدبية وسيلة للتواصل، أما اللغة السينمائية فهي لغة صورية بحتة، الصورة السينمائية تأخذ شكل الاشارة. من السهل جمع الكلمات في قاموس، لكن من المستحيل فعل قاموس لجميع الصور. نتيجة لهذا لا يمكننا وضع قواعد محددة لخلق الصورة السينمائية. السينما، اذاً، ليست وصفاً او سرداً أدبياً، بل هي فن شعري مستقل له أدواته التعبيرية الخاصة وليست جزءاً أو نوعاً أدبيا.
من وجهة نظر هذا المفكر، تسقط السينما للحضيض عندما تكون أداة في يد البرجوازية، و عندما تتخذ اللغة و الاسلوب الادبي كأداة لعرض الصورة السينمائية.
بازوليني، يخرج أفلامه معتمدا على أسلوبه الخاص الذي يسميه الجدل الحر غير المباشر أو الذاتي الحر غير المباشر، بذلك تصبح السينما شعرا. هذا الأسلوب يمكننا رؤية الاشياء و الاحداث من وجهة نظر الشخصيات، هو تعمق في روح الشخصيات، هو ابحار في الحلم و اللاوعي للشخصيات، يصبح لدينا احساس بالكاميرا التي تأخذ مكان الشخصية، تركض بدلا منه، ترى الاشياء و المناظر من زواية عين الشخصية.
السينما تكتسب اللغة الشعرية، عندما تصبح وسيلة تعبير حقيقية للواقع، وقراءة ما وراء هذا الواقع، و ليس مجرد عرض السطح الهش و الزائف. السينما ايغال في عمق الأسطورة، باعتبار الأسطورة الخيال الطفولي للانسانية، الحقيقة ليست في حلم واحد، بل في مجموعة الأحلام الانسانية.
في بداية فيلم "أوديب ملكا" نرى من بعيد ميلاد طفل. هذه اللقطة تصور ميلاد بازوليني في العشرينيات من القرن العشرين. نرى الطفل بعدها في حديقة، تركض أمه مع صديقاتها، نرى الطبيعة من وجهة نظر هذا الطفل، تعود الأم لاحتضان طفلها، تنظر اليه، ثم تنظر الينا، نرى الخوف و القلق على وجهها، هنا بازوليني يكسر الحاجز بين الشخصية و المتفرج، هذه النظرات هي ارتداد، تتحول الشخصية و تأخذ دور المتفرج، تصبح هي شاهد على المتفرج. الشخصية ليست مجرد صورة متحركة، هي روح قلقة و مضطربة تحاول نقل هذا القلق، بل خلق القلق و الخوف في نفس و روح المتفرج.
تترك الأم طفلها الرضيع مرة أخرى ثم تركض مع صديقاتها، نرى بعدها الطفل موضوعاً في عربة أطفال. تظهر صورة رجل بلباس عسكري، يتبادل الطفل مع الرجل النظرات، نرى ملامح الغضب و الازدراء على وجه الرجل و هو أب هذا الطفل. في المشاهد التالية في الجزء الأول من الفيلم نرى الأب و الأم في غرفة مستقلة يمارسان الجنس. يشعر الطفل بالخوف، يترك سريره ليتلصص على غرفة أبويه. يصرخ الطفل نرى مفرقعات في السماء، يشعر الأب بالغيظ، نراه يأتي ليجر الطفل من قدميه. حتى هذه اللحظة لا نعرف ما حكاية هذا الطفل و ما مصيره؟
كان هذا الفيلم مناسبة جيدة للمخرج لعرض سيرته الذاتية في قالب فني تشكيلي، من أجل انارة الحقيقة بالاعتماد على الاسطورة. الفيلم كان بمثابة فرصة لعرض قضية مهمة هي حرية الانسان مقابل القدر.
يؤكد بازوليني في احدى حواراته: أنا هذا الطفل، أبوه هو أبي و أمه هي أمي...أبوه يقوم بجره من قدميه من اجل إِخصائه وإِفقادهِ القدرة الجنسية.
ننتقل الى الجزء الثاني من الواقع إِلى الاسطورة، نرى أوديب معلقاً من قدميهِ، مربوط اليدين، عاري الجسد، يتركه الجندي في الصحراءِ وحيداً. الموت يهدده و يحيط بهِ من كل جانب. نسمع صراخ الطفل للمرةِ الاولى. هذا الصراخ تعبير عن رفضهِ الإِنفصال عن جسد أمه التي يحبها، هو رفض عن التنازل بجسد الأٌم للأب. جسد الطفل العاري يخوض معركة صعبة مع طبيعة قاسية. السماء هي الاخرى يُحلق الموت فيها. ان القدر يسخر من وهن هذا الانسان الضعيف.
منذ هذه اللحظة تظهر الألوان القريبة من لون بشرة جسد الإِنسان، اللون الرمادي و الأسمر و الأسود. بازوليني يجمع و يخلط بين الألوان لخلق سحر خاص، لإِثارة المتفرج و دفعه الى بوابة الحلم المطلق. في الجزء الثاني الذي يدور بالزمن الاسطوري، الجسد الإِنساني جزء من الطبيعة، الملابس أشبه بقناع. هنا بازوليني يعرض حقيقة المخلوق بضُعفهِ أمام القدر و قسوة الطبيعة، فهل ينتصر الموت على الحياة؟
نرى طيورا جارحة تُحلق بالسماء نراها من وجهة نظر هذا الطفل الصغير الضعيف. هنا جسد مهدد بالموت و روح تطمح بالحياة ثم الإِنتقام من سلطة الاب وجبروته.
لحظات حرجه، كل جزء من الثانية لها قيمتها، صراخ الطفل يحاول تمزيق الخوف، يدخلنا في عمق الزمن الأسطوري برعبهِ و وحشيتهِ
الجسد الانساني عارٍ و كذلك الطبيعة، التعرية لإِظهار حدث عنيف أو رغبة جنسية. هنا مناسبة لإِظهار كيفية بداية الكون. آدم كان عاريا، لكنه لم يحس بحقيقتهِ إِلا عندما دفعته حواء للتفكير برغبة الخلود، اللذة هي بوابة الخلود، لكن هل يمكن الشعور باللذة من دون الشعور بقداسة الجسد؟
يسوق القدر أحد الرعاة ليلتقط الطفل، يرفعه للسماء، يحمله، يركض به إِلى الملك، يفرح به هذا الملك ليعلن أنه هبة السماء. هل السماء كريمة لتلقي بالسعادة للانسان؟ هل سيكون هذا الطفل مصدر سعادة أم شقاء لهذه الارض و العالم الجديد؟
عندما نقف أمام سينما بازوليني، نحن أمام مجموعة من الدلالات، تغوص بنا في فضاءات أسطورية، تعيدنا للحظة الاولى لنقطة البداية و هي أيضا تعبر عن الواقع، بازوليني لا يتخلى عن الواقع لصالح الأسطورة و في الوقت نفسه الأسطورة ليست مجرد ممر للواقع.
نرى أوديب شاباً يافعاً يلعب مع أقرانه، يحاول انتزاع النصر، يركض للحصول على التاج، يستخدم الخداع و قوتهِ الجسدية، للشعور بالتمييز، يغش و يخدع و هو على استعداد لسفك الدماء للتمرد على القدر. القميص الاحمر الذي يرفعه هو استعارة للتمرد و العنف، هو لا يعي حقيقتهِ كلقيط، هو لا يعترف بالحقيقة و ليس لديه استعداد لمعرفتها.
الجسد في هذا الفيلم هو أيقونه، هو دلالة للروح، هو نافذة للتوغل بدواخل النفس الإِنسانية بتعقيداتها، بغموضها، بعنفها الوحشي و حلمها بالسعادة و الخلود.
يظهر أوديب ليعلن حلما غريبا و مقلقا. لا بد من خوض رحلة شاقة إِلى دلف لمعرفة الحقيقة. يظهر أوديب بلباس أحمر. إِنه لون الدم يغطي الجسد. أوديب يساق لمصير بائس، سوف ينفصل مرة أخرى عن عالم تربى فيه، نراه يغادر بلباس أبيض، كأنه يحمل كفنه، هي رحلة للحقيقة أم لعالم الموت؟
يصل أوديب الى دلف. نرى جموعا كثيرة من الناس. نرى اهتزازا بالصورة. يقدم هنا المخرج الزمان و المكان من وجهة نظر شخصيته. نحن لسنا في أجواء أسطورية، أو واقع مضطرب. بازوليني، ينقلنا إلى عالم ميتافيزيقي. هذه الصورة يمكننا أن نحسها كتقديم ليوم الحساب، حيث الخلائق تنتظر كلمة الفصل. كل مخلوق ينتظر إِما سعادة أو تعاسة أبدية.
وعندما يقترب أوديب من الكاهن ليعرف تفسير حلمه، نرى الكاهن من وجهة نظر الشخصية، رجلا بجسد نحيل، أعمى يجلس تحت شجرة، صورة هذا الرجل يمكننا فهمها بانها إِستعارة لفكرة الإِله من وجهة نظر السينمائي الملحد، من صنع قوة و هيمنة هذا الإِله هو خيال الناس الفقراء والضعفاء.
يُصاب أوديب بالدهشة عندما يعلم أنه سيقتل أباه و يتزوج أمه، لكن القدر لا يقبل النقاش. يطرده الكاهن، على أوديب الإِستسلام لقدره أو مقاومته. يسير أوديب ضد ضوء الشمس، فنرى الصور غير واضحة، نحن نرى المشهد من وجهة نظر شخص أُصيب بجزء من العمى. مرة أخرى نرى أوديب ضائعاً في الصحراء. جسد و روح تعاني الإِضطراب، لكن أوديب يقرر التمرد ضد قدره، يحاول إِختيار جهة أخرى غير مملكة كورنته فهو لا يريد قتل ملك كورنته الذي رباه أو يتزوج الملكه التي منحته الحب و حنان الام.
في مرحلة الضياع في الصحراء يزور أوديب عدة قرى. بازوليني، يعشق إِظهار الفقراء و البؤساء، أجسادا ضعيفة بكل ألوان الطبيعة، رغم قسوة الحياة إلا أنهم يرقصون و يغنون و يتزوجون. هذا العرض هو إِظهار لبشاعة البرجوازية. ما يبحث عنه بازوليني هو الروح الإِنسانية الصافية التي لم تدنسها مادية حضارة اليوم.
يسوق القدر أوديب لطريق ضيق يؤدي الى مدينة طيبة. هنا يلتقي بموكب الملك لايوس، أبيه الحقيقي، يرفض أوديب الإِبتعاد من الطريق، يفقد أعصابه، يقتل بوحشية الحرس الملكي، ثم يقتل أباه، نرى أغلب الصور من بعيد، أو نراها غير واضحة، بسبب ضوء الشمس، هذا التشويه مقصود، إِعماء عين المتفرج خلال هذا الحدث العنيف.
اختار أوديب طريقاً ضد إِرادة الآلهة و القدر، من أجل معرفة الحقيقة. هذا الاختيار هو تمرد و عدم إِكتراث بالقدر. هو رفض للطريقة التي تحكم بها هذه الآلهة مصير الإِنسان، لكن القدر ينتقم منه بزجه لخوض جريمة بشعة. نحن لسنا أمام صراع بين شخصيات. هنا مخلوق إِنساني يصارع العالم الميتافيزيقي بكل قوة و عنف.
الاب هنا دلالة للطوطم الذي إحتفظ بالسلطة و الجنس لنفسه و حرم الابن من الأم و الحنان، وزج به في متاهة الضياع و الحرمان. هذا القتل البشع لإِستعادة جسد الام و الإِستحواذ على السلطة من يد قوة الاب الديكتاتورية.
يواصل أوديب رحلته باتجاه طيبة، يلتقي اهالي المدينة، و هم يغادرون مدينتهم فراراً من وحش دمر سعادتهم. يقوم أوديب بقتل هذا الكائن، تستعيد المدينة سعادتها، و يصبح أوديب زوج الملكة و صاحب السلطة بتتويجه ملكاً.
في هذه المشاهد، يستغل بازوليني الجسد الإِنساني، مستخدما جموع الاهالي لرسم لوحات تشكيلية و خطوط مستقيمة و متعرجة، المجاميع بملابسهم وحركتهم، السير باتجاه الغمق، أو التقدم العشوائي باتجاه الكاميرا، هذا الإِجراء أشبه باسلوب تشكيلي، رسم لوحة ثم مسح و تعديل بعض أجزائها.
شي أخر مهم لا نرى وحشاً بشعاً، أوديب يقتل شخصاً، يضع فوق رأسه قبعة غريبة. ما يود قوله بازوليني، إِن الخيال الإِنساني هو من صنع العالم الميتافيزيقي و أعطاه القداسة. هو الخوف من كان و مازال يتحكم بالمصير الإِنساني.
لا تستمر سعادة أوديب و هو في أحضان زوجته جوسيكا طويلاً. يصيب المدينة مرض الطاعون، هي لعنة السماء للإِنتقام من قاتل لايوس. من هو هذا المجرم؟ يأتي النبي صاحب الحكمة. رجل أعمى هزيل الجسد، يمتلك مفاتيح الغيب، بعد جدل طويل. يُصرح هذا الرجل بالحقيقة، أوديب هو المذنب قاتل أبيه و زوج أمه. أوديب يرفض الإِعتراف ويكابر للتمسك بالسلطة و اللذة، يستمر في معاشرة الملكة، تنكشف الحقيقة في النهاية، تنتحر الام، ويفقأ أوديب عينيه، نراه في الجزء الاخير من الفيلم في شوارع روما في الزمن الحديث بالستينات، في المشهد الاخير، يعود إلى نقطة البداية في المكان نفسه الذي ولد فيه، هي عودة لجسد الام التي فقدها.
بازوليني هذا الفيلم يقدم شهادتهِ على الواقع، مرض الطاعون هو إستعارة لجرائم الحروب في العصر الحديث. نرى إِصرارا من الكاميرا بعرض الاجساد الميتة. نرى البثور وقد شوهت جمال الجسد و الوجه الإِنساني، كان الطعون في العصور البدائية الى القرون الوسطى هو أبشع صور للموت، لكن في العصر الحديث، ابتكرت الانانية البورجوازية، القنبلة الذرية و أسلحة فتاكة اكثر قسوةً و بشاعةً من الطاعون، الضحية هي الطبقة البروليتارية.
يستخدم المخرج اللون الأسود و الأبيض بشكل ديناميكي،لرسم الالم و البؤس وقسوة الموت، هذا الإِستخدام ليس مجرد أسلوب جمالي، الاهم من ذلك التأثير النفسي لدى المتفرج، في هذا الفيلم بازوليني، قدم سيرته الذاتية متأثراً بسيجموند فرويد و تفسيره لهذه الاسطورة، الاسطورة هنا ليست وسيلة للمقارنة بين الماضي والحاضر،هي هنا من اجل إِحداث نوع من الإِزعاج و الإِرباك للواقع، فعل و فتح باب الجدل حول الواقع.
جسد الام المنتحرة ليس لدلالة على ضياع و موت الام بما تمثله من قيمة إِجتماعية، اندثار هذا الجسد هو للدلألة على فقد وضياع شي مقدس، أجساد اهل المدينة يتم رميها بالنار، قد يفهم البعض أنها تاكيد لفكرة ألفناء بعد الموت من وجهة نظر ملحد، لكنها أيضاً تصوير لبشاعة الحرب التي تدمر كل ما هو مقدس، كونها تغتال الروح، تُشوه جمال الإنسان.
عن موقع سينما اليوم