في ذكرى زكريا أحمد ..شيخ.. وشعبي.. وصاحب مدرسة محافظة

في ذكرى زكريا أحمد ..شيخ.. وشعبي.. وصاحب مدرسة محافظة

عادل الهاشمي
انشغل زكريا أحمد في البدايات الأولى من حياته الفنية في لونين من الغناء والتلحين:

1- المسرحيات الغنائية
2- الأغاني الشائعة برخصها: في تلك الفترة كان صوت ام كلثوم قد خطف مواهب هذا الفنان القدير الى صف الاغنية الفردية.. فأضحى زكريا احمد رائداً فــذاً لذلك الضرب الكلاسيكي العربي المحافظ في مدرسة ام كلثوم الغنائية، على ان دور زكريا أحمد يكمن في انه قد جمل هذه الكلاسيكية بالحلاوة القائمة على خفة الظل وبمزاج رصين اخذ دقته من اصول الغناء العربي.. هذا المزاج جمع شيئين متناقضين.

أ- الابتكار في انطاق المعاني بصور يلفت غايتها من الدقة والحلاوة.
ب- دفاعه الراسخ والمعاند في بعض الاحيان.. عن الأصول الفنية المتوارثة.. برغم ظهور اساليب جديدة في التلحين على يــد محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وفريد الاطرش.
الطموح والحساسية يستوطنان عقل الموهوب زكريا احمد فتنخلق قدراته العجيبة آفاقاً من الحزن والشجن والشفافية والعاطفة الملهومة.. استخدم الفن الشعبي في مقاومة كل التهاويل اللجة التي ابتدعها غناء العصر الذي سبقه، لقد تذرت عبر فواصل زمنية موهبته في التلحين واخذت في النماء وباشرت عطاءاتها على نحو حميم ونشيط.. هذه الموهبة كانت ترمز الى الاحتفاظ بالايحاءات الايجابية في الحبور والعنفوان والرقة. ان زكريا احمد وهب الحياة الفنية في حقل الموسيقى والغناء الشيء الاكيد من الفعالية والقيمة التي تحيا بعيدا عن الرغبات المزورة الغامضة الملتوية المصروعة.
شيء عن البداية
لقد توهجت حياته بالصراع بين الحيازة المطلقة للفن وبين التقاليد الصارمة التي درجت عليها عائلته، الجوع والتشرد والعصيان ثمرات قاسية جافة لإصراره الحاد على الفن ان هذه القمعية التي مارستها ضده التقاليد العائلية لم تؤد الى افساد البساطة الروحية لديه ازاء الحياة، انما فجرت فيه ينابيع البهجة لانه انتصر في ان يأخذ موقعه في عالم الفن، كما انها طبعت اعماقه بالحزن.. لان هذا الانتصار أفسد صلاته بأبيه وأمه!
جاءت ألحانه غنية فيها افاضات صوفية تواشجت مع المحتوى الروحي.. لانه كان يعشق تلاوة الآذان فتشرب بفن التواشيح حيث تاثر بمنشدي التواشيح منهم استاذه درويش الحريري وتأثر ايضا بفن عبده الحامولي ومحمد عثمان وسلامة حجازي ويوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي. يحترف في عام 1917 التلحين ويقدم اغنية (ارخي الستارة) فيغنيها عبد اللطيف البنا ومنيرة المهدية ونعيمة المصرية وفتحية احمد وصالح عبد الحي. في سنة 1919 يندفع مشاركا بعواطفه لثورة 19 فيغني له عبد اللطيف البنا اناشيد منها (يا مصر دي ايام انسك) وغنى له زكي مراد (مصر اولادها رجال) و(نار الوطنية في القلب) ثم ينهض بمهمات وطنية فيحمل بعض الرسائل من ثوار القاهرة الى ثوار الاقاليم وبالعكس.
زكريا أحمد وعصر الطقطوقة
في جميع الحانه صاحب لون خاص مفرق في خصوصيته.. لا يقلد أحداً.. كما ان اي واحد لا يستطيع ان يقلده! لمع زكريا احمد في عصر الطقطوقة.. هذا العصر ولد في اعقاب الحرب العالمية الاولى.. فالقصيدة الشعرية ولدت عند العرب القدامى والدور سجل تأثره العجيب بالغناء التركي والموال في بغدادي نشأ في بغداد وترعرع في اجوائها الخلابة والموشح.. سجلته الاندلس كأحد ابتكاراتها "الفنية المشعة والمونولوج بنوعية جاء اقتباسا عن الطريقة الغنائية في اليونان على وجه الخصوص والاوبرا والاوبريت فن نشأ في اوروبا.. اما الطقطوقة فهي لون من الغناء نشأ وازدهر وانتشر في مصر. وهي اغنية ذات مذهب واربعة او خمسة اغصان وتحديد ذلك يختلف بطبيعة الحال باختلاف اسلوب المغني في الالقاء.. أيُسرع ام يُبطئ او يكرر شطره ويردد حركة نغمية كما انه يختلف باختلاف حجم الاسطوانة المسجل عليها.. الا ان النظم جاء على هيئة نشيد او زجل نعماني.. اي له مطلع من شطرين.. والاغصان مربعات ذات ثلاث قوافٍ تتحد في الرؤيا والقافية، اما الرابعة فقافيتها تكون من جنس المطلع او المذهب، استخدم زكريا احمد في تلحين هذه الطقاطيق وزن الفالس فجعل لكل غصن منها نغمة خاصة.
طابع موسيقاه
حفظ زكريا احمد القرآن فاستقامت له وسلست موسيقى اللغة العربية.. ورتله فتمكن من روح اللحن العربي.. واضاف اداؤه للقصائد الدينية ذلك العمق الرحيب لأسرار الروح العربية الموسيقية.. ولما دخل ميدان التلحين كان له التمكن والاستعداد والقدرة فنبتت من قريحته الفنية الحان مطربة شجية وتطوع احساسه الموسيقى الفطري في جانب واسع من الحانه الى الملائمة الفذة بين روح الكلمات واللحن وامتزجت هذه كلها داخل السباق النغمي الفائق في الصنعة والدقة والاتقان.. الموسيقار زكريا احمد هو اقرب الملحنين العرب الى الروح الشعبية في صوت واسلوب ام كلثوم.. لعل معظم الحانه نابعة من لغة الايقاع المنتظمة في لهجة الناس.
فالبناء الايقاعي هو ثمرة من ثمرات الشرق وهو الموائمة بين ايقاع الكلام في (الالحان الغنائية وبين اللحن.. ذلك انه ساعد على خلق الموسيقى المحدودة الزمن الذي ادى الى نظام (المازورة) وهي مجموع الضربات التي تنتقل بين لحن وآخر! وليس سراً اذا قلنا ان هذا هو اهم تراث موسيقي قدمه العرب الى اوروبا اي (الموسيقى المحدودة الزمن).
في سباقه مع سيد درويش في مقام الزنجران وبعض المقامات الاخرى واتجاهات الغناء خفيفها وثقيلها لم يقصر زكريا احمد في براعته عن سيد درويش.. بل حاوره بالحان عميقة موحية غنية فيها جزم على تفرده وقدرته.. وما قيل عن انتهابه لألحان سيد درويش لا اساس له! لان امتدادات فن سيد درويش قد اثمرت وسرى اثمارها الى جهود كل الموسيقيين ابتداء من كامل الخلعي وابو العلا محمد وداود حسني وزكريا احمد ومحمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب وفريد الاطرش ورياض السنباطي الى الجيل التالي من الملحنين، هؤلاء هم ابناء ظروف وبيئة اجتماعية وضعتهم التيارات الفنية في قلب عملية الخلق ليبرزوا جوهرها في اعمال اتخذت اساليب مختلفة ولابد ان تتخذ اساليب تتباعد في تفاصيلها.. لكنها تقترب من بنائها العام.
زكريا والمسرح الغنائي
ويقترب زكريا احمد من المسرح الغنائي ليمنحه عصارة موهبته، لقد صنع للمسرح مدهشات في الغناء العربي واذا ما قدر للمسرح الغنائي ان ينهض من جديد فان الحان زكريا احمد هي اول ما يرتديه هذا المسرح! ان خطوة زكريا احمد وقفت من الغناء المسرحي عند حدوده الاولية وهذا بالتاكيد لا يفسر لنا ضعفا او تراخيا في قريحة زكريا.. بل لان الموسيقى العربية قد استنفدت حدود الممكن في تعبيراتها المسرحية وصارت الحاجة ماسة تماما لاستيلاد عناصر جديدة للتعبير الدرامي بنوعية الفردي والجماعي مع دعامته الاساسية في الاوركسترا بكل تكويناته والوانه.
يمكن ان تقول ان المستوى الماثل نحو الانحطاط المجاني والسطحي عند زكريا احمد في بدايته الفنية تحول الى مستوى مهذب رقيق وحنون وخال من البهرجة ومتواضع ومنسجم.. انه مستوى فني مشرب بالحزن الذي تلتمع فيه يقظة مزينة بسيولة من المسرات! كانت دعامته الفردية الثابتة هي التي مكنت موحياته الداخلية من النمو والبروز في المجال الموسيقي.
لقد ادخل الارض والريف الى الاغنية وعبر عن السجو المليان الذي يريم على الطبيعة.. وصوّر ذلك الانصات الراجف للاشجار والغدران والاطيار مستخدما آلة الارغول في انغام زاخرة بالشجن العذب الرائق المفصح عن الامان الاسمى في كثافة روحية أخاذه.
ان فـن زكريا احمد حمل معه شحنات من الطاقة النغمية الفريدة المعتقة بمذاق زمني غير محدد!
الزمن في حياة زكريا احمد شيء كبير، لانه سجل تطوره داخل تقاليد الغناء والموسيقى فهو لا يتموضع في قصته او حياته انما كان يجري في اعماله الخلاقة المبدعة.
عن مجلة الف باء/15/2/ 1978