من جوانب الحياة الاجتماعية في بغداد في القرنين السابع والثامن عشر

من جوانب الحياة الاجتماعية في بغداد في القرنين السابع والثامن عشر

د. طارق نافع الحمداني
ان الاحداث المؤلمة التي شهدتها بغداد ادت الى هجرة الكثير من سكانها الى المناطق الاخرى ، وكانت الكوارث الطبيعية التي حلت بالمدينة من اوبئة وفيضانات ومجاعات ذات تأثير مماثل . ومن جهة اخرى فقد كان السكان يعودون الى بغداد عندما تسود حالة الهدوء والاستقرار فيها,

وقد يتضاعف عددهم احيانا بحيث يؤدي الى الازدحام في المدينة.. على ان هناك مسألة مهمة تسترعي الانتباه الا وهي طبائع سكان بغداد ، التي اشار اليها كثير من الرحالة الاجانب . فسكان بغداد بوجه عام ـ على ما اشار اليه روسو ـ ابعد ما يكونون عن العبيد الاخساء . فأنهم فخورون يتصفون بالجسارة . اما عن صفاتهم الاجتماعية ، فهم دائما مؤدبون عقلاء كرماء محسنون الى الاجانب .
وان هذا هو رأي رحالة فرنسي اخر وهو اوليفيه الذي يعتقد ان سكان بغداد اكثر حلما في طبائعهم من سائر سكان المدن الشرقية " فتعصبهم لا يخلو من تسامح, ولم يؤد الحسد عندهم الى ظلم كبير وكان اشراف البلدة اكثر تأدبا وثقافة وتجارهم اكثر فعالية وتشبثا " .
ولعل من اكثر الاشارات تفصيلاً عن هذا الجانب ماذكره الاباء الكرمليون في فارس الذين تحدثوا عن اخلاق سكان بغداد بقولهم:
" ان البغدادين ـ وبدون استثناء ـ هم من اكثر الناس الذين قابلتهم تحضرا في البلاد الاسلامية ، فهم ميالون الى اظهار الادب والوقار للاجانب ، وخاصة من اصحاب الديانات الاخرى ولهذا فعندما يمر المرء في شوارع بغداد فأنه يلقى التحايا والانحناءات حتى من قبل اكثر الطبقات الراقيية " .
واذا ماعدنا الى مدينة بغداد نفسها نجد انها تحاط بسور مبني بالطابوق يدور حولها على شكل دائري تتصل نهايته بالنهر ويقطع هذا السور عدد كبير من البراج المتقاربة ، نصب فوق جميعها زهاء ستين مدفعا ، ويلتف حول سور المدينة ,عدا جهة النهر, خندق واسع وعميق يبلغ عرضه ستين ذراعا وارتفاعه حوالي اربعين ذراعا وياخذ مياهه من نهر دجلة ،
وما تزال بقايا هذا الخندق موجودة عند باب الوسطاني عند الباب الشرقي في الجنوب وللمدينة اربعة ابواب ثلاث منها في الجهة النهر و واحد مطل على النهر.
وعلى الرغم من اهتمام العثمانيين بتعزيز تحصينات بغداد واسوارها وهو امر اعترف به الكثير ممن زار هذه المدينة في القرن السابع عشر الا ان تلك التحصينات والاسوار اخذت تضعف ولم ـ تعد على ما راه رحالة القرن الثامن عشر ـ صالحة للدفاع ، ولهذا السبب فقد عمد ولاة بغداد خلال القرن المذكور الى تعمير سور المدينة وترميم ما تهدم منه وعمل كل من حسن باشا (1116 هـ / 1704 م ـ 1136 هـ / 1723 ) وسليمان باشا الكبير (1195 هـ / 1780 م ـ 1217هـ/ 1802م ) على احاطة جانب الكرخ بسور وخندق ليكون في مأمن من غارات القبائل البدوية .
ويتوزع سكان بغداد مما تحت السور الى عدد كبير من المحلات بلغ عددها في اواسط القرن السابع عشر الى 24 محلة اهمها محلة الميدان ومحلة الحيدر خانة ومحلة قنبر علي ومحلة راس الجسر ومحلة الشورجة ومحلة راس القرية (وهو الموقع الذي تشغله الان محلات المربعة والسيد سلطان علي )
تعد المحلة الوحدة الاساسية للمدن العراقية ومن ضمنها مدينة بغداد ، اذ تتالف المحلة الواحدة من شارع عريض نسبيا وازقة ضيقة تابعة له ، وتتصل به تعرف بالعقود ودورته تتجه مداخلها الى هذه العقود او الشارع الرئيسي نفسه ، وفي نهاية هذا الشارع بوابة كبيرة خاصة بالمحلةوتضم المحلة في الغالب المسجد والحمام والسوق والمقهى ، فضلا عن اصناف مختلفة من اهل الحرف ، مما يجعلها في حالة الاكتفاء الذاتي ، وفي كل محلة ايضا مجلس يتكون من الاعيان البارزين فيها وكان هذا المجلس يدعى في حالات الطوارئ او الحرب وله صوت مسموع بين افراد المحلة الواحدة .
ومع انه لاتوجد هناك قاعدة محددة تنقسم المدن على اساسها الى محلات فقد جرت العادة في بغداد ان تنسب المحلة اما الى اسم شخص بارز او اسم مهنة معينة غالبا ، ولهذا نجد محلات بغداد منسوبة الى الطوبجبة (القائمون على المدافع) ، الصفافير (صانعو الاواني )والشواكين (باعة الاشواك المستعملة في الوقود ) والخبازين والسماكين وبجانب ذلك ظهرت في بغداد محلات وعقود تحمل اسم العشيرة او الجماعة التي تسكنها ، وقد شجع العثمانيين منذ دخولهم الى العراق في منتصف القرن السادس عشر هذه الظاهرة التي تقوم على اساس قبلي وذلك لانها سهلت عليهم سبل الادارة وجمع ضرائب السكان اذ كان من المعتاد ان تصبح كل جماعة مسؤولة بالاجماع عن منطقتها برئاسة احد الاشخاص البارزين ، وعلى الرغم من تسمية المحلات باسم العشائر والجماعات كان للاغراض الرسمية والمالية وانها لم تستعمل على نطاق عام فأن بعض المحلات والعقود ظلت حتى القرن التاسع عشر وما بعده ـ محتفظة بأسماء الاقوام التي سكنتها مثل عقد الدجيلاويين ببغداد (نسبة الى الدجيل بالقرب من سامراء وعقد الجنابيين عشيرة عربية وعقد العفيليين (نسبة الى قبيلة عربية) وعقد الدوريين نسبة الى الى بلدة الدور بين بغداد وسامراء ومحلة الهيتاويين (نسبة الى بلدة هيت على الفرات ) ومحلة الجعيفر نسبة الى عشيرة الجعافر العربية )
على ان هناك بعض النواحي المهمة التي تستوقف الباحث عند الحديث عن محلات بغداد ، الا وهي حالة الشوارع العامة والازقة والجسور ومياه الشرب فيها . اذ ليس هناك مايشير في المدة موضوع البحث الى وجود دائرة خاصة ـ كالبلدة مثلاـ تهتم بالخدمات الاجتماعية المشار اليها اعلاه ، فمن كان المسؤول عنها اذا ؟ يبدو ان معظم الخدمات المدنية في مدينة بغداد كانت تدار من قبل حكومتها المحلية ، المتمثلة بالولاة والموظفين الحكوميين . الا ان قسما اخر من تلك الخدمات كانت تتم بمساهمة اعيان المدينة واهل الخير ، وخاصة في مجال السقايات ، ففي مسألة الشوارع العامة والازقة يبدوا انها كانت ضيقة وغير مبلطة ، وقلما نجد شارعا مستقيما تقريبا في بغداد . ولعل ضيق الطرق والتوائها يعطي المدينة صفة دفاعية ويساعد على صد الغارات وحصر الاعداء في اوقات الازمات ، كما ان من شأن الطرق الضيقة ان نحمي السكان من اشعة الشمس المحرقة التي يتصف بها مناخ بغداد خلال اشهر الصيف .
وبما ان مدينة بغداد لم تكن وحدة متكاملة لأن نهر دجلة يقسمها الى قسمين (الكرخ والرصافة ) فقد اقيم جسر من القوارب على النهر ، وذلك بقصد العبور بين شطري المدينة . ويتكون هذا الجسر ـ الذي هو في موضع جسر الشهداء الحالي حتى نهاية العهد العثماني من اربعة وثلاثين قاربا ، يزداد عددها بمقدار ارتفاع المياه ربطت مع بعضها البعض بثلاث سلاسل من الحديدولاحظ نيبور كما لاحظ اوليفية من بعده ان هذا الجسر صالح للاستعمال في الاحوال الجوية الهادئة وعندما يكون الطقس خاليا من العواصف والزوابع ولكنه يكون غير امين حين يفيض النهر وتحدث العواصف اذ يؤدي ذلك الى انقطاع السلاسل الحديدية فتسبب كثيرا من حوادث الغرق المؤلة.
تتحمل الحكومة جميع نفقات الجسر وتبلغ مصاريف تعميره وتصليحه ومهمات القلعة 6000 قرش (ويعادل القرش الواحد في القرن السابع عشر 80 اقجة عثمانية) وبجانب ذلك يتولى حراس الجسر جباية ضريبة العشر من الاحمال الذي ترد اليه اوترسل منه .
وقبل الانتهاء من هذا الاستعراض يبقى ان نبحث باختصار كيفية نقل مياه الشرب الى محلات بغداد وسكانها ابان القرنين السابع عشر والثامن عشر ومن الملاحظ بان هذه العملية كانت تتم بطريقتين : احداهما رفع المياه من نهر دجلة ، وثانيهما نقلها الى سكان المدينة باساليب مختلفة فبالنسبة للطريقة الاولى فانها كانت قائمة على رفع الماء بواسطة الدواليب من نهر دجلة الى قنوات مطلية بالقار مرفوعة على عقود عالية فتجري بالدروب والمحال بصورة منحدرة حتى تصل المواضع المهمة اوالاكثر ازدحاما في السكن فتتفرع منها قنوات اخرى لتصب في الساقيات الشيدة هناك ولعل من ابرز القنوات المرفوعة اثناء هذه المدة هي القناة التي تقع عند طرف مدينة بغداد وتصل الى جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني وكما يقول تكسيرا " فان الماء ينقل اليه (اي الجامع ) من فوق قنطرة خاصة بطريقة بارعة ويبدو ان هذه القناة هي هي التي اشار اليها يبور في اثناء حديثه عن التكية القادرية في بغداد عام 1180 هـ / 1766 بقوله " ان لهذه التكية التي تقع على مسافة بعيدة من دجلة مجرى خاصا يجلب لها الماء من النهر ".
اما الطريقة الثانية لنقل المياه الى بغداد ، فكانت تجري بواسطة السقائين الذين ينقلون الماء الى احواض كبيرة كل يوم لقاء اجر معلوم ولاشك انه كانت هناك سقايات عامة موزعة في ارجاء المدينة يملؤها السقائون لتبقى في حذمة السكان طيلة اليوم بيد ان هذه الطريقة كانت مصدر صعوبات كبيرة لا لسكان بغداد فحسب وانما لسقائين ايضا وقد نوه عدد من الرحالة الذين مرو ببغداد في فترات مختلفة بهذه المشكلة ، لكون ان الماء كان يجلب من نهر دجلة في " ازقة (قرب) كبيرة من الجلد ، على ظهور الثيران والجياد" ان صعوبة نقل الماء من النهر بواسطة السقائين ، هي التي دعت السكان الة الاعتماد على مياه الابار وقد انتشرت هذه الطريقة في بغداد الى حد كبير بحيث قدرها اوليا جلبي عند زيارته للمدينة في منتصف القرن السابع عشر بـ (6000) بئر .