ذاكرة مقاهي بغداد الادبية

ذاكرة مقاهي بغداد الادبية

مثنى كاظم صادق
المجالس مدارس.... هذا ما يشير إليه المثل الشائع والمجالس اضرب عدة منها المجالس الأدبية إذ تضرب جذور هذه المجالس إلى العصر الجاهلي والعصور التي بعده ولقد اشتهرت المجالس التي كانت تقام في الأسواق مثل سوق عكاظ والمربد وغيرها والتي كان الشعراء يذرعون البوادي ويضربون آباط الإبل

كي يصلوا إليها ليسمع بعضهم بعضا ويحكم بعضهم على بعض وبتقادم السنين تحولت هذه المجالس إلى الديارات(جمع دير) والحانات ذلك في العصر العباسي أما في العهد العثماني حين اخذ الناس يشربون ما جادت به سفن البحار من مشروبات جديدة كالشاي والقهوة والقرفة (الدارسين) والحامض وغيرها فضلا عن شيوع ظاهرة التدخين بنوعيه (السجائر) و(النارجيلة) احتاج الناس لتعاطيها في المجالس المخصصة لها فافتتح أول مقهى في بغداد في العهد العثماني وسمي هذا المقهى بــ (خان جغان)
وتتالى بعدها افتتاح المقاهي بصور تترى من اجل شرب الشاي والسجائر والنارجيلة والاستراحة من تعب الطريق والتحدث إلى الأقران والخلان ومما يروى إن احد الزائرين للعراق سئل عند عودته عما رآه في العراق فقال: (لقد رأيت بين كل مقهى ومقهى مقهى !!!) يشير بذلك إلى كثرة المقاهي في العراق ولقد اختص كل مقهى بنوعية زبائنه ومريديه فهذا مقهى للبنائين وعمال البناء وذاك مقهى (المطيرجية) وهكذا.. أما ابرز المقاهي التي برزت على الساحة فهي مقاهي الأدباء والمفكرين والتي بزت بقية المقاهي وفازت بالقدح المعلى.. أما القهوة لغة الخمر ولقد استعملت هذه الكلمة - قهوة- لتطلق على البن المغلي لأن البن والخمر يقهيان (يذهبان) بشهوة الطعام والرجل القاهي أي الرجل القوي ذو القلب المستطار قال الشاعر: راحت كما راح أبو رئال / قاهي الفؤاد دئب الإجفال اتخذت المقاهي الأدبية في القرن العشرين طابعا مميزا لأن بعض مريديها وزبائنها يكتبون نتاجاتهم من شعر ونثر على كنبات هذه المقاهي وطاولاتها ومن اشهر المقاهي الأدبية في العراق وبغداد خصوصا مقهى (الزهاوي) وكانت تسمى بالأمين واكتسبت اسم الشاعر لكثرة جلوسه فيها وكذلك مقهى (البرازيلية، البرلمان، البلدية، السويسرية، المعقدين، الشابندر، حسن عجمي، الخ) فقد فضل المثقفون ارتياد المقاهي لأن المقهى بمساحته الصغيرة وكنباته المتقابلة والمتعاكسة تتيح لهم رؤيا واسعة للمجتمع وأخباره وهمومه وبالتالي المعرفة بهذه الأمور تؤدي إلى المعرفة بالحياة فضلا عن ذلك فإن الجلوس في المقهى ورؤية الخارج من شارع ممتد مترام الأطراف بتفرعاته الكثيرة وحركة الناس فيه جيئة وذهابا -بل مجرد مراقبة هذه المناظر - تجعل الإنسان مشحوذ العقل كثير التأمل والتفكير في أحوال هؤلاء المارة ومن يطلع على نتاجات أدباء المقاهي -إن صح المصطلح- يجد في شعرهم ونثرهم ما هو يومي ومتداول على السنة الناس بصورة واضحة وفي مقهى الزهاوي نفسه كان الزهاوي يرد على مقالات عباس محمود العقاد وفي هذا المقهى أيضا اشتعلت الفتنة والخصومة التي طالت الزهاوي والرصافي التي أذكى جذوتها أحمد حامد الصراف التي ترك على إثرها الرصافي الجلوس في هذا المقهى بل إن المقاهي الأدبية لتزدهر بالزائرين لوجود الشخصيات الأدبية فيها لاسيما المشهورة منها فالمقهى يلبي حاجة روحية للإنسان للتداول والمباحثة حول أمور الحياة المتعبة من هموم سياسية وأدبية واقتصادية واجتماعية وغيرها ومن أبرز رواد المقاهي من الأدباء والمفكرين على سبيل المثال لا الحصر نذكر (حسين مردان، بلند الحيدري، السياب، زهير احمد القيسي، غائب طعمة فرمان، رشدي العامل) وغيرهم ممن تطول القائمة بذكرهم ومع شرب الشاي وتدخين السجائر تبلورت الحركة الأدبية والفنية في العراق واصدرت منها المجلات الأدبية والصحف وفيها كانت تكتب مسودات القصص والروايات من قبل أدباء العراق ومفكريه الذين جلسوا في هذه المقاهي ليستريحوا من تعب العمل أو الدراسة أو السفر وغيره فوجدوا في المقهى خير ملاذ كي ينفقوا فيه أفكارهم لتتلاقح مع أفكار أقرانهم فإلى أدباء المقاهي وفنانيها تحية وسلام.