الإسلام وأصول الحكم لايزال في الواجهة

الإسلام وأصول الحكم لايزال في الواجهة

اعتبر الباحثون كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبدالرازق أحد أخطر الكتب العربية التي صدرت في القرن العشرين، إن لم يكن أخطرها على الإطلاق. فقد أثار من العواصف ما لم يثره كتاب عربي آخر، ونشأت حوله نقاشات وجدالات لم تنشأ حول أي كتاب، باستثناء كتاب «الأدب الجاهلي» لطه حسين والمعروف أن طه وعلي عبدالرازق كانا صديقين.

وهناك من ينسب دورا لطه في صياغة بعض فقرات «الإسلام وأصول الحكم» والاثنان كانا من أنصار حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب ليبرالي كان يضم صفوة من المثقفين المصريين الذين كان على رأسهم أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد.
والكتاب ما زال إلى اليوم يطبع وتدور حوله سجالات بين مؤيد ومعارض. ولا شك أن له صلة بما يدور في حاضرنا العربي حول الإسلام وما إذا كان مجرد دين روحاني يحسن النأي به عن الصراعات الدنيوية السياسية والاجتماعية، مثله مثل الأديان السماوية الأخرى، أم أنه ليس كذلك، أي أنه دين ودنيا معا، وليس دينا روحانيا فقط لا غير كالمسيحية مثلاً.
وقبل التطرق إلى مضمون الكتاب نشير إلى أن مؤلفه علي عبدالرازق لم يكن مجرد كاتب محترف، فهو لم يكتب سوى هذا الكتاب الذي لا يزيد عدد صفحاته عن مائة صفحة إلا قليلا.. وعند صدور كتابه هذا كان قد تخرج من الأزهر وعين قاضيا في المحكمة الشرعية بمدينة المنصورة. كما أنه سليل أسرة عربية، فوالده حسن باشا عبدالرازق من أعيان الريف، وشقيقه مصطفى عبدالرازق عمل وزيرا للأوقاف وشيخًا للجامع الأزهر ومفتيا للديار المصرية.
كما ان الشيخ علي نفسه عين في الأربعينيات من القرن الماضي، وبعد ان كانت عاصفة كتابه «الإسلام وأصول الحكم» قد هدأت، عين وزيرا للأوقاف فالأسرة إذن من كرام الأسر التي ساهمت في بناء مصر الحديثة وبخاصة من الناحية الثقافية الإسلامية بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) وله كتاب عنوانه «تمهيد لدراسة الفلسفة الإسلامية» مازال مرجعا في بابه إلى اليوم.
عندما صدر كتاب علي عبدالرازق قامت القيامة في مصر، كان ذلك عام ١٩٢٥ وكان مصطفى كمال اتاتورك قد ألغى الخلافة الإسلامية في اسطنبول، وهي الخلافة التي طمع فيها الملك فؤاد في مصر وأراد أن تصل إليه، وقد ارتأى علي عبدالرازق في كتابه أن الإسلام لم يقرر شكلا معينا للحكم، لا الخلافة ولا سواها، فثارت ثائرة الملك فؤاد ورجاله على هذا النظر وأحالوا عبدالرازق للمحاكمة أمام هيئة قضائية مختصة في الأزهر.
أصدر الأزهر قرارا في القضية ناقش فيها علي عبدالرازق في أفكاره ثم أصدر بحقه عقوبة قاسية قضت بطرده من عمله في القضاء. فوفقا للمادة ١٠١ من قانون الأزهر والمعاهد الدينية، وهي تنص على محاكمة الحاصلين على شهادة العالمية أمام هيئة كبار العلماء، بادرت الهيئة برئاسة شيخ الأزهر الشيخ الجيزاوي باستدعاء الشيخ علي عبدالرازق، وهو من أعضائها، لمحاكمته لما ورد في كتابه من آراء وأقوال تعتبر مروقا عن أصول الدين. واستجاب الشيخ علي لهذا الاستدعاء، وعقدت الهيئة جلستها لاستجوابه وتوجيه الاتهام إليه، واحتج الشيخ علي بعدم اختصاص الهيئة، فرفض احتجاجه، وانتهت الهيئة الى الحكم بادانته فقضت بإخراجه، وهو أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة، من زمرة العلماء.
وكان ذلك في ١٣ أغسطس سنة ١٩٢٥، وعلى يد مجلس تأديب قضاة المحاكم الشرعية بوزارة الحقانية، جرى فصل قاضي المنصورة من عمله!.
على أن المسألة لم تنته عند هذا الحد، فقد أقال الملك وزير الحقانية عبدالعزيز فهمي باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين بالنظر لما أثاره من ريب حول قرار هيئة كبار العلماء وسؤاله لجنة القضايا بوزارة الحقانية عن اختصاصها ومدى حقها في محاكمة علي عبدالرازق.
في كتابه «هذه هي حياتي» يقول عبدالعزيز فهمي باشا:
«أثناء وجودي سنة ١٩٢٥ وزيرا للحقانية، علمت أن دعوى رفعت أمام مجلس الأزهر العالي ضد الشيخ علي عبدالرازق ابن المرحوم حسن عبدالرازق باشا الكبير، وكان إذ ذاك قاضيا بالمحاكم الشرعية ولم يكن قد سبقت لي رؤيته. وقد طلب في هذه الدعوى تجريده من درجة العالِمية، إذ ألف كتابا اسمه «الإسلام وأصول الحكم» قرر فيه ما يفيد أن الإسلام لا خلافة فيه، وأن رؤساء المسلمين الآن ملوك لا خلفاء.
استحضرت هذا الكتاب وقرأته مرة وأخرى، فلم أجد فيه أدنى فكرة يؤاخذ عليه مؤلفه، بل بالعكس. وجدته يشيد بذكر الإسلام وبَني الإسلام ويقدس النبي صلى الله عليه وسلم تقديساً تاماً، ويشير إلى أن النبوة في الإسلام هي وحي من عند الله، وأن الوحي لا خلاف فيه، بل اختصاص من الله لمن يوحى إليهم من بني البشر.
وأخص ما أرادوا بناء التهمة عليه، هو ما قد يظهر من عبارة الكتاب من أن الإسلام دين نظري. لكن هذا الفهم الذي فهمه متهمو الشيخ علي عبدالرازق غير وارد بتاتا في الكتاب، لأن الإسلام ما دام دينا، وما دامت أصوله مقررة من عند الله، فالنظر فيه لا يمكن بوجه من الوجوده أن يكون له معنى إلا إذا سار العمل على مقتضاه.
واذا كانت الدعوى كما سلف مرفوعة على أساس ان الشيخ علي أخل بوصف العالِمية (إذا كان هذا وكان كل من ثروت باشا وصدقي باشا هما ممن اشتغلوا بوضع قانون الأزهر) فقد سألتهما عما إذا كان من غرضهما بهذا النص ترتيب عقاب على الرأى، ذلك العقاب المخالف لكل دستور، فأجابا: كلا! إن ذلك لم يخطر بخلدنا!
عند ذلك اتجهت لمصدر هذه الدعوى وناقشت وكيل الديوان العالي فيها، وأفهمته أن المجلس غير مختص بها، فوافقني على رأيي وقال: يكفي أن يحضر الشيخ علي عبدالرازق أمام المجلس ويطلب عدم اختصاصها، فتزول هذه الدعوى. فأرسلت إلى الشيخ علي أن يفعل هذا ففعل.
ولكن مع الأسف لم يقبل دفاعه بعدم الاختصاص وحكم في الموضوع بتجريده من درجة العالِمية!
الذي حصل بعد ذلك هو أن عبدالعزيز فهمي تلكأ في تنفيذ الحكم لعدم اقتناعه بقانونيته. كان يحيى إبراهيم باشا قائما برئاسة مجلس الوزراء بالنيابة عن زيور باشا الذي كان غائبا بالإجازة. أرسل يحيي إبراهيم نسخة الحكم الوارد إلى مجلس الوزراء من رئاسة الأزهر إلى وزير الحقانية عبدالعزيز فهمي لتنفيذه. ولكن كيف ينفذه وهو يعتبره باطلا وبحق عالم مسلم يشيد بالإسلام وبنيه ويحترم دينه إلى أقصى حد؟ وعندما أرسل وزير الحقانية الحكم إلى كبار رجال القانون في الحكومة هاج يحيي إبراهيم وماج، فقال للوزير: إذن نحن غير متفقين في العمل ومن لا يريد أن يعمل معنا فليستقل!
كان واضحا ان القصر الملكي يتابع القضية ويريد الانتقام من علي عبدالرازق الذي هاجم الخلافة التي كان الملك فؤاد طامعا بها ويريد أن تنتقل إليه. وانتهت القضية باستقالة الحكومة بعد أن تضامن عدد من الوزراء مع عبدالعزيز باشا.
ومن العودة الى تقرير لجنة الأزهر التي حاكمت علي عبدالرازق نجد أن التقرير يناقش الأفكار الأساسية التي يطرحها عبدالرازق في كتابه. يورد هذه الأفكار فكرة فكرة ويناقشها ويصل إلى استنتاجات تدحضها.
يبدأ على سبيل المثال، بقول للمؤلف:
قال المؤلف: إن الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ، وإن الدينا من أولها إلى آخرها، وجميع ما فيها من أغراض وغايات، أهون عند الله من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول، وأهون على الله من أن يبعث لها رسولا، وأهون عند رسل الله من أن يشغلوا بها، وينصبوا لتدبيرها.
فيقول التقرير:
إن المؤلف يشطر الدين الإسلامي شطرين: فيلغي منه شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا، ويضرب بآيات الكتاب وسنة رسول الله عرض الحائط، فهو يصادم آيات مثل قول الله: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم... كما يستطرد التقرير إلى ذكر آيات كثيرة.
ويقول المؤلف: إنك إذا تأملت وجدت أن كل ما شرعه الإسلام وأخذ به النبي المسلمين، لم يكن في شيء كثير أو قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وإذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءا يسيرا مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين.
فيناقش التقرير مقولة المؤلف هذه ولا يراها في محلها الصحيح، وكذا بقية المقولات الواردة في كتابه ومنها:
إن دعوى إجماع الصحابة على وجوب إقامة إمام عادل لا نجد مسوغا لقبولها، على حال، وليس لها من دليل صحيح. وإن حظ العلوم السياسية في العصر الإسلامي كان سيئا حيث لم نجد من يبحثها على وجهها، وإن مقام الخلافة منذ زمن الخليفة الأول كان عرضة للخارجين عليه.
والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء، ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجـــــــــــــــع فيها إلى إحكام العقــــــــــــــــل وتجارب الأمم وقواعد السياسة".
"لم توجد بعد الرسول زعامة دينية والذي يمكن تصور وجوده هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلا بالرسالة ولا قائما على الدين، فهو إذن نوع لا ديني".
وتدخلت جهات وشخصيات كثيرة في هذه المعركة الفكرية منها الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير جريدة السياسة، فقال:
"لم أتردد في إثبات رأي في "السياسة" وفي الدفاع عنه بكل قوة فما كنت لأفهم محاكمة رجل من أجل رأيه، وبخاصة إذا كان هذا الرأي موضع نقاش وأخذ ورد، وما كنت لأفهم كذلك إن دفاع رجل عن رأيه يتنافى مع كرامة "العالمية" لقد ذهبت الأمم العريقة في الحرية والمدنية إلى إطلاق الرأي إطلاقا لا يحده قيد ولا تقف في سبيله عقبة، إن أقل ما نطمح فيه هو أن تكون حرية البحث العلمي والاجتهاد الديني القائم على تسامح الشريعة الغراء بحيث لا يضار أحد من ورائها ولا يترتب على مخالفة إنسان لغيره في الرأي أن يصاب بأذى، أو يعتدي على حقوقه".
كما رد الشيخ محمد نجيب المطيعي على كتاب الشيخ علي ومما قاله: "لقد علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له منه إلا وضع اسمه عليه فقط فهو منسوب إليه فقط، ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار وألبسوه ثوب الخزي إلى يوم القيامة"
وأشار الشيخ المطيعي في رده إلى قول الصحافي أمين الرافعي في جريدة "الأخبار" إنه لم يستغرب أن يقدم الشيخ علي عبدالرازق على إصدار هذا الكتاب لما عرفه عنه من الضعف في تحصيل العلوم والإلحاد في العقيدة بالإضافة إلى أنه انغمر منذ سنين في بيئة ليس لها من أسباب الظهور سوى الافتئات على الدين وتقمص أثواب الفلاسفة والملحدين".