مجلة قرندل تحاور راكب الدراجة علي الوردي

مجلة قرندل تحاور راكب الدراجة علي الوردي

معاهد العراق – كل العراق – تخوض هذه الأيام معركة الامتحانات الأكاديمية التي مازالت تعتبر مقياسا لنجاح الأفراد .. والامتحانات الأكاديمية ستنتهي هذا الشهر .. أما امتحانات قرندل لرجال الفكر والأدب فلن تنتهي ..

ان قرندل قررت أن تمتحن أساتذتكم الذي يمتحنونكم. وممتحن قرندل لهذا الأسبوع هو الدكتور علي الوردي .. الأستاذ الجامعي الصريح .. أننا نمتحنه من اجل الفائدة .. لا من اجل الامتحان.
لقد اتصلنا به هاتفيا وطلبنا منه تحديد الزمان والمكان لنوجه إليه بعض الأسئلة ففضل أن يأتي هو بنفسه في الساعة السادسة عصرا إلى قاعة امتحان مجلة قرندل.
والوردي هو الدكتور الثاني الذي تنزله قرندل عن برجه العاجي باختياره .. ان الوردي انسان مثقف اختلفت فيه الآراء عندما نزل إلى ميدان الاجتماع والأدب .. لقد صال وجال دون أن يلقي سلاحه جانبا ودون أن يستسلم ومن هنا نشأ تقدير جمهور المثقفين له .. ولكل إنسان لا يستسلم ولا يسكت عن قول الحق .. او إبداء الرأي الخالص في الناس والحياة والكون .. لقد ثارت عليه ومازالت ثائرة الأدباء والشعراء وقادة الفكر في البلد ولقد رجمه من رجمه وصفق له من صفق ولكنه مازال يصول ويجول بأدب ومقدرة.
قلنا له – وقولنا نفاق أدبي من اجل الحقيقة:-
قال عنك الدكتور علي الزبيدي انك قرقوش .. وقال عنك الصراف إن ثمة ذراعا تحت ابطك تقيس به حوادث التاريخ وقال عنك الدكتور محمد البصير.. إن طفراتك من حقول الاجتماع إلى رياض الأدب ليست موفقة.
قلنا له كل هذا وقد سمعه الوردي من قبل، فابتسم وقال:
انا لااقول فيهم شيئا ولكل واحد وجهة نظره في.. (خلهم يكولون خلهم) إنها وجهات نظر وللكل الحق في إبداء رأيه.
ولقد سبق أن قلت في الأدب ناحية اجتماعية وهذه الناحية هي التي أعنى بها وبدراستها .. أما الأدب المحض فاني اعترف بالعجز فيه وللأدباء الحق في أن يلوموني كل اللوم على حالة إصراري التدخل في الأدب من حيث هو أدب لا من حيث هو صورة من صور المجتمع البشري.
وهناك ملاحظة أود أن الفت أنظار القارئ إليها .. هي أن خروج أولي الاختصاص عن موضوع اختصاصهم إلى موضوع اخر قد يفيد أحيانا وقد حدث مثل هذا كثيرا في تاريخ العلوم المختلفة، حيث أن المختصين في موضوع معين قد ينهمكون في الموضوع ضمن إطار تقليدي ولهذا يصعب عليهم أن يكتشفوا بعض نواحٍ جديدة فيه. ومن هنا تأتي فكرة غير الاختصاصيين حيث يستطيع هؤلاء أن يلفتوا أنظار المختصين إلى بعض النقاط التي كانوا غافلين عنها، وأقول إن كل ما قالوه وفي كل ما نعتوني به هو ليس إلا وجهات نظر .. وللكل الحق في إبداء رأيه.
لقد اشغلوني .. وان انشغالي في المجادلات مع إخوتي الأدباء – سامحهم الله – اشغلني عن انجاز آخر كتبي المعنون (لغز الأحلام) وأرجو من الإخوان أن يمهلوني بضعة أسابيع حتى انتهي من إخراج هذا الكتاب ولهم مني الشكر الجزيل.
• و قلنا للدكتور الوردي .. إن هافلوك أرسن الفيلسوف الاجتماعي الكبير والشهير بأبحاثه الجنسية دعا إلى الزواج الانفصالي، أي أن لكل واحد من الزوجين أن يعيش منفردا فلا اجتماع لهما بعد إلا أن يحددهما موعد كالعشاق .. ولكل واحد شخصيته المستقلة وتصرفاته الخاصة وعلاقاته بالأفراد فما رأيك بهذه الدعوة؟.
- وبعد تردد طويل .. قال:
لا استطيع أن ابدي رأيا في موضوع الزواج الانفصالي لقلة علمي به ولكني مع ذلك استطيع القول إن النظام القديم صار في الآونة الأخيرة موضوع نقدات وهجمات متنوعة من قبل الكثير من الباحثين واقترح بعضهم علاج شتى لما أسموه بمأساة الزواج القديم ومن الممكن اعتبار رأي هافلوك ارسن نوعا من هذه الاقتراحات .. ولي ان أقول الزواج القديم اعتاد عليه المجتمع البشري وهو يلائم الظروف التي كان البشر يعيشون فيها في الازمنة القديمة حيث كان الرجل يسعى وراء الرزق وتبقى المرأة في البيت ترعى شؤون البيت والأطفال.
واليوم فقد بدأت المرأة تسعى وراء الرزق كالرجل وأصبح الغسيل والطبيخ في كثير من الاحيان تقوم به مؤسسات وشركات تكون من خارج البيت . وبهذا تمكنت المرأة من ان تترك بيتها في سبيل العون دون ان تجد في ذلك مشقة او ضير .. وان الحضارة الجديدة بعبارة أخرى تكاد تذهب بوظيفة المرأة في البيت وقد تشكى بعض الباحثين الاجتماعيين من هذه الظاهرة وعدوها إيذانا بتفسخ الحضارة ومهما يكن الحال فأنها ظاهرة قوية المأمول فيها أن تسود العالم عاجلا أم آجلا .. ومن هنا جاز لنا القول إن الزواج الانفصالي الذي دعا إليه هافلوك ارسين قد يجد له مجالا للانتشار بين فئات كثيرة في الناس في المستقبل إذا يتفق الرجل العامل والمرأة العاملة أن يعيش كل منهما على حدة ثم يلتقيان في موعد بينهما كما يلتقي العشاق..
ثم سألناه عما إذا كان ومازال كأحد أفراد الزيدية فأجاب بعد ضحكة عريضة ..
•الحقيقة التي لا أتردد في اعلاني لها هي انني مازلت اعتبر عقيدة زيد بن علي هي العقيدة الوسطى في الإسلام وإذا صح من قال إن خير الأمور أوسطها فان مذهب زيد بن علي هو خير المذاهب .. ولا يعني هذا أنني وافقت على ما عليه الفرقة الزيدية في الوقت الحاضر .. فلقد حادت هذه الفرقة عن مذهب إمامها بمرور الزمن كما حادت جميع الملل والنحل عن مبادئ مؤسسيها الأولين.
- ألا ترى انك بدأت تقيس الأمور على طريقة المنطق القديم التي ناهضتها في كتبك السابقة .. يعني لأنه قلت إن خير الأمور أوسطها ؟
• نعم هذه دقيقة وبعد أن يضع السيكارة السادسة ويأتي عليها يقول: أود أن أقول بان مبدأ خير الأمور أوسطها ليس من المبادئ التي احتكرها المنطق القديم فهو لا يزال صحيحا حتى يومنا هذا وهو ما يعرف اليوم بالاعتدال وقد ثبت علميا بان الزائد في الأمور كالناقص .. إذ لكل شيء حده الملائم له فازداد عن حده وإذا نقص عنه أضر كذلك، وبعد أن أولعنا له السيكارة السابعة قلنا له -مصطفى جواد من رواد السينما المزمنين ومن المولعين بالأفلام الاستعراضية والصراف من المولعين بالدروشة والغناء والمسموع إنكم مولعون بالغناء وركوب الدراجات الهوائية فهل هذا الكلام صحيح؟ وما هي هواياتك؟
• وهنا يقول الدكتور مع الابتسامة .. والله يابه ناسي ما ولعي وما هي هواياتي .. لكن الحقيقة إنما قيل عن تولعي بركوب الدراجات لا أساس له من الصحة أما هواياتي إذا أردت فهي الذهاب إلى السينما مع أولادي لمشاهدة الأفلام التي استطيع أن اشترك بالتمتع فيها مع الأولاد فقد أجد صعوبة في اختيار الفيلم الذي نستطيع التمتع به جميعا مع هذا فنحن لا نمل الأفلام الهزلية كأفلام لوريل وهاردلي المعروفة بالأوساط العراقية بـ(السمين والضعيف).
وثمة هواية أخرى هي مطالعتي لكتب الملالي التي تستوعب جدلهم الفارغ حول العقائد .. وهنا يكاد الدكتور يمثل هذه الملالي بيده ولسانه فيؤشر قائلا .. تصور سخيف يرد على سخيف ويتعصب إلى رأيه تصور اثنين فارغين إنني أتلذذ بهذه الكتب وقد يتخيل لي اني اشاهد احد افلام لوريل وهاردلي الهزلية .. وعند انتهاء الدكتور من إشعال سيكارته الثامنة سألته عن قيمة شخصية الفرد العراقي إذا ما قورنت بقيم الأفراد في البلدان العربية والإسلامية المجاورة فأجاب:
• الذي إميل إليه أن المجتمع العراقي يختلف كثيرا عن المجتمعات الاخرى بصفة خاصة به وهذه الصفة أتت من كون العراق قد وقع من قديم الزمان تحت وطأة البداوة والحضارة بدرجة متوسطة فهو واقع على حدود الصحراء من ناحية ومن الناحية الثانية ان العراق ذو حضارة عريقة فمثلا نرى أن البداوة غالبة على المجتمع الإيراني ولكن العراق واقع في الوسط فهو يستمد من حضارته القديمة وثرواته البدوية الكثير من قيمها وأخلاقها وفي نظري ان هذه من المشاكل الزراعية للعراق الكبرى، حيث اصبح الفرد العراقي كما قلت في مناسبة سابقة مزدوج الشخصية تارة حضاريا وتارة بدويا .. ثم طلبنا منه رؤية في وجودية جون بول سارتر فقال بعد تفكير ليس بالقصير:
• والله فكرتي عن الوجودية غامضة إذ لم أتعمق في بحثي عن الوجودية ولا استطيع أن افرق بين وجودية سارتر او غيره انما الوجودية ليست علمية ولا تتلاءم مع النظريات الحديثة التي جاء بها علم النفس والاجتماع والانثروبايلوجي فالوجودية تقول بان الطبيعة البشرية تقوم على أساس الحرية المطلقة ولكن علم النفس الاجتماعي اثبت ان الشخصية البشرية قائمة على أساس التفاعل بين الطبيعة الموروثة في الإنسان والقواعد الموجودة في محيطها وهذه القواعد كما لا يخفى ليست سوى قيود على الحريات كما يفهمها الوجوديون فالطفل الذي ينشأ على الحرية حيث يتركه أبواه يعمل ما يشاء فانه ينمو بلا شخصية ولا عقل كالحيوان ومعنى هذا أن شخصية الإنسان لا تنمو إلا إذا كانت هناك موانع اجتماعية وقواعد تضبط سلوكه وبنتيجة التفاعل بين الضوابط وبين نزعته الطبيعية تنمو شخصيته وينضج عقله أما عن سارتر والفرق بينه وغيره من الوجوديين فلا اعتقد اني قادر على الحكم في مثل هذا الموضوع لأنني قليل الاطلاع في أمر الفرق بين زعماء الوجودية. وتنتهي مع انتهاء جوابه عن الوجودية في سيكارته العاشرة التي يعقبها بأخرى .. قلت له :
- لم يبق عندي غير سؤالين وأخشى ان تكون قد تعبت فقال لا ..لا .. اسأل والله شيء ممتع .. قلت له بماذا تعلل الكرم وكرم العرب بالذات فأجاب؟
•الكرم أو الكرم العربي منشؤه البداوة فالبدوي يعد الكرم من لوازم الشجاعة ذلك لأن البدوي قد اعتاد أن يحصل على رزقه بحد سيفه وقوة ذراعه فلا مجال في البداوة للبراعة المهنية في سبيل الحصول على الرزق .. والبدوي بصورة عامة يحتقر كل ذي مهنة .. ولا يخفى أن صاحب المهنة بوجه عام يميل إلى الاقتصاد لاحتياط الغد.
- أما آخر ما طلبناه من الدكتور فهو مقترحاته لحل مشكلة البغاء وسألناه عما إذا كان فتح مصرف يعين القادمين على الزواج مجد أم لا فقال .؟
• في رأيي الحكومة قد اخط خطأً فظيعا في سياساتها اتجاه البغاء فالبغاء لا يمكن أن يقضى عليه ولا تخلو امة من الأمم من البغاء ويجب على الحكومة أن تعترف بخطئها وان تكيف سياساتها والظاهر أن الحكومة ستحاول أن تقضي على البغاء قضاء نهائيا هذه الأيام وهذا الأمر لا ينتهي عند حد لان البغاء لا يمكن القضاء عليه .. لقد كان من اللازم أول الأمر ان لا تسد الحكومة المبغى العام. إنما تحوله إلى مكان بعيد منعزل ثم تبدأ النظر في المشاكل التي تنتج عن البغاء كقضية استغلال الساذجات من الفتيات ويربطهن بسندات والنظر إلى قتل المرأة وما شابه. ولو فعلت الحكومة ذلك لتخلصنا من كثير من الشرور التي نعانيها اليوم.
• والى هنا ودعنا الدكتور شاكرين فضله بعد ان امضى معنا ساعتين ونصف قضى فيها على علبة سجائر كاملة.
خليل الشيخ علي ..مجلة قرندل
بغداد/ تشرين الاول 1957