نيتشه.. الجنون وأوهام العظمة

نيتشه.. الجنون وأوهام العظمة

حميد المختار
ان الباحث في فلسفة نيتشه يرى امورا يستحيل تحقيقها، ذلك انه ذهب بعيدا في محاولة تقديم نفسه فها هو يقول (ان من يعرف كيف ينعم بانفاس كتابي يشعر بانها انسام السمو ونفحات القوة). اما عن اسلوبه فلنقرأ ما كتبه عن نفسه ايضا (ان في اسلوبي رقصا ورماحا وطعنا ولغتي سخية كريمة وعصبية عنيفة)..

انه اسلوب لاعب السيف بسرعة لمعانه، ولكننا باعادة قراءته نشعر بان شيئا من بريق اسلوبه يكمن في مبالغته والى سهولة بالغة في قلب كل معادلة مقبولة. اما عند دراسة افكار نيتشه فاننا نجدها متوازنة ولكنها بعيدة عن الدقة تشوبها المبالغة وتشوهها.. ذلك انه لا يحاول اقامة الدليل بل يعلن افكاره ويكشفها ويقدم لنا خيالا لا منطقيا ويظفربنا بخياله اكثر من منطقة، وهولا يقدم لنا فلسفة وشعرا فحسب بل ايمانا جديدا واملا جديدا وتكشف افكاره واسلوبه عن انه ابن الحركة الرومانتيكية، وفي اعتقاده ان ما ينبغي ان يطلبه الفيلسوف من نفسه اولا واخيرا هو ان يسود عصره بنفسه، لقد اعتاد نيتشه ان يهاجم من يدين لهم بفلسفته، فقد هاجم افلاطون الذي استمد الكثير من افكاره، والواقع ان فلسفة نيتشه الاخلاقية والسياسية هي فلسفة افلاطون، وقد فشل تماما في ان ينفذ بعمق الى الروح اليونانية ومما لا شك فيه ان تفكير نيتشه قد استهلك حياته قبل اوانها،
كما ادت المعركة التي خاضها ضد عصره الى اختلال توازن عقله. لقد اعلن حربا شعواء في اواخر ايام انتاجه على الجميع من فاغنر الى السيد المسيح وغيرهم وبعد انهيار عقله بدت العصبية جلية حتى في ضحكته. ولا شيء يصور لنا مدى ما وصلت اليه حالته اكثر من قوله (ربما اعلم اكثر من غيري السبب في ان الانسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك لانه وحده الذي يتألم اشد الالم الذي اجبره على اختراع الضحك.) ولقد اثر مرضه وضعف بصره الذي اوشك ان يقترب به من العمى على انهيار عقله، واخذت تطارده اوهام العظمة والاضطهاد، فقد ارسل احد كتبه الى صديق له مرفقا بكلمة يصف فيها الكتاب بكونه اعظم كتاب ظهر في العالم، وملأ كتابه الاخير بالاطراء والثناء على نفسه. لقد بالغ كثيرا في اطراء نفسه عندما قال: ان المستقبل سيقسم الماضي الى ما قبل نيتشه وما بعده، ولكنه افلح في تقديم قيمة لم تكن معروفة علميا في الاخلاق. الا وهي الارستقراطية. فكتب اجمل النثر في ادب القرن الذي عاش فيه، بالاضافة الى دعوته الى الانسان الاعلى المتفوق على الانسان الحالي، لقد كانت المرارة تطبع اسلوبه لكنها مرارة مؤمنة بأخلاص كبير لقد نفذت افكاره عبر سحب العقل الحديث وانسجته بسرعة البرق وشدة الريح فقد صفا سناء الفلسفة الاوربية وراق جوها وزاد الانتعاش بنسيمها بعد ان كتب فيها نيتشه، اما عن تقدير الناس له فقد جاء متأخرا جدا فقد وصلته تقديرات مغارب عصره المضيئة عندما كان نيتشه يعيش في ظلام العمى والعقل وفقدان الامل والرجاء.. كانت الضربةالكبيرة التي حلت بنيتشه هي التي وقعت له في تورين عام 1889، لقد كانت ضربة الجنون وراح يتعثر في عماه في غرفته واخذ يكتب رسائل بدا فيها الجنون واضحا، فارسلوه الى مستشفى الامراض العقلية لكن سرعان ما جاءت امه العجوز لتأخذه معها ليعيش تحت عنايتها. وبقي معها الى ان توفيت واخذته اخته ليعيش معها. لقد صنع له احد النحاتين تمثالا رقيقا ظهر فيه ذلك العقل الجبار الذي امتاز به سابقا ضعيفا محطما، ومع ذلك فان المرحلة الاخيرة من حياته لم تكن كلها شقاء، فقد طبع السلام والهدوء الذي حرم منه دائما حياته الان، لقد رحمته العناية الالهية بعد ان صار مجنونا، وفي مرة سمع اخته تبكي وهي تنظر اليه ولم يستطع ان يفهم السبب في دموعها وسألها (لماذا تبكين يا اليزابيث هل انت حزينة؟) وفي مرة سمعها تتحدث عن الكتب فاضاء وجهه الشاحب وقال: في تألق وبهجة (آه فقد كتبت انا ايضا كتبا حسنة)ومرت لحظة التألق.
لقد كانت لآراء نيتشه دورها المهم في الاحداث التاريخية الضخمة ما بين الحربين العالميتين وما تلاهما من سقوط او صعود لايديولوجيات شتى. ويكفي ذكر اسم الفيلسوف (شبنغلر) صاحب كتاب تدهور الحضارة الغربية لنعرف مبلغ اثر نيتشه في العصر الحاضر وما كان التفكير ليقود (شبنغلر) الى مؤلفه الذي اثار به ضجيجا في عالم الفكر لو لم يحرص على اقتفاء خطوات استاذه نيتشه. والدارسون لاعمال نيتشه فئة قليلة جدا، واقل منها المدركون لمراميها ولكن هناك من يعكفون على دراسته باعتباره انموذجا لحالة من حالات (جنون الهذاء) فتجد دراساتهم صدى ابعد بين جمهور القراء من اراء ومبادىء نيتشه نفسها. فالمشكلة انه ليس هناك من يفهم الرجل ككل. بدلا من ان يستخرج معلومات زائفة استنادا الى شذرات من حياته وافكاره.
لقد اعتبر نيشته شخصية عبقرية فذة تقف شامخة عبر التاريخ والاجيال وبصرف النظر عما قيل في فلسفته فقد اقام ثورة هائلة في القيم والاخلاق كان لها صداها واثرها الفعال في المانيا خلال العصر النازي واستغلها هتلر في تعبئته للشعب الالماني واثارة نار الحرب العالمية الثانية، فنيتشه هو الداعي الى فلسفة القوة والانسان الارقى والكاشف عن اعمق اغوار النفس البشرية في جرأة وجسارة وهو مقسم الاخلاق الانسانية الى اخلاق سادة واخلاق عبيد، ونادى بملء الحياة الارضية وجعلها مثمرة لانه ليس امامنا سواها، هكذا ينظر هو وهكذا اراد ان يقول معلنا انه الفيلسوف الوحيد الذي عليه ان يحدد مسار التاريخ البشري للكائنات الارضية.