د. الحبيب المنجي
نعرض في هذه الدراسة جولة في فكر الدكتور محمد أركون, صاحب أحد المشاريع الفكرية و المعرفية, و الذي استهدف بالأساس فتح آفاق واسعة للفكر العربي الإسلامي عبر تطبيقاتها لمنجزات و مناهج العلوم الإنسانية الحديثة على دراسة الإسلام.
و ظل الدكتور محمد أركون يسعى جاهدا إلى ترسيخ المنهجية التاريخية الحديثة في الفكر الإسلامي, لأنه يرى أنها السبيل الوحيد لتحقيق الفهم العلمي للواقع التاريخي للمجتمعات الإسلامية. و هذا من شأنه إلغاء كافة التعصبات المذهبية و العرقية لاسيما بوضعها على محك الفهم العلمي.
احتار النقاد و الباحثون في أية خانة يصنفون محمد أركون, لكنهم أجمعوا على أنه يدعو إلى تجديد الفكر العربي الإسلامي.
كيف يرى محمد أركون نفسه؟
ينتمي محمد أركون إلى جيل ميشيل فوكو و بيير بورديو و فرانسوا فوريه و هم الذين أحدثوا ثورة ابستمولوجية و منهجية في الفكر الفرنسي. و محمد أركون أحدث ثورة مشابهة في الفكر الإسلامي و العربي, مما ولد بينه و بين الاستشراق الكلاسيكي – الذي ظل مخلصا للمنهجية الفللوجية- صراعا بينا.
و محمد أركون قام بدراسات ألسنية و تاريخية و أنثروبولوجية و حاول المزج بين عدة مناهج طبقها على التراث العربي الإسلامي. و هي نفس المناهج التي طبقها علماء فرنسا على تراثهم اللاتيني المسيحي الأوروبي. و أركون تأثر في البداية بريجيس بلاشير المحترف في فقه اللغة (الفللوجيا) و تعلم منه منهجية تحقيق و تدقيق النصوص و مقارعتها ببعضها البعض و دراستها على الطريقة التاريخية الوضعية, و لم يكتف بذلك لا سيما و أن توجهاته كانت متعددة كنتاج لفضوله الشخصي و مطالعاته الواسعة. و هو طالب بالجزائر تأثر بلوسيان فيفر, لاسيما بمنهجيته في علم التاريخ.
و هكذا اهتم أركون بالتاريخ الوقائعي و التاريخ الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي. كما أدخل في دراسته منهجية علم النفس التاريخي بالإضافة إلى علم الاقتصاد.
و في ستينيات القرن الماضي اهتم بمنهجية الألسنيات و على ضوئها قرأ المصحف و النصوص الإسلامية الكبرى, السيرة النبوية, نص سيرة علي للشيخ المفيد, نهج البلاغة, رسالة الشافعي, نصوص ابن رشد, ابن خلدون و آخرون.
فلا يبدو أن محمد أركون تأثر بمفكر بعينه, إلا أنه لا مناص من اعتبار استثناء واحد بالنسبة لأبي حيان التوحيدي, إذ يعتبره أخاه الروحي وحدتهما ميزتان :
1- التمرد الفكري ضد كل قسر أو إكراه على العقل و الفكر
2- رفض الانفصام بين الفكر و السلوك و بين العمل الفكري و المسار الأخلاقي العملي,
و شاءت الظروف أن عاش كل منهما و عاين سوء فهم معاصريهما لهما. و في نظر محمد أركون يمثل أبو حيان التوحيدي إحدى اللحظات الأساسية في تاريخ الفكر الإسلامي و العربي. فالتوحيدي هضم الثقافة الفلسفية السائدة في القرن الرابع الهجري, بما فيها الثقافة الصوفية, بالإضافة إلى براعته في اللغة. كما لاالعصر يمكن القول أن أبا حيان التوحيدي كان يتميز بالقلق الابستمولوجي (المعرفي) مما جعله يمر باستمرار من علم إلى آخر. كما لا ينبغي نسيان كذلك شجاعته و جرأته’ فقد تجرأ على كتابة مؤلفه مثالب الوزيرين ضد الصاحب بن عباد و ابن العميد الوزيرين المشهورين صاحبي السلطة و السطوة, و كانت شجاعته تكاد تكون انتحارية.
و كذلك محمد أركون تميز بشجاعته, لكن من صنف آخر, و هي شجاعة التطرق إلى اللامفكر فيه. و لفهم موقفه من الاستشراق لابد من الرجوع إلى أركون الطالب بالجامعة الجزائرية و هو يدرس اللغة العربية و آدابها في وضع قاس مطبوع بسيادة الثقافة الغربية الآتية إلى الجزائر لتحضيرها و إدخالها في حلبة الحضارة حسب ادعاء المستعمر الغازي. و منذ ذلك الوقت تبرعمت في نفس أركون بدايات الرفض للاستشراق بكل مناهجه و طرائقه. هذا الرفض تولد عنه التمرد ضد المجتمع و حالته و ضد الظلم السائد فيه. و آنذاك سيطرت على ذهنه الرغبة في الفهم و المزيد من معرفة الواقع و تمحيص الوضع.
لقد امتلكه سؤال شكيب أرسلان : لماذا تأخر المسلمون و تقدم غيرهم؟ و لازمه آخذا في الإلحاح عليه و طالبا منه الجواب, و ربما هذا ما يفسر عدم انخراط محمد أركون في النضال السياسي على غرار جيله, إذ أنه اختار الطريق الفكري للتحرير, و التمرد الفكري عوض التمرد السياسي لأنه رغب في التحرير الفكري و العقلي للجزائر و لعموم العرب و المسلمين.
و منذ ستينيات القرن الماضي, عندما أصبح مدرسا بجامعة السوريون اتبع منهجا مختلفا جذريا لمنهج المستشرقين و شرع في محاولاته التحليلية المعتمدة على المقارنة الواسعة سعيا للخروج من الإطارات الضيقة المرسومة من طرف الارثودوكسية, و هذا ما فعله مع الفكر الإسلامي.
مشروع أركون
لقد هدف محمد أركون إلى بناء "إسلاميات تطبيقية" و ذلك بمحاولة تطبيق المنهجيات العلمية على القرآن الكريم, و من ضمنها تلك التي طبقت على النصوص المسيحية, و هي التي أخضعت النص الديني لمحك النقد التاريخي المقارن و التحليل الألسني التفكيكي و للتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى و توسعاته و تحولاته.
و قد طرح أركون هذا المشروع في الدراسات الإسلامية لكي يهتم به الباحثون العرب و المسلمون عموما, لاسيما و هو مشروع متصل بالبحوث في النص الديني بصفة عامة. انه مشروع مبني بالأساس على التعرف على الظاهرة الدينية حتى تحل الظاهرة الدينية في أفق أوسع من الأفق الإسلامي. لاسيما و أنه يتم الاكتفاء بالنظر إلى تاريخ الإسلام كدين, كإطار فكري دون مراعاة ما حدث و ما يحدث في الأديان الأخرى.
و مشروع أركون يفتح بابا أوسع لتاريخ الأديان إذا انطلقنا من القرآن و من منطقه الذي يطرح قضية تاريخ النجاة, أي كيف نعيش حياتنا كمؤمنين متلقين كلام الله تعالى حتى نطبقه في حياتنا قصد النجاة من العذاب. و معلوم أن فكرة النجاة موجودة في التوراة مع موسى و الأنبياء الذين ذكرهم القرآن. و هذا يدعونا إلى الاهتمام بالتاريخ الروحاني الذي يختلف عن التاريخ السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي. و التاريخ الروحاني يتعلق بوجوب كلام الله على البشر.
و يؤكد محمد أركون أن المسلمين مازالوا لم يمار سوا بعد تاريخ الأديان, لأنه غير موجود لديهم. كما يشير إلى أن ما كتبه الشهرستاني عن الملل و النحل, و ما كتبه ابن حزم عن الملل و النحل تخلى و أعرض عنه المسلمون, إذ ركزوا كثيرا على ما ورد في تاريخ الإسلام أكثر مما ركزوا على ما ورد في القرآن نفسه. فهناك, حسب أركون, فرق بين القرآن الذي هو كلام الله و نزل إلى الجميع و ما قام به الفقهاء المسلمون من جهد نعتمد عليه لفهم الإسلام, و هو بطبيعة الحال فهم متغير الظروف التاريخية و الظروف الثقافية في المجتمع و خاضع أيضا للقوة السياسية العاملة في المجتمع.
ويركز محمد أركون على ضرورة تفهم القرآن-كلام الله- و الذي يفتح للبشر – وللمؤمنين بالخصوص- آفاقا للتدبر و التفكر و التفقه و التعقل. فكم من مرة تكررت "أفلا تتدبرون" و "أفلا تعقلون" في القرآن الكريم؟ لكن هذا النوع من التفكير المتوسع تم تهميشه و ضيقت مجالاته.
و عبر منهجه تمكن أركون من تكوين فكرة دقيقة عن تطور تاريخ الإسلام. و في هذا الصدد يقر أركون بوجود مذاهب متعددة ظهرت في الإسلام أثناء تاريخ الدولة الأموية و الدولة العباسية و هناك حرية منحت في أوائل الإسلام (في القرون الأربعة الأولى من الهجرة) حيث كان المسلمون يتمتعون بحظ لا بأس به من حرية التفكير و من حرية المناظرة و بفضل هذا تعددت المواقف الفكرية و بذلك تكونت مذاهب عديدة في علم الكلام و في الفقه و غيرها من العلوم. و هناك اتجاهات عديدة لأن القرآن مفعم بمعان لا يمكن تحديدها في اتجاه واحد فقط. ثم أن هذه المذاهب تطورت في ظروف سياسية و السياسة دائما تلعب دورها في توجيه البحث في الأمور الدينية, لأن الدولة اهتمت دائما بالدين حتى تستمد منها مشروعيتها كسلطات, و قد أنتج هذا الاستعمال السياسي للجانب الديني مشاكل عديدة, و هذه المشاكل يجب أخذها بعين الاعتبار و إخضاعها للدراسة, لاسيما فيما يتعلق بالتطرف لمعرفة كيف و تحت أي سيطرة أصبحت بعض المذاهب متطرفة و منفصلة.
القطيعة المعرفية
فيما يخص مسألة المعرفة يقابل محمد أركون بين موقفين, الأول ينظر إلى الوراء صوب العصور الوسطى و يدافع عن القيم الروحية لتلك العصور. و الثاني يحاول استخراج الدروس و العبر من الثورة الابستمولوجية الحاصلة مع الثورة الفرنسية
و بالنسبة لهذا الموقف الأخير هناك قطيعة أحدثتها هذه الثورة, و تلك القطيعة ذات طبيعة سياسية بالأساس. فالثورة الفرنسية حدث سياسي ذو طبيعة ابستمولوجية في نظر محمد أركون, و القطيعة السياسية تحققت بعد تحقيق القطيعة المعرفية
ففي نظره, إن تحرير الشرط البشري مسألة حديثة العهد رغم وجود بعض العناصر و البذور في التراث الإسلامي و باقي التراثات التوحيدية. فأنظمة الفكر لها تاريخ و صيرورة, و لها انطلاقة و منشأ و مسيرة تطور و صيرورة تغيير نحو التقدم أو الانحطاط و الاحتضار, و هذا قانون الحياة و الكون. و المطالبة بإعادة قراءة النصوص الدينية الأساسية من الارتكاز عليها لا يعني في نظر محمد أركون الاستخفاف بتجارب و عبقرية السلف أو إهمال تعاليم النصوص الكبرى و جهود المفسرين, و إنما ما يجب التوق إليه من إعادة القراءة هاته هو الأخذ بعين الاعتبار مسألة التغيير الحاصل في مجال المعرفة البشرية و التاريخ البشري
و يعتبر محمد أركون أنه لا يمكن نكران وجود مواجهة حاصلة بين النصوص الكبرى التي تبدو متعالية لا تتغير و لا تتبدل و بين التاريخ البشري المتغير و المتبدل بطبيعته. و لعل من أبرز وجوه هذه المواجهة أن الفكر الإسلامي السائد حاليا يرفض كل تاريخية, انه في نظر أركون لا يزال يكذب التاريخ و الواقع رافضا أن يأخذهما بعين الاعتبار حيث يقف متعاليا عن الواقع.
ففي نظر محمد أركون لا يجب الاكتفاء بالنظر إلى الدين فقط في مبادئه السامية و العالية و إنما وجب النظر أيضا إلى التاريخ و كيف تم تطبيق الدين؟ و كيف تم فهمه؟ و كيف تمت ممارسته؟
كيف يعرف الغرب الإسلام؟
يتساءل محمد أركون هل يمكن التحدث عن وجود معرفة علمية عن الإسلام في الغرب؟ و يعتبر هذا التساؤل بمثابة تساؤل عن صلاحية و موضوعية في النظرة المتوفرة للغرب عن الإسلام.
فلا يخفى على أحد أن الحداثة التي عرفها العالم مؤخرا قد مست بشكل أو بآخر ببعض المصالح الحيوية للغرب في جملة من مناطق العالم. و كانت و لا تزال ردود الفعل التي تثيرها قد أنعشت المتخيل الغربي السلبي على الإسلام و ضخمته أكثر من أي وقت مضى
و هذا المتخيل الغربي المشكل تجاه الإسلام تغدي منذ خمسينيات القرن الماضي من كل قوة و هيمنة الإعلام, لاسيما بسبب تلاحق الأحداث العنيفة لحركات التحرر الوطني و الحركات الاحتجاجية و التمردية السائدة في المجتمعات الإسلامية آنذاك.
لقد حصل خلط خطير في تشكيل المتخيل الغربي عن الإسلام, خصوصا و أن كل المشاكل ذات الجوهر السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي ألحقت جميعها بالإسلام. و هكذا راح الخلط بين الإسلام كدين و الإسلام كإطار تاريخي لبلورة ثقافة و حضارة معينة يتأبد و يتعقد أو يتشعب
و في هذا الصدد ركز محمد أركون على ضرورة فهم المأساة التاريخية التي تتخبط فيها الشعوب الإسلامية منذ أن اصطدمت بشكل مفاجئ و عنيف بالحضارة المادية و الحداثة العقلية. فلا الثورة الاشتراكية و لا الثورة الإسلامية أتيح لهما أن تحظيا بمرحلة تحضير و استعداد كافية كما حصل للثورة الفرنسية في القرن 18. إذ لم يمهد لهما عن طريق حركة ضخمة من النقد الفلسفي و العلمي للتراث الديني, ثم لنقد الممارسة السياسية لأنظمة الثقافة الموروثة و لمشكلة المعرفة بشكل عام. و بذلك تراكم اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي و العربي.
في حين أن الغرب كان قد انخرط منذ ستينيات القرن الماضي في عملية البحث عن أشكال جديدة للحداثة, آنذاك فعل العالم الإسلامي العكس, أدار ظهره للحداثة, بل دخل في مرحلة استخدام الإسلام كأداة لتمويه التصرفات و المؤسسات و النشاطات الثقافية و التعليمية المستلهمة من قبل النموذج الغربي.
العلمانية و الإسلام
يعتبر محمد أركون أن العلمانية مشروع أفرزته المجتمعات الغربية, و بواسطتها انتقل المجتمع الغربي إلى التقدم و الحداثة. و العلمانية في تصور أركون لا تعني القضاء على الدين و إنما وضع حد للغزو الذي يقوم به الخطاب العقائدي للمجتمع. و يرجع أركون أسباب نجاح العلمانية في الغرب إلى ثلاثة أمور
القطيعات الحاصلة في نظام الفكر
دور الطبقة البرجوازية التجارية
الثورة الماركسية-اللينينية التي قامت ضد الطوائف الدينية
و قد حسم الأمر في الغرب باتخاذ منحى نضالي ضد رجال الدين و السلطة الدينية. و كانت مغالاة في العلمانية إلى درجة استبعاد الدور الديني.
و العلمانية و الحرية مفهومان مرادفان لدى محمد أركون. كما يرى أن الإسلام بذاته ليس مغلقا في وجه العلمانية, و لقد شهدت المجتمعات الإسلامية, في نظره, تجارب علمانية عبر التاريخ. لقد عرفت القرون الأربعة الأولى للهجرة حركة ثقافية مهمة استطاعت الخروج على القيود التي فرضتها السلطة الدينية.
فالمعتزلة عالجوا مسائل فكرية أساسية انطلاقا من ثقافتهم المزدوجة المرتكزة على الوحي الإسلامي و الفكر اليوناني. كما أدخل المعتزلة بعدا ثقافيا و لغويا في طريقة طرحهم مسألة خلق القرآن و اعترفوا بمسؤولية العقل و دوره في فهم النص الموحى به و امتلاكه. إلا أن الأمر آنذاك حسم لصالح الخط الأشعري الممثل للخط الرسمي
كما يرى أركون أن المجتمع الإسلامي عرف العلمانية قبل المعتزلة عندما استولى معاوية على السلطة السياسية, و بعد انتصاره خلع عليه رجال الدين رداء الشرعية الدينية. و بذلك تشكلت ايديولوجيا التدبير التي تعطي للحاكم الحق في كل شيء باسم الدين.
و يؤكد أركون أن هذا الأمر ليس إلا عملا واقعيا لا علاقة له بأية شرعية غير شرعية القوة. كما يقر أركون على أن ما يشاع من أن الإسلام لم يعرف التفريق بين الدين و الدنيا (أو بين الروحي و الزمني) قول خاطئ
و في هذا الصدد يتأسف أركون لكون المجتمعات الإسلامية و العربية لا تزال في عموميتها ترفض العلمانية و تجهل معناها الايجابي. و بذلك يتم قمع, بشكل أو بآخر, كل من حاول اتخاذ موقف حر متفتح على المعرفة, و ذلك منذ المعتزلة إلى ابن رشد إلى يومنا هذا
لكن محمد أركون يرى أن المجتمعات الإسلامية سائرة نحو العلمانية من غير أن تدري, و ذلك بسبب غياب التفكير الفلسفي و التحليل الثقافي الحديث.
الروابط بين الإسلام و العلوم و الفلسفة
من المعروف أن العلوم لم تكن مفصولة عن الفلسفة عند الإغريق و العرب في القرون الوسطى. فالفيزيقا عند أرسطو كانت مرتبطة بالميتافيزيقا, و الطب كان يمثل جزءا من الفلسفة كما أكد على ذلك ابن سينا في كتب الشفاء, كما أن جابر ابن حيان أكد على ارتباط الكيمياء بالفلسفة.
كما أنه لا يبدو أن البحث العلمي قد عانى من عراقيل دينية في المجال الإسلامي. فالقرآن حث على العلم و المعرفة لا تفعل إلا أن تزيد من إيمان المسلم و تقويه, كما أنها تضيء له الإشارات الرمزية و العلامات الواردة في القرآن الكريم.
فمختلف العلوم شهدت نموا و ازدهارا عند العرب راح الغرب اللاتيني المسيحي يستفيد منها و يغترف منها منذ القرن الثاني عشر الميلادي وفي واقع الأمر, يقول أٍركون, إن توقف هذه الحركة الكبرى للمعرفة العلمية عائد ليس إلى سلطة الضبط و الهيمنة اللاهوتية و إنما هو عائد إلى التغير الذي أصاب الأطر السياسية و الاجتماعية للمعرفة في العالم الإسلامي بدءا من القرن الحادي عشر و الثاني عشر الميلادي.
فالثقافة العربية الإسلامية المزدهرة في إطار الإمبراطورية الأموية ثم العباسية كانت مرتبطة بالحياة الحضرية (دمشق, بغداد, أصفهان, القاهرة, حلب, القيروان, فاس, قرطبة...), و كان التطور يتم في ظل البلاطات. و لكن بدءا من القرن الحادي عشر راحت الأخطار تحدق بحياة المدن و تهددها بسبب المحيط البدوي غير المسيطر عليه جيدا. و هكذا تراجع البحث العلمي شيئا فشيئا ليترك الساحة خالية للخطاب التعبوي و التجييشي لايديولوجيا الكفار قد لاحظ أركون أنه كلما تقوت هذه الايديولوجيا و اشتدت تقلصت المكانة المخصصة للفكر العلمي و النقدي. و في نظره سيطرت ايديولوجيا الكفاح هاته منذ الصليبيين و حتى اليوم (الصراع العربي الإسرائيلي و الغرب) و بالتالي تقلصت أهمية الفكر الحر في الساحة العربية و الإسلامية إلى درجة مخيفة.
و في نظر أركون, لكي يقاوموا الحملات الصليبية على فلسطين و هجمة العشائر التركية و المغولية لزم العرب التجمع حول إسلام ارثودكسي و دغمائي صارم, لكنه فعال ايديولوجيا من حيث التعبئة و التجييش. و عندئذ بدأ الدين الشعبي ينتشر في الأرياف و ما انفك هذا التوجه يتفاقم ضمن خط التقلص العقلي و ضيق الآفاق, ثم ضمن خط التشدد حتى القرن التاسع عشر. و بعد ذلك ظهرت الحركة السلفية (الإصلاحية) في وقت كانت القطيعة التاريخية للمسلمين مع التراث العلمي و الثقافي قد حصلت و تر سخت تماما. و هكذا راح الحنين للمجد الضائع لا يترك مكانا للبحث العلمي و النقد البناء. ثم جاءت الايديولوجيا القومية في القرن 20 لقيادة النضالات التحررية
و هكذا ظل تاريخ العلوم بشكل خاص المجال الأقل اكتشافا و دراسة من كل جوانب التراث.
الأصول الإسلامية لحقوق الإنسان
مازالت نظرة الغرب للإسلام تعتبر أن الدين الإسلامي يرفض الحداثة و حقوق الإنسان و يشجع العنف و الإرهاب. و لقد ساهم المثقفون المسلمون في ترسيخ هذه النظرة, على الأقل لكونهم لم يعملوا فعلا و فعليا على تفنيدها.
و في واقع الأمر فان العالم العربي و الإسلامي استفاق من نومه التاريخي على الأمجاد الغابرة و راح يعاين تخلفه عن الركب بعد اكتشافه أو إعادة اكتشافه لحجم الهوة التي تفصله عن الغرب على صعيد التقدم المادي و الصناعي و التكنولوجي و على صعيد الفكر و العلم و قيم المجتمع و الحريات و حقوق الإنسان.
لكن الإسلام عمل على تأسيس أرضية لحقوق الإنسان و منذ بداية البدايات. فالله خلقنا أحرارا و لا يمكن قبول العبودية لخدمة أغراض مهما كانت سياسية أو غيرها. بل إن البوادر الأولى لحقوق الإنسان متضمنة في الديانات التوحيدية (اليهودية و المسيحية و الإسلام). إلا أن البشر انحرفوا عنها بسبب صراعات التاريخ أو فسروها بشكل مغلوط و قسري و ضيق.
فمسيرة البشر عبر التاريخ مليئة بالصراع و التنافس و التناحر على السلطة و الثروة و السيطرة و النفوذ. و إذا كان لابد من الاعتراف أن حقوق الإنسان و المواطن بالصيغة المعلن عنها من طرف الثورة الفرنسية سنة 1781 تمثل طفرة نوعية في تاريخ البشرية, فهناك رأي يقول أن حقوق الإنسان بالمعنى الحديث المتعارف عليه كانت موجودة في الإسلام منذ قرون و بشكل كامل و ناجز.
و لقد جاء في الإعلان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان المعلن عنه سنة 1981 أن هذا الإعلان قد بلور من قبل كبار علماء المسلمين و أساتذة القانون و ممثلي مختلف حركات و تيارات الفكر الإسلامي. في حين أن المواد الثلاث و العشرين التي تشكل هذا الإعلان ترتكز على الآيات القرآنية و الحديث النبوي.
و من المبادئ التمهيدية المرتكز عليها نجد :
- أن الإسلام قدم للبشرية قانونا مثاليا لحقوق الإنسان, و ذلك منذ أربعة عشر قرنا من الزمن
- حقوق الإنسان هذه متجذرة و منغرسة في القناعة الراسخة بأن الله عز و جل هو وحده مؤلف القانون و أصل كل حقوق الإنسان.
مجلة وجهات نظر عدد (52) 2008