الكتلة العسكرية الوطنية في الثلاثينات

الكتلة العسكرية الوطنية في الثلاثينات

د. عقيل الناصري
أشتدت النزعة الوطنية تجذراً في الوعي الاجتماعي للأغلبية الواعية والمثقفة والمتعلمة من السكان, بعد تكون الدولة العراقية, وبصورة عفوية, نتيجة التراكمات الكمية للأحداث, الداخلية والخارجية, التي واجهت البلد.. وإزدادت تأثيراً وتعمقاً كلما أخذت السلطة المركزية تمركز وتركز قدرتها في إقرار ذاتها العضوية وتصلب نواتها الصلبة (المؤسسة العسكرية) وتحقيق سريان مفعول قراراتها, الذي يعني في حد ذاته الحد من تشظي المكونات الاجتماعية والولاءات الدنيا وتمهد سبل صيرورة (الهوية الوطنية) العراقية.

لم يكن تطور هذه الصيرورات وسيرورات آلياتها يسير بدون معوقات مادية ومعنوية ذات طابع موضوعي وذاتي, وأحياناً ببوصلة مصطنعة تكبح أرتقاءها الطبيعي.
ويكمن أحد أراسيات ذلك في الطبيعة الطبقية للسلطة السياسية وقاعدتها الاجتماعية وما تمخض عنها من نخب سياسية حاكمة.. وافتقادها الموضوعي للطبقات الحديثة القادرة بحكم عقليتها ومصالحها, على توحيد السوق الوطنية بأسرع ما تسمح به الظروف وترسي الأسس المادية لوحدة المكونات الاجتماعية ومصالحها في وحدتها وتناقضاتها الجدلية.
برزت المعوقات في جملة من الكوابح.. منها تناقض المصالح النوعي بين مكونات قاعدة الحكم والاغلبية السكانية, وفي الوقت نفسه بين ذات مكونات قاعدة الحكم ذاتها[49], وكذلك الحال بين تضارب المصالح والرؤى للمكونات الاجتماعية والاثنية والدينية للمجتمع العراقي, وكذلك التناقض في مستويات التطور بين المناطق الجغرافية وتعمق التفاوت المطلق بينها, وعلى الأخص بين الريف والمدينة.. وكذلك الصراع بين مكونات البناء الفوقي لمختلف القوى الاجتماعية من افكار اجتماعية ورؤى فلسفية وتطلعات مستقبلية, سواءً لذات كل مكون أو للبلد برمته.
فكما برزت الكتلة القومية المسنوردة من قبل بعض قوى الحكم, دون تحديد تاريخي موثق, برزت وتزامن معها رديفها المتمثل في الكتلة الوطنية, التي تكونت في مجرى الصراع الاجتماعي, خاصةً بعد موت الملك فيصل الأول وما تركه من فراغ معنوي على الأقل, وظهور النواة الصلبة للسلطة (الجيش) باعتباره الأداة القسرية المُوحدة للوطن, بعد أن اصبحت العسكرية مهنة بحد ذاتها منذ مطلع العقد الرابع.
هذه النظرة برزت في سياق العمليات التي قادتها المؤسسة العسكرية لإخماد بؤر عدم الاستفرار الناجمة عن البحث عن مصائر الذات في الشكل الجديد للتنظيم الجمعي وتكون السلطة الجديدة, منها مثلا: الحركات الكردية (1930-1931) الطامحة لتعزيز هويتها القومية المجزءة. وكذلك القضاء الفض والوحشي على حركة الآشوريين النساطرة عام 1933, وقبلها العديد من الانتفاضات العشائرية في الوسط والجنوب وخاصةً القبائل الصغيرة التي همش دورها.. مما مهد الظروف المادية أكثر فأكثر لبروز ضباط المؤسسة العسكرية وتأثيرهم على الحياة السياسية. لقد عكست الكتلة الوطنية طموحات قطاعات واسعة من المجتمع العراقي بمختلف إنتماءاتهم الدينية والمذهبية, الاثنية والطبقية. وقد تعززت هذه الدعوة كصدى عضوي فعال آنذاك لانتشار الشعار الواسع " شعب عراقي واحد والعراق للعراقيين".
وقد انطلقت الكتلة في نظراتها السياسية والعملية من واقع خصوصية التركيبة الاجتماعية العراقية وضرورة تجسيد هويتها الوطنية الموحدة ضمن مبدأ (الوحدة في التنوع), عند تحديد الابعاد القومية التكاملية مع البلدن العربية, والمشرقية على الأخص.
وتدلل القرائن التاريخية على أن هذه الكتلة بدأت بالتكتل العفوي ومن ثم البروز مع صعود نجم الضابط بكر صدقي منذ مطلع الثلاثينيات, الذي أصبح مطمح كل سياسيِّ تلك الفترة الذين تمنوا أن يكون بجانبهم ليدعم مراكز قوتهم إزاء خصومهم. لم يكن للكتلة, كبقية الكتل السياسية أو العسكرية, برنامج محدد ومدون, كما كانت خالية من العلاقات التنظيمية, قدر كونها تتعاطف روحياً مع السياسات التي تصب في إخراج البلد من حالات التخلف والدعوة لتعزيز الهوية الوطنية العراقية التي تتناقض مع سياسة نخب الحكم الهاربة من ذاتها الطبقية وواقعها الموضوعي وإشكالياته.
لقد إلتفت محموعة كبيرة من الضباط والسياسيين حول بكر صدقي ومجموعته (محمد علي جواد والعقيد الركن توفيق وهبي), الذين أسسوا مركز للقوى اتسم بكونه أنطلق من عراقية العراق, كما تكونت لهم هالة صمدانية (كارزمية) من نجاحاتهم العسكرية.. سواءً في إخمادهم لبؤر عدم الاستقرار أو/و لمساهمتهم في تطوير المؤسسة العسكرية خارج أطر الاتقاقية العراقية- البريطانية وكذلك لدورهم في تأسيس وتطوير القوة الجوية.. وهاتين المسألتين الأخيرتين كان لهما صدى في المؤسسة العسكرية والشارع السياسي المعارض في جوهره لبريطانيا وسياستها في العراق والمنطقة, والذي مثل مضمون العقل السياسي العراقي في تلك الحقبة, بغض النظر عن مدى صوابية ذلك من عدمه.
يضاف إلى ما ذكر, الثقل المعنوي الكبير الذي نالته الكتلة من قبل القوى الوطنية العراقية وبالأخص من الحزب الوطني العراقي بزعامة " معتمده المعارض والوطني الصلب محمد جعفر أبو التمن " وما تمخض عنه من اتجاهات سياسية كجماعة الأهالي والحركة الديمقراطية, والجماعات الماركسية (لاحقاً الحزب الشيوعي) ناهيك عن بعض عناصر المؤسسة الدينية وبالأخص الشيعية التي شخصت في التيار القومي الحاكم ابعاده الطائفية.. كما وقفت العديد من القوى الاجتماعية الكردية مع التوجهات السياسية للكتلة الوطنية وخاصة المثقفين الأكراد المنطلقين من طبيعة الحفاظ على ذاتهم الخاصة ولحقوقهم القومية والثقافية ضمن الكيان العراقي, التي تزامنت بالضد من دعوات الصهر القومي القسري التي كانت تدعو لها بعض الأصوات العربية المتعصبة. وهذا يشمل ايضاً بقية المكونات الاجتماعية العراقية ( من دينية وجماعات اثنية ولغوية), التي رأت ذاتها في الهوية العراقية.
ولقد مثلت هذه القوى عصب المعارضة الوطنية (العراقوية) اللارسمية.. وهذا ما ميزها عن الكتلة القومية التي كانت تعقد التحالفات السياسية مع مختلف الكتل من نخبة الحكم, ذوي التوجه العصبوي, من أمثال ياسين الهاشمي والكيلاني والسعيد وغيرهم من الموالين والممائلين لبريطانيا في العراق وسياساتها الدولية.
في الوقت الذي كانت الكتلة الوطنية تضم في ثتاياها مناصري الاتجاهات العراقية الليبرالية واليسارية وتضم تياراً كردياً واعياً لذات انتماءه العراقي والقومي الكردي في الوقت نفسه, ولم يكن يطمح للإنفصال كما يُشاع عنه على غير حقيقته.
لقد كان أغلب ضباط هذا التيار هم من خريجي العسكرية العراقية، ومن الرتب الوسطى والدنيا, ومن منابت أثنية عديدة واجتماعية مختلفه الأقرب إلى الفئات الوسطى ومن مختلف جغرافية العراق. ففيهم كان العربي والكردي, المسلم والمسيحي والمندائي, ومن وسط العراق وشماله وجنوبه, وكان لبعضهم صلات سياسية مع حركة المعارضة الوطنية ومشبعين بالأراء الليبرالية التي غزت العقل السياسي العراقي منذ نهاية العشرينيات, في حين كان بعضهم الأخر متأثر بالأفكار اليسارية الرديكالية.. وهؤلاء ينتمون إلى الفئات الاجتماعية دون الوسطى ومن عوائل تعتمد على الأجر في دخلها, من موظفين متوسطين وصغار.
لقد توسعت الكتلة عددياً وتضخم حجمها وتأثيرها, بعد عقدها تحالفاً سياسياً مع حكمت سليمان , والأهم مع الزعيم الوطني أبو التمن وجماعة الأهالي ومن ثم بعد وثوبها على السلطة عبر الانقلاب الأول, والذي مهد إليه, حسب اعتقادنا, طبيعة صراع نخب الحكم السياسية وتكتلاتهم, من خلال استخدام القوة (المادية والمعنوية) وإن أختلفوا في الوسيلة. إذ أستخدم بعضهم الدسائس والمؤامرات مع القصر أو مع السفارة البريطانية, في حين استعمل البعض الأخر العشائر كوسيلة ضغط لفرض إرادته وتغير الوزارة, في حين استخدم طرف ثالث المؤسسة العسكرية وسيلة الوصول إلى السلطة.
لقد فكر الفريق الأخير, وهذا نتاج طبيعي لماهية المؤسسة العسكرية وهو عامل أرأس, في أن ينقلوا السلطة إليهم عوضاً أن يكونوا أداة صراع بين نخب الحكم من جهة, ونظراً لفشل الآلية البرلمانية المزورة في تناوب وتداول السلطة بين مختلف القوى السياسية وليس حصرها بيد كتل الحكم والمحسوبين على النظام. في الوقت الذي كانت المعارضة الوطنية التي تبحث عن وسيلة قانونية للوصول إلى السلطة والمساهمة في القرار المركزي بعيدة عن التلاعب والتزوير. هذا المحال المادي وتجربتها البرلمانية الصعبة دفعها إلى التعاون مع ضباط المؤسسة العسكرية من جهة ثانية..
وهكذا كان الانقلاب الأول, الذي " عصف بإستقرار أنصار المدرسة البريطانية من أمثال جعفر العسكري ونوري السعيد وجميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي.. وبسبب هذا الانقلاب عرف هؤلاء السياسيون التقليديون أولى هزائمهم على ايدي هؤلاء الضباط [53] ".فهرب الهاشميان(طه وياسين الذي توفي بعد مدة في لبنان) والكيلاني وشوكت وغيرهم إلى خارج العراق, أما السعيد فقد لجأ إلى السفارة البريطانية حيث مكث فيها يومين قبل أن تنقله وعائلته بطائرة عسكرية بريطانية إلى القاهرة.
يشير إسماعيل العارف, دون تحديد لمصدر معلوماته, إلى أن قيادة الانقلاب قبل تحولها إلى حكم عسكري, شكلت لجنة سرية " عقدت عدة اجتماعات درست السبل الضرورية لتحقيق أهدافها, وتعتبر أول تنظيم سياسي سري تشكل . غير أن تأليفها المختلط وإستبعادها الضباط القوميين وعدم تبنيها الأفكار القومية, أثار عليها حفيظة الكتلة القومية في الجيش والتي كان يتزعمها صلاح الدين الصباغ. وقد أُتهمت اللجنة بالاقليمية وبالشعوبية. فلاقت دعوة الكتلة القومية وخصومتها لحركة بكر صدقي واللجنة السرية تشجيعاً وترحيباً من الساسة الذين تضرروا من الانقلاب, أمثال نوري السعيد وجميل المدفعي وشجعتهم السلطات البريطانية من وراء الستار[54]". وقد ضمت اللجنة من العسكريين: محمد علي جواد, أمر القوة الجوية؛ وعلي غالب إسماعيل وجمال جميل ؛ ومن المدنيين الأديب, والوزير لاحقاً, مصطفى علي. ومن أبرز أهدافها خلق عراق قوي يستند على وحدة وطنية بين العرب والأكراد.
ومن مأثر الكتلة الوطنية, في المؤسسة العسكرية, هو عملها الدؤوب من أجل تطويرها خارج أطر الاتفاقية العسكرية الملحقة بمعاهدة 1930, حيث " قلق بريطانيا قد ازداد بصورة أخص من السياسة العسكرية التي أخذ الفريق بكر صدقي يجّد في تحقيقها, وكانت ترمي إلى خلق قوة حقيقية من الجيش العراقي, مع زيادة عدده وعدته والعتاية بتدريبه, وقد استطاع الحصول على عتاد من بعض دول أوربا الوسطى, بعد أن تلكأت بريطانيا في إجابة طلبه حسب أحكام النعاهدة العراقية- البريطانية. كما حصل على سرب من الطائرات الايطالية التي كانت لها حينذاك شهرة عالمية.. وكان اهتمام العراق بقوته الجوية من أهم مفاخر هذا العهد ".
وقد ألقى بكر صدقي خطاب, عند وصول هذه الطائرات, " في حشد من قادة وضباط الجيش العراقي في المطار المدني, هدد فيه الانكليز بإخراجهم من العراق ... ووعد بتحرير فلسطين بهذه الطائرات. معنى ذلك كسر طوق استيراد السلاح من بريطانيا والتي كانت تعني الإيذان بتعديلها ".
أما على الصعيد المدني فقد قامت حكومة الانقلاب بالعديد من الاعمال, وكان من أخطرها الطلب من شركات النفط على ضرورة إجراء مفاوضات لتعديل الاتفاقيات المبرمة معها. وكان هذا العامل قد تكامل مع العوامل الأخرى العسكرية والاقتصادية والسياسية وإرهاصات الانفتاح على القوى الديمقراطية واليسارية, لأجل الإطاحة بحكومة الانقلاب.. خاصةً إذا علمنا حسب تقييم صلاح الدين الصباغ بعد فوات الآوان, " كان بكر صدقي عدو لدود للانكليز وخصماً عنيداً لعملائهم, ففرق جماعتهم وولى بعضهم الأدبار, فاراً من العراق تاركاً وراءه ما أغتصب من خيرات ونعم ".
لقد تم تصفية مركز هذه الكتلة بإغتيال الثنائي القوي بكر صدقي- محمد علي جواد, بعملية انقلابية ساهم فيها ضباط الكتلة القومية وبعض أعضاء نخبة الحكم المتضررة من الانقلاب والسفارة البريطانية [59].
وتأسيساً على ذلك يمكننا القول إن كلتا الكتلتين لم تستطيعا:
- تكوين قاعدة اجتماعية عريضة منظمة فعالة ومؤثرة, سواءً في المؤسسة العسكرية أو في الحياة المدنية السياسية.
- ولم يستطيعا تبني برنامجاً سياسياً يستقطب أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير.
- لم يمتلكا وضوحاً سياسياً, وإن أختلفت النسبة, لواقع مشاكل وسبل تطور العراق.
كان أغلب ضباط تلك المرحلة ينقصهم النضج والوعي السياسيين, بل حتى الوعي الوظيفي/ المهني, مما حال من تحولهم إلى انتلجنسيا عسكرية تستطيع إعادة الانتاج معرفي/ مهني أرقى, أو/و أيجاد حل لمعادلة الانتماء والهوية العراقية/العربية بصورة جدلية تتفاعل مع افقها الحقيقي. هذا سوف يتضح من القراءة الواعية لمفردات الخطاب السياسي لكل الكتلتين آنذاك, وتخبط الممارسة السياسية لكليهما, وغلبة الامنية على الواقع المادي, وقيم المؤسسة العسكرية المتضادة في أغلب فقراتها مع العمل السياسي المدني والادارة العامة لمرافق الحياة, وعدم فهمهم لسنن التطور وأسس التحالفات ومدها والصراعات وإدارتها. وخير مثل يضرب هنا طبيعة تحالف الكتلة القومية من خلال العقداء الأربعة مع أعضاء النخب الحاكمة وكذلك ولي العهد. وذات الموضوع ينطبق على غلبة عقلية بكر صدقي العسكرية على الاراء الأكثر نضجاً لدى اعضاء الوزارة المدنيين من جماعة الأهالي مما أدى إلى التصادم الذي لا مناص منه, وأدى إلى استقالاتهم وتحول السلطة إلى حكم عسكري.
وعند تحليل طبيعة الصراع الذي نشب بين الكتلتين, والذي أثر على مجمل العملية السياسية لعراق القرن العشرين, يُلاحظ في البدء إن الصراع هو أنعكاس للصراع السياسي الذي احتدم بين المدرسة العراقوية (الوطنية) والمدرسة القومانية (االقومية), في توجه العراق اللاحق.
لقد حاولت كل كتلة, من أجل تعزيز مواقعها وإضفاء الشرعية على ذاتها, إقامة صلات مع الاحزاب القريبة من توجهاتها العامة, والتي كانت بمثابة الموجه الفكري وفي بعض الأحيان الروحي, لكلا الكتلتين. لكن في الوقت نفسه لم تخلو هذه الصلات من تعارضات وتصادمات بينهم, أو على الأقل إنحياز الضباط لقيم المؤسسة العسكرية وقيمها وما تمليها من شروط تتقاطع وطبيعة العمل السياسي المدني ونمط تفكيره وعلاقات انساقه. هذا الاستنتاج مستنبط من تاريخية العقد الخلافية التي إنتابت كلا الكتلتين, وأضعفتهما في بعض الفترات.
من جانب أخر لابد من القول إن هذا الصراع كان غير مبرر منطقياً وتاريخياً, وقد عكس في بعض نواحيه مدى إنخفاض تجليات الوعي الاجتماعي في أبعادها السياسية والفلسفية بل وحتى الجمالية, خاصةً عندما إكتسى صفة إلغاء الأخر, مما أثر في النمو الجدلي لكلا الكتلتين, تجلى ذلك في عدم تمكن كل الكتل العسكرية, من توحيد جهدها الأرأس والمشترك في القضايا الجوهرية الخاصة بتحقيق الاستقلال الحقيقي ببعديه السياسي والاقتصادي, ومن ثم إحداث تغيرات جذرية في البنية ( الاجتصادية) الاقتصادية والاجتماعية, وتعزيز الألية البرلمانية كوسيلة وحيدة لتداول السلطة بين القوى الاجتماعية.. وأيجاد سبل الحل المنطقي للعلاقة بين الخاص والعام من مرتكزات الهوية الوطنية/القومية ودمجهما جدليا في بوتقة إنضاج الظروف الحسية للخاص السائد آنذاك وإستكمالا للعام المرغوب حسب الامكانية وليس الأمنية.
وقد مثل بحق النزاع الأكثر خطورة, الخارج عن مألوف سنن المنطق والعقلانية ومثل حقيقة مركزية في تاريخ العراق المعاصر .. نجمت عنه عواقب وخيمة أمتدت لاحقاً إلى عموم المحيط العربي تقريباً.. كما كان مأساوياً حقاً وخلف وراءه الكثير من الندب. و خسائر كبيرة شملت ليس الفريقان المتحاربان وما زرع بينهما من عدم الثقة أثر في تطور وإرتقاء كلا الاتجاهين, بل الوطن برمته, الذي أضاع قيم وتجارب وفرص تاريخية, اسفرت عن نتائج مروعة في التضحية بالمصالح بعيدة المدى على المستويين الخاص والعام. وكذلك على العملية الارتقائية لتطور العراق وإضاعة الفرصة التاريخية النادرة (مرحلة التموزية/ القاسمية).
رغم أن بعض من مضامين هذا الصراع ما كان بالإمكان تجنبها.. نظرا لكونهما نابعة من مسارات التطور التاريخي للعراق والمنطقة ومن تناقض وتصادم جملة الصيرورات الاجتماعية ومصالح الجماعات, ومن القيم الاجتماعية المتناقضة المشروطة زمنياً وبالظروف الحسية للبلد.
ويظهر أن هذا الصراع المعبر عن النظرة الذاتوية والجزءوية, إنتهى إلى جميع الطبقات, إذ تساوت عجزاً وسكوناً وركعت على ركبتيها أمام أعقاب البندقية التي شهرتها بريطانيا ومواليها عليها آنذاك, والقوى المتضررة من ثورة 14 تموز في العهد الجمهوري الأول.. مما فسح المجال إلى المتخلفين والمتريفين من الاستيلاء على السلطة وقطع دابر التلاقح الحقيقي بين الوطني ( الخاص) والقومي ( العام). لكونهما متكاملان في الأرأس وليس متنافران فيه, كما أن كل منهما يحمل خصائصه المكملة إلى الأخر.