نعمان عاشور.. البنـــاء العظيم

نعمان عاشور.. البنـــاء العظيم

فريدة النقاش
لن يكون وصف الكاتب والمفكر المسرحي الراحل نعمان عاشور بالبنّاء العظيم من قبيل التماس صفات جيدة وكبيرة للمبدعين الراحلين الذين أحببناهم لأن نعمان عاشور المسرحي الواقعي الذي فجر الحياة على الخشبة لعشرين عاما متصلة على الأقل كان بالفعل بنّاء عظيما بين أقرانه بقدرته على التقاط شخصياته من الواقع بكل تفصيلاته وكأنما تمشي بيننا ثم إلباسها- عبر هذه التفاصيل ذاتها- طابعا عاما لعصر بكامله.. ثم لطبقة تغير حالها مع تقلبات الواقع الذي تلعب دورها المركزي فيها.

وحده نعمان عاشور تنبأ بهذا الانهيار، على نحو فريد منذ أن اختار الطبقة الوسطي المصرية التي خبرها عن قريب بكل تعرجاتها وقدراتها وهي تندفع للأمام مع موجة التحرر، ثم ترتد بكل قوة ليندحر من صفوفها من يندحر ويتوحش من يتوحش في زمن الانتفاع.. وليكون هو في كل الحالات أستاذا ماهرا ثاقب النظرة يخلق النموذج من التفصيلات العادية، والمفارقة من وقائع الحياة.
يقول نعمان عاشور في واحد من أهم الأحاديث التي أدلى بها للزميل أحمد إسماعيل »الأهالي 2/6/82 «:
»إن مسرحياتي واقعية مستقبلية برغم التغيرات التي يمكن أن تطرأ على شكل البناء فهي رصد تسجيلي قائم على التحليل للوصول الى الرؤية المستقبلية، هذه التغيرات التي تتخذ شكلا ملحميا مثل »وابور الطحين« أو تاريخيا مثل »لعبة الزمن« إلا أن ذلك لايمس القاعدة السالفة.
بدافع من هذه الرؤية الواقعية المستقبلية الذي يذكرنا رأيه في نسج معالمها بالمسرحي والشاعر الألماني برتولد بريخت وقد حرص طيلة حياته على الاحتفاظ بأصدقاء لا علاقة لهم بالثقافة أو المسرح ليختبر في ردود أفعالهم لما يكتب مدي واقعيته وقربه من الناس العاديين، بدافع منها ضفر نعمان عاشور آلاف التفصيلات لينفخ فيها حياة استطاعت أن تنبئه في »عيلة الدوغري« ومبكرا جدا قبل هزيمة 67 بالدبيب الكامن في الحركة الاجتماعية لردة مقبلة، فأشار الى بدايات الصعود التجاري الأهوج الذي نخر كالسوس في النسيج الاجتماعي.. الى أن تطورت كل هذه العناصر لتتجلي في محيط جديد ومرحلة تتويج الردة بالتبعية في برج المدابغ إثر حرب أكتوبر.
يقول نعمان عاشور أيضا في حديثه:
»عنايتي الأولي في المسرح تنصب على الحياة الاجتماعية مبلورة من خلال الصراع الطبقي المحتدم في داخلها والذي تتكشف جوانبه مرحلة بعد أخري وأسايره راصدا ما بداخله مستشفا ما ينبيء به، ولذلك فإن تركيزي دائما على الشخصيات التي تصنع هذا الواقع أكثر من الشخصيات التي تحمل الآراء والأفكار«.
لم يكن أحد من المنظرين أو علماء الاجتماع قد تنبه بعد الى حقيقة انتشار الموجة الدينية الجديدة من صغار الحرفيين المفلسين حين كشف عنها نعمان عاشور- كنبوءة- بعمق وتركيز بالغين في شخصية الأسطي سيد الدوغري في الستينيات والذي تحول بعد تفليسه من ترزي كبير واحدا من ثلاثة يشار إليهم بالبنان الى ترزي جوال يحمل القماش ويدور به على الزبائن ليرده البعض أو يعطف عليه الآخر، وقد أصبح- دقة- قديمة وانحدر اجتماعيا بعنف، وعجز عن التشبث بالحلم الذي أخذ يفلت منه، تضامن الأسرة ووحدتها واستقامة كل أهلها على طريق الدوغري الأب، والأسرة تتفتت حيث يواصل مصطفي صعوده على أكتاف الجميع ويسخر علمه وثقافته فاختزل الأسرة ونجاحها في شخصيته تماما كما تختزل الطبقية في حكمها من أجل هذا الصعود الفردي، لنجد نسخة معدلة منه في عصام بعد ذلك في برج المدابغ حيث يتجسد الخواء المعنوي والأخلاقي الكامل للطبقة في زمن الانفتاح والتجارة بلا ضابط ولا رابط.. مع غياب الهدف العام الذي يوحد الجميع تحت رايته.. ولم تكن قد خاضت حربا منتصرة.
ينسحب الى الخلوة ينشد إخوان الصفا، وزمانا لايعود، لا تبقي له سوى مائدة، يسميها ساخرا »فضلات الزمن«. كذلك تصبح الخلوة نفسها دقة قديمة، وقد أصبح اللجوء الى الدروشة في زمن جديد تعبيرا عن روح عملية خالصة فأخذ سلامة بيه.. الذي قفز من عمارة بخمسين جنيها لعمارة بربع مليون جنيه في سنة ونصف، الحاج سلامة سابقا بني الجامع جنبا الى جنب مع البوتيك ليجني فائدتين دفعة واحدة.. البركة للشقق المفروشة التي تعيش زوجته الثرية في واحدة منها وتدير الباقي، والإعفاء من الضرائب العقارية لمدة خمس سنوات.
وقد كان في الزمن الماضي القريب شيخ طريقة فأصبح القناع الديني طريقا للكسب، في البوتيك يمكن وضع كل شيء حتى نوط بطولة الشهداء الذين دافعوا عن الوطن وتحويل رموز هذه البطولة الى مقتنيات للبيع، يقول عصام في برج المدابغ: أنا عندي ساعة حيط في شكل صاروخ.
وفي الماضي.. كان مصطفي الذي تجسدت فيه الصفات الأساسية للمرحلة المقبلة.. الفردية المطلقة.. »الاندفاع الوحشي في اتجاه التملك والثراء واستخدام الآخرين.. كان يعتمد الجهد والعمل، وقد عمل مبكرا في الحجاز، والآن فإن عصام هو شاطر فهلوي أشد ذكاء.. يقدم لنا الطفيلية في حالة تشكل سمسرة.. بوتيكات.. شقق مفروشة وخلافه.. ومعه »مدام« دولت التي من الواضح أنها تدبر كل شيء »لاحظ الاسم«.
إن هذه الشريحة التي صعدت من الطبقة الوسطي تعيد إنتاج كل نقائصها التاريخية في زمن الانحطاط والتبعية متباهية بها كفضائل وحتى الفتي الذي ضحي من أبنائها، هشام يعود من الحرب مبتور الساق معتل الصحة يطارد نظرة الجندي الشهيد ليسجلها في لوحة من رسمه كي لاينسي.. يريد أن يستخرج الكلمات من عينين طارتا مع الرأس.. لكن ما جدوى هذا كله؟ إن تساؤلاتها وأحزانها تظل أخلاقية وطيبة في زمن التسلط الكامل لجناحها الأقوي.. بل إن هذه التساؤلات والأحزان لن تعني شيئا بعد الآن.. وربما سوف تصب في الانسحاب الأخلاقي الديني الى خلوة جديدة تختلف عن خلوة السيد الدوغري المهزوم الذي (اتكأ على فضلات الزمن ولم لا؟ ألم يبق عم على الطواف ممثلا للشعب الكادح المسحوق حتى النهاية من دون حذاء).
فإن هذا هو حال الشعب.. الذي بقي غالبا كما هو سواء في زمن صعود الطبقة أو زمن انحطاطها، فلن يكون بوسعنا أن نمد خيط تساؤلاتها الأخلاقية الى الأبعد.. ولم يكن نعمان عاشور نفسه ليمد هذا الخيط قط، فلم يعلق على الأخلاق الفاضلة لبعض الأفراد أي أمل لأنه رصد الحركة الكلية مدركا مأساوية هذه الاستحالة ببصيرة اجتماعية ثاقبة.
ومع ذلك ظل نعمان عاشور طوال ثلاثين عاما أو يزيد هي عمر ارتباطه بالمسرح يطل من الشباك الواسع للطبقة الوسطي المصرية على رحابة الواقع يلتقط دبيب الغوران، وموجات الصعود ودوراته في المياه الشعبية، وتدور رحي معاركه داخل الأسرة المتوسطة كحقيقة دونما أي تطابق مع الوقائع الكبري في العصر حتى إنها تبدو لنا في بعض الأحيان بعيدة عنها بقدر ما تختار موضوعات كل يوم، ولكن ما إن تدب الحياة على المسرح في عالمه الغني المملوء بالمفارقة إلا ويتكشف للضمير الجمعي ضميرها هي الجمعي بالذات أن هذا المسرح هو مرآتها الكاشفة، وأن ما بدا على خشبته كأنه شخصي وخاص بكل فرد على حدة، إنما هو علامة مميزة لمرحلة بكاملها.
حين سئل المفكر والناقد المسرحي الدكتور على الراعي قبل عام في برنامج أمسية ثقافية عن تفسيره لسبب تدهور المسرح ونمو الرواية.. قال:
»يزدهر المسرح حينما تستلهم أمة ما كل قواها وتندفع الى الأمام«..
وكان هذا حال مصر في الستينيات.. وهي تنجز الاستقلال الوطني وتبني الصناعة وتلتحق بركب التحرر العالمي وتقود المنطقة كلها في صراعها ضد الاستعمار والتخلف، حيث تجلت فضائل الطبقة الوسطي كأفضل ما تكون وكان نعمان عاشور نفسه واحدا من ألمع أبنائها الذين سبق أن اختاروا طريق الفكر الاشتراكي العلمي بعد أن تتلمذ على تراثه ورواده وانخرط من بداية حياته في صفوف المناضلين تحت رايته كمتهم في قضية الشيوعية الكبري إثر انتفاضة 6491..
وليتشكل وجدانيا وثقافيا في ظل المد الوطني التقدمي الذي حرث الأرض لثورة يوليو ويتوصل الى المسرح كأداة للتغيير الاجتماعي بعد تجارب طويلة مع القصة القصيرة والتمثيلية الإذاعية التي جرب فيها كل أشكال عمله الواقعي فيما بعد وليتقن في هذا المسرح لغة خاصة به تبدو للعين السطحية مستقاة من العادي.. ولكنها سرعان ما تفصح عن شعر العادي نفسه وهو ينبض بالحياة والحركة ويتوهج.
كان يدرك بحسه الشعري ورؤيته النقدية الساخرة وثقافته وموقفه التقدمي استحالة أن يقدم مسرحه الذي يواصل فيه التقاط الخصائص العامة للمرحلة وخلق شخوصها النموذجية المعبرة عن طابعها الأساسي في زمن التبعية المستساغة على نطاق واسع لأنه سيرتطم حتما لا بالرقابة والبيروقراطية الخانقة والتفكك الذي أصاب المؤسسات العامة فحسب وإنما سيرتطم قبل كل هذا وفوقه بتحلل الطبقة الوسطي نفسها التي كانت معرفته بها النبع العميق لمادته.
كان نعمان عاشور مخيرا هو والجيل المسرحي الجاد الذي جاء بعده بين اللجوء للتاريخ أو الصمت وكانت تجربته المرة مع الرقابة والبيروقراطية وتسلط معدومي المواهب المعادين للتقدم تقول له ذلك بكل وضوح.
وحين طرح في منتصف السبعينيات السؤال الجوهري حول الفئات المستفيدة من الانفتاح ونسج علاقة فذة بين دماء الشهداء في أكتوبر، وتدفق الثراء على الأغنياء الجدد في برج المدابغ، كان عليه لكي تري مسرحيته النور أن يقايض الخاتمة التي وضعها مفتوحة كعادته حيث يصب عالمه القديم في الجديد، ويقود إليه أن يقايضها بخاتمة جديدة يتصالح فيها الجميع بعد أن انهارت العمارة، و كان هذا التصالح هو جواز المرور للعرض، وهو أيضا الفكرة المركزية في دعوة الثورة المضادة للسلام الاجتماعي، كذلك من شارك في تأسيس جمعية للمسرح وقبل دون غضاضة أن يكون رئيسا لها مع جمع من الشباب على أمل أن تتمكن من خلق مناخ صحي ولو في حدود ضيقة »وتجريبية« سارعت أجهزة الأمن لملاحقتها وإصدار قرار لها، فضلا عن عجز مؤسسيها عن توفير مكان ملائم لها، بينما كانت كل مسارح الدولة مغلقة... وتتدفق عليها ميزانيات سفيهة من أجل عروض تافهة.
كان لابد لنعمان عاشور في مثل هذا الزمن أن يصمت أو يعود للتاريخ، فلن يكون بوسعه أن يجد مسرحا عاما أو خاصا يتحمل رؤيته الثاقبة الكاشفة حيث تواصل قوى الثورة المضادة- وإن بطريقة خبيثة - تسويد الصفحات وإطفاء أضواء المسرح، وإعلاء شأن التزييف بصورة غير مسبوقة تماما.
عن جريدة الاهالي/ 2005