هكذا تكلم هيرقليطس.. بحث في أصول فلسفة نيتشه

هكذا تكلم هيرقليطس.. بحث في أصول فلسفة نيتشه

عادل عبد الله
يتفق أغلب الباحثين في تاريخ الفلسفة، على ان شذرات هيرقليطس كانت منبعا كريما نهل العديد من فلاسفة العالم الكبار – افلاطون وهيجل ونيتشه وهيدجر- جلّ مبادئهم الفلسفية الكبرى من عطائه الفكري المتدفق ابدا، تدفق الصيرورة لديه.

ومما تجدر الإشارة المهمة اليه،أن هيرقليطس لم يكتب في حياته كلها سوى مائة وست وعشرين عبارة، ضمنها في كتابه المسمى "في الطبيعة" الذي يتضمن ثلاثة فصول أو خطابات، يتعلق الأول منها بالكون، والثاني بالسياسة، والثالث باللاهوت ولما كانت الشذرات المتعلقة بالغرضين الأول والثالث أي الكون واللاهوت، هي الشذرات التي اختصت بعرض مذهبه الفلسفي بكل مبادئه الكبرى "اللوغوس، الصيرورة، وحدة الأضداد، النار، وحدة الكل" فضلا عن تضمنها لنظرية المعرفة الخاصة به، امكن القول ان المبحث الثالث كان متضمنا لتصوراته في الأخلاق والسياسة والمجتمع والسلوك الإنساني أيضا.
ولأن العديد من الفلاسفة و شرّاح والفلسفة كانوا قد عرضوا في مباحثهم لمسألة ردّ أصول مبادئ اولئك الفلاسفة المتأثرين بمبادئ هيرقليطس الى جذورها في شذراته، سنعرض في هذا المقال الى مسألة بالغة الندرة، مفادها علاقة شذرات هيرقليطس بفلسفة نيتشه في بعديها الانساني والنفسي والسلوكي ايضا.
إذ أننا نرى أن نيتشه لم يكن متأثرا بالمبادئ النظرية لفلسفة هيرقليطس حسب، بل كان متأثرا ايضا بشخصيته كإنسان وبأسلوبه كشاعر – مفكر وهي المسألة التي سنعرض لها في هذه المقالة، وعلى النحو الآتي:
أولا- إن كلاً من هيرقليطس ونيتشه، كانا قد كتبا فلسفتيهما بالطريقة نفسها، اعني الطريقة الرمزية التي يشتبك فيها الشعر بالفلسفة.
ثانيا- كان كلاهما ارستقراطياً في مواقفه السياسية، كارهاً للديمقراطية ومتجاوزاً لرأي العوام، غير معولٍ عليه في أيما مسألة معرفية أو سياسية، فإذا كنا نستطيع أن نستحضر هنا شاهداً من هيرقليطس، هو قوله: "إن رجلاً صالحاً عندي يساوي عشرة آلاف رجل إذا كان هو الأفضل". فان شاهدنا، أو شواهدنا من نيتشه، يصعب إحصاؤها في هذا الشأن، لكثرتها، ولذا نخص بالذكر منه، فصله "ما النبيل"؟ في كتابه ما وراء الخير والشر، وكتابه "أنساني مفرط في إنسانيته". وكتابه "أصل الأخلاق وفصلها". , يقول ديورانت, ناقلا عن نيتشه بعضا من مواقفه السياسية :
"إن الفضائل والقيم الارستقراطية آخذة في الانطفاء والاختفاء، لقد فقدت الحياة قيمتها عندما تخلينا عن أخلاق البطولة، وأخذنا بمبادئ المساواة والديمقراطية التي تكفر بعظماء الرجال".
مثلما كان كلاهما، مهتما بنوع الإنسان، لا بكثرة الناس، مفضلين الرجل القوي الحكيم على الآف سواه، كما مرّ بنا قول هيرقليطس، أما المسألة قدر تعلقها بنيتشه، فانه يصف نفسه بأنه "المتأمل المتوحد وصديق الألغاز". وكان "ينفر من الجماعة". وكان "يشكو من عجزه عن تحمل الناس الذين يعيش في ظهرانيهم ويعلن انه يصاب بجملة من إخطار عسر الهضم عندما يجلس إلى الطاولة ويأكل من الطعام الذي يأكل منه الناس العاديون".
ثالثا- كلاهما كان، متوحداً، معتزلا للناس، مضطهداً منهم، ومجافياً لهم.
رابعا- كلاهما قال باستحالة المعرفة وامتناعها على نحو كلي.
خامسا- كلاهما نظر إلى الوجود نظرة جمالية خالصة، بوصفه لعباً.
سادسا- كلاهما تمثل شخصية المعلم، والرسول المنقذ للبشرية، عبر نوع دعوة نبوئية رمزية، تعي على الدوام، الفارق بين صاحب الدعوة والمنتدب لاعتناقها، فلقد وضع نيتشه "نصب عينيه الكتب المقدسة عندما أبدع هذا العمل زرادشت ثم قال بأن الأجزاء الثلاثة الأولى منه أنجزت في عشرة أيام بمعنى أنها الهام خارق، وزرادشت يبشر بتعاليمه وهو في عمر المسيح ثم يرتقي الجبل ليلتقي بمريديه".
سابعا- كلاهما يمزج بين فلسفته وشخصيته وسلوكه، على نحو كلي.
فما الذي يمكن أن نستخلصه من كل ذلك، كنتيجة له؟ يبدو أن جملة اويغن فنك، "إن نيتشه يرجع إلى هيراكليتس..أن أصل فلسفة نيتشه,إنما هو هيراكليتس" هي التعبير الأكثر توفيقا وقربا لوصف صحة العلاقة بين الفيلسوفين.
هل تسوّغ لنا هذه المقدمة كلها، السؤال حول، إمكان استبدال اسم (زرادشت) بـ(هيرقليطس) ليصبح عنوان الكتاب الأكثر تعبيرا عن فلسفة نيتشه كلها، "هكذا تكلم هيرقليطس" بدلا من تسميته المثبتة على غلافه؟
ذلك لأننا كنا قد تعرفنا أولا، على مبادئ فلسفة هيرقليطس، متفتحة في نص نيتشه، وهذا تعبير مكافئ لقول فنك عن نيتشه "أن أصل فلسفة نيتشه,إنما هو هيراكليتس ". مثلما تعرفنا من بعد، عن أواصر القربى النفسية الشخصية، بين الفيلسوفين، وهذا التعبير مكافئ للشطر الآخر من العبارة " إن نيتشه يرجع إلى هيراكليتس"، ولما كان الكتاب الأكثر أهمية في فلسفة نيتشه هو كتابه (هكذا تكلم زرادشت) وكان وجه أهميته متأتٍ من كونه يعبر عن نيتشه أنسانا وفيلسوفاً، أصبح القول باستبدال عنوانه على وفق الطريقة التي افترضناها ممكناً، وعلى وفق الادلة التالية:
1: إن القاموس اللغوي الذي يتألف من مجموع مفردات شذرات هيرقليطس، قد وجد باجمعه، وعلى نحو بالغ الوضوح، في كتاب نيتشه "هكذا تكلم زرادشت" فالحرب والصراع والقوس والقيثارة والغرور، والمعارك والمصير، والنوم واليقظة، الخ. مفردات, موجودة جميعها في مؤلف نيتشه، "هكذا تكلم زرادشت".
ولئن كانت هذه المسالة لا تؤشر شيئا جوهريا، فان الذي يكسبها أهميتها، هو استخدامها من قبل نيتشه بذات المعاني التي استخدمها هيرقليطس في شذراته.
2: إن مثل هذا التداخل اللفظي- المعنوي بين نصّي هيرقليطس ونيتشه،لا نجد له مسوّغا من القول يحتوي علل حدوثه، سوى افتراضنا : أن ثمة قراءة بالغة العمق والشغف, تمّت من قبل نيتشه لشذرات هيرقليطس، قراءة, بجّلته أنسانا وفيلسوفاً، حتى تمكّنت فلسفته من فكر نيتشه، مثلما تمكنت مواقفه الإنسانية والنفسية من الاستحواذ على ذات الفيلسوف الألماني، ومن هنا، فان عملية كتابة نيتشه لنصه زرادشت، تعلن على الدوام، بوعي منه أو بغير وعي, الأساس الثقافي والفكري والنفسي الذي سبق لنيتشه أن اشبع روحه وعقله به.
مصداقا لهذه المسألة, ودليلا على صدقها, سنعرض في فقرتنا اللاحقة بإيجاز لنماذج من نوع هذه العلاقة التي تحدثنا عنها، مأخوذة من كتابيه، هكذا تكّلم زرادشت , و(هذا هو الإنسان).
في (هكذا تكلم زرادشت) ثمة إشارات واضحة إلى هيرقليطس، إلى بعض من أحداث حياته، والى نوعه الشخصي النادر، والى فكره أيضا، يقول نيتشه: مستهلا كتابه، بمقطع، لا بدّ لنا من استحضار "هيرقليطس" على انه المقصود به.
"لما بلغ (زارا) الثلاثين من عمره، هجر وطنه وبحيراته، وسار إلى الجبل، حيث أقام عشر سنوات, يتمتع بعزلته وتفكيره إلى أن تبدلت سريرته".
وفي موضع آخر, يقول نيتشه:"وما عاش رجال الحق إلاّ في القفار، يسودونها بانطلاق تفكيرهم في مجالها الوسيع"
ثم يكشف نيتشه بعد ذلك – في عبارات أخرى – عن صفات شخصية لبطله، فيقول "لقد تغلب هذا العظيم على الجبابرة، وتوصل إلى حل الرموز، ولكن عليه الآن، أن ينقذ هؤلاء الجبابرة وهذه الرموز، ليحولها إلى طفولة إلهية" - و "هذا ما يعلمنا إياه هذا الحكيم بأشد الرموز إشراقا"
ومن الجدير بالكر هنا أن هيرقليطس كان قد هجر موطنه يافعا وهرع الى الجبل معتزلا وتبدلت سريرته واطلق تفكيره الواسع هناك وتوصل الى حل رموز الكون وحولها الى طفولة الهية كما يرد في احدى شذراته.
أما عن سبب عزلة زرادشت، فهو ذات السبب في عزلة هيرقليطس، يقول نيتشه: "وما قضي عليّ بالعزلة والانفراد، إلا لأنني تلفعتُ بالأنوار...يا لظلمة شمسي, ويا لشوقي إلى الاشتياق، ويا لشدة المجاعة في شبعي"
وحين يقرر زارا النزول إلى المدينة ليبشر بتعاليمه، فان ردة فعل أهل المدينة إزاء هذه التعاليم، هي ذات ردة فعل أهل (أفسوس) إزاء هيرقليطس، من حيث رفضهم لها، وإعراضهم عنه، وجهلهم بما يقول، يقول نيتشه: على لسان زارا "لقد تملّكهم الضحك, فهم لا يفهمون ما أقول" - "إنهم لا يفهمون كلامي فلست بالصوت الذي تتطلبه هذه الإسماع"
وعندما يفشل زارا في إيصال رسالته, كما فشل هيرقليطس، وقرر العودة إلى الجبال، يقول نيتشه مصورا هذه الحالة، ومذكّراً بطريقة لجوء هيرقليطس إلى مثيلتها: "اذهب من هذه المدينة يازارا فان مبغضيك فيها كثيرون، هنا يكرهك أهل الصلاح والعدل، فيرون فيك خطراً على عامة الناس".
ورؤية الخطر هذه من تعاليم هيرقليطس، قد تمثلت في شذرته عن نفي صديقه هيرمودورس من قِبل أهل أفسوس لأنه كان الأفضل بينهم, يقول هيرقليطس: "إنهم هم الذين نفوا هيرمودورس أفضل رجل بينهم قائلين: لن يكون بيننا رجل أفضل، وإلا فليكن الأكثر فعالية في مكان آخر، ومع أناس آخرين".
أما عن وجود ألفاظ الشذرات بنفس معانيها، في كتاب نيتشه، فنستحضر على سبيل المثال، هذا العدد المحدد منها، نموذجا لما نعتقد:
1 - يقول نيتشه: "ما كان أحد منهم فتش عن نفسه" "ولكنني تمكّنت من سبر أغواري ومعرفتها"
وهذا ترديد لشذرة هيرقليطس "لقد فتشت نفسي"
2 - يقول نيتشه "أنني أخاطبكم بالرموز"
ويقول هيرقليطس "إن الإله الذي يكشف عن وجهه في دلفي, لا يتكلم ولا يخبئ، انه يرمز فقط".
3 - وعندما يقرر هيرقليطس مسألة، نسبية المعرفة في عدد من شذراته كقوله: "إن مياه البحر هي الأكثر نقاوة وتلوثاً، إنها صالحة للشرب وحيوية بالنسبة للأسماك, ونتنة وسيئة بالنسبة للرجال".
يقول نيتشه في هذا المعنى: "كم من عمل أتـّشح بالعيب في بلد، رأيته مجللاً بالشرف والفخر في بلد آخر"
4 - وحين يقول هيرقليطس، متوعّداً أهل أفسوس، "بأن الصاعقة تحكم العالم"
يقول نيتشه: "ما أنا إلا منبئ بالصاعقة"
5 - وحين يقرر هيرقليطس "إن الصراع هو العام، وان التنافر عدالة" ثم يوبخ هوميروس ويقول "انه يستحق الطرد" لأنه تمنى أن يزول "الصراع بين الآلهة والبشر".
يرى زرادشت نيتشه، ضرورة الصراع وعدالته، إذ يقول "إذا كنتَ ترى المعارك والحروب شروراً، فأعلم يا أخي أنها شروط لابدّ منها"
6 - وحين ينكر هيرقليطس مساوئ الديمقراطية، وإمكان المساواة بين الناس، في قوله "إن رجلاً واحداً يضاهي بالنسبة لي عشرة آلاف رجل, إذا كان الأفضل".
يقول زرادشت نيتشه "لا مساواة بين الناس، وانه من الواجب ألاّ يتساوون"
"لا مساواة بين البشر، هذا ما يهتف به العدل".
7 - يقول هيرقليطس "على محيط الدائرة تختلط البداية بالنهاية"
ويقول نيتشه "على مبدأ طريق المجد، تتداخل الذرى بالمهاوي"
8 - يقول هيرقليطس "الخير والشر هما واحد"
ويقول زرادشت "إن أعظم الشر يبدو جزءاً من أعظم الخير"
9 - يقول هيرقليطس "إن المرض يجعل الصحة ممتعة، والجوع شبع، والتعب راحة"
ويقول زرادشت "إن الألم لذة، واللعنة بركة"
10 -وحين يمجّد هيرقليطس أولئك الذين يموتون في المعارك بقوله "أولئك الذين يموتون في المعارك يكرمهم الآلهة والرجال"
ويقول أيضا: "إن الميتات العظيمة تحوز على مصائر عظيمة"
يقول زرادشت "تلك هي الميتة الفضلى، تليها في المراتب ميتة من يسقط في المعركة، وهو ينشر عليها عظمة روحه" -
11 - وحين يقول هيرقليطس "إن الأطباء يقطعون، ويحرقون ويعذبون المرضى بكل الطرق"
يقول نيتشه "أعن نفسك أيها الطبيب، لتتمكن من إعانة مريضك"
12 - وحين يصوّر هيرقليطس ندرة الذهب بقوله "إن الذين يبحثون عن الذهب يحفرون الكثير من التراب"
يقول نيتشه: "قولوا لي لماذا أصبح الذهب ذا قيمة أليس لأنه نادر"-
بقي ان أضيف أن قراءة أكاديمية موجهة بهذه الغاية ستجد الكثير الكثير مما تبحث عنه.