محمد اركون.. والعلمنة المنفتحة

محمد اركون.. والعلمنة المنفتحة

مهدي النجار
بعكس أولئك الذين انخرطوا كليا في مسار الثقافة التقليدية العربية الإسلامية فشكلوا عقبة كأداء في طريق أي توجه نحو الحداثة أو الاندراج في ثقافة الألفية الثالثة من عصرنا ،الذين يرفضون بشكل متشدد تصحيح مسارهم أو العودة النقدية علي ذاتهم ،

وكذلك عكس أولئك الذين أداروا ظهورهم للثقافة العربية الإسلامية وتعاملوا معها بتعال وعنجهية بحجة انشغالاتهم الثقافية بمواضيع المعاصرة ،عكس أولئك جميعاً،نجد محمد اركون يسعي مناضلاً ليحقق موقعه المتمايز في ساحة المعرفة ،فلا هو في الجهة الإسلامية التقليدية،
ولا هو في الجهة الحداثوية،انه يحاول أن يحفر له عن موقع خاص مستقل يحترم قواعد البحث العلمي ويحمل هَم المجتمعات الإسلامية في آن معاً، وهو موقع صعب لأنه يتعرض للهجوم من كلتا الجهتين.
إن انشغالات اركون في كل ما ينظر له (انظر مثلاً كتبه:الفكر الإسلامي نقد واجتهاد/أين هو الفكر الإسلامي/نزعة الإنسية ،الصادرة عن دار الساقي ـ لندن،وكذلك:نقد العقل الديني،دار الطليعة ـ بيروت)هو مساعدة الثقافة الإسلامية علي الاندراج داخل الحداثة،وهذا ما حاول أن يفعله في العصور الوسطي مفكرو الإسلام من أمثال ابن رشد وابن خلدون ومسكويه، ولكن عملهم توقف للأسف ولم يبق في الساحة إلا المتشددون "اليابسو الرؤوس" من الكتاب والمنظرين.
لا يمكن أن نفهم اركون وفكره إلا إذا عرفنا الموقع الذي يحتله أو ينطلق منه، فهو (كما يقدمه لنا مُترجمه المبدع ،المفكر هاشم صالح) يحتل موقعاً داخل الساحة الفرنسية كأستاذ في السوربون وكمدافع عن حقوق الجاليات الإسلامية المغتربة في فرنسا وشتي أنحاء أوربا وكممثل للتراث الإسلامي في أعلي مستوياته، يجعله هذا الموقع في حالة مواجهة مع الفكر الأوربي والمفكرين الأوربيين،وهؤلاء ـ أو معظمهم ـ ما إن تلفظ كلمة إسلام أو عرب أمامهم حتي يتخيلوا شبح التعصب واللاتسامح واحتقار المرأة وعدم الاعتراف بقيم العالم الحديث وبخاصة حقوق الإنسان.. الخ.بالطبع فان اركون لا يُنكر وجود أزمة بين التراث الإسلامي وبين العصر ،ولكنه ينظر إليها ضمن منظور تاريخي،فمن الواضح أن المجتمعات العربية الإسلامية تعاني تأخرا اقتصاديا وعلميا وتقنيا لا يتيح لها أن تحترم حقوق الإنسان كما كانت قد أعلنت من قبل الثورة الفرنسية عام 1789 أو من قبل الأمم المتحدة عام 1948 .ولكن ذلك ليس عائدا إلي تعصب أزلي أو ابدي لاصق بالإسلام أو بالعرب كإسلام وكعرب !! وإنما هو عائد بكل بساطة إلي التفاوت التاريخي بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الأوربية
إن تَقبل موضوع العلمنة (وكذلك سائر موضوعات الحداثة) أو رفضه،ليس صفة أزلية معلقة في الفراغ،وإنما هو خاصية مرتبطة باكرا هات المجتمع ودرجة تطوره المادي ومدي بحبوحته الاقتصادية أو عدم بحبوحته،ومدي مراجعته لتراثه بشكل نقدي وتنويري جذري أو عدم مراجعته.. الخ،فمفهوم العلمنة الذي فرضته الجمهورية الفرنسية الثالثة كان صارماً جداً وخاضعاً كلياً للدين الوضعي: أي عبادة العلم بدلاً من عبادة الدين التي كانت سائدة في أثناء سيطرة المسيحية،ويقصد اركون بذلك إن الحل الذي قدمته فرنسا لمشكلة العلمنة/والدين أصبح الآن قديماً،وهي تبحث عن صيغة جديدة للعلمنة،أي علمنة منفتحة علي كل أبعاد الإنسان بما فيها البعد الديني والروحي. وهذا لا يعني بالطبع التراجع عن المكتسبات السابقة للعلمنة، بمعني إن الحل لن يكون في العودة التقليدية إلي الدين.فهذا شيء غير ممكن وغير معقول،وإنما الحل ( كما يراه اركون)هو في البحث عن صيغة جديدة للعلمنة الروحية أو للإنسية الروحية من خلال الدراسة المقارنة لكل التجارب الروحية في كل المجتمعات البشرية،فقد أدت العلمنة الفرنسية ليس فقط إلي حذف تعليم الدين كعقائد دوغماتية ولاهوتية قروسطية (الشيء الذي يوافق عليه اركون تماماً)،ولكن أدت أيضا إلي حذف تعليمه كنظام ثقافي وتاريخي سيطر علي عقول البشر طيلة قرون وقرون.
إن الأمور الآن تغيرت بعد مرور أكثر من قرن علي ترسيخ العلمنة وأصبح تعديله مفهومها ممكناً دون أن تخشي فرنسا علي نفسها. أصبحت العلمنة واثقة من نفسها وراسخة الجذور لان الثقافة التي تحتضنها قوية جداً،وبالتالي فبإمكانها فتح هذه الإضبارة من جديد وإعادة النظر في حلول كانت قد اعتقدت إنها نهائية وكونية ،هذا في حين إنها كانت مرتبطة بظروف معينة لم تعد موجودة ،ظروف المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر والصراع ضد الاكليروس ومعاداته للحداثة وحقوق الإنسان والديمقراطية (هكذا نجد إن محمد اركون يتحدث من موقع متقدم حتي علي المجتمع الفرنسي، فما بالك بالمجتمعات العربية الإسلامية التي لم يتح لها إلي الآن أن تشهد حتي المرحلة الأولي من العلمنة) .
ُيفرق اركون في جميع كتاباته بهذا الصدد،بين العلمانية المنفتحة علي كل أبعاد الإنسان وبين العلمانية الوضعية (السائدة في فرنسا منذ القرن التاسع عشر) والتي اعتقدت أن المرحلة الدينية من تاريخ البشرية قد انتهت بمجيء عهد العلم،وبالتالي لا داعي للاهتمام بالدين أو دراسته منذ الآن فصاعداً. في رأي اركون أن الدين يشكل بعداً من أبعاد الإنسان ولا ينبغي أن يستبعد من مجال الدراسة.بالطبع فهو يتفق مع المنظور العلماني في إبعاد الطريقة التقليدية أو التبشيرية عن المدارس والجامعات لأنها تشحن النفوس وتلهب الحساسيات الطائفية بين التلاميذ(يهودي.مسيحي.إسلامي) أو حتي بين الدين الواحد(بين الكاثوليك والبروتستانت،بين السنة والشيعة..) ولكن لا يري أي مانع من دراسة الأنظمة الدينية واللاهوتية ضمن منظور تاريخي وعلمي مسؤول كما هو يفعل في جامعة السوربون،أو كما يفعل كبار الباحثين في مجال تاريخ الأديان في الجامعات الألمانية خصوصاً.
إن المفهوم المنفتح الذي يقدمه اركون عن العلمنة يضع الروح في أعلي مكان،ويقدس العاطفة الدينية المنزهة عن كل الأغراض. كل ما في الأمر هو فك الارتباط بين مؤسسة الدولة وبين المذاهب وطبقة رجال الدين، لان الدولة لجميع المواطنين وليست لأبناء هذه الطائفة أو تلك، لهذا المذهب أو ذاك.أنها لجميع أبناء المجتمع المدني دون تمييز.لقد أتاحت العلمنة لرجال الدين أن يستقلوا بأنفسهم في ما يخص الشؤون العقائدية والروحية ، وان يتفرغوا للبحث الحر في هذه الشؤون وتعميقها دون أن يخشوا من تدخل السلطة في شؤونهم،والواقع انه لا يمكن تشكيل مجتمع مدني متماسك ومتراص إلا بهذه الطريقة.من هنا سبب فشل معظم المجتمعات العربية الإسلامية الحالية في تشكيل المجتمع المدني الحديث وفي تفككها إلي فئات وطوائف وأعراق اثنيه ملتفة علي ذاتها ومغلقة علي الآخرين

كاتب عراقي راحل
عن كتاب افكار في الفلسفة
صدر عام 2004