عبدالرحمن الشرقاوي حلم العدالة بين المثال والواقع

عبدالرحمن الشرقاوي حلم العدالة بين المثال والواقع

نبيل فرج
كان يعد الثقافة المصرية ثروة قومية وإنسانية، وهذه الثقافة بحاجة دائمة الى التطوير، حتى تتخلص من كل تقاليدها الجامدة، وتصبح ثقافة عصرية منفتحة على ثقافات العالم، بعمقها التاريخي، وجيشانها المعبر عن حضارة القرن العشرين.

وعلي كثرة المشاق والمصاعب التي تعرض لها عبدالرحمن الشرقاوي، والهجمات التي حاولت النيل منه بغير حق، من السلطة وعديمي الموهبة والجهلاء، فقد ظل موضع احترام وتقدير وإكبار كل المثقفين الذين تعاملوا معه من جميع التيارات، ووجدوا فيه أديبا مخلصا للكلمة الحرة إخلاصه للوطن، يبذل قصاري جهده من أجل إثراء الحياة الثقافية في بلادنا بالمبدعين الشباب، الذين يحمون الأمة، ويرفعون قيم العدل والحرية، ولم يخيب أحد منهم ظن الشرقاوي فيه.
ولهذا فإن الذين يدينون لعبدالرحمن الشرقاوي عدد جم من الكتاب والشعراء والنقاد والصحفيين، مهد لهم الطريق، ونزع عنه الأشواك، لكي يتمكنوا من السير الى آخر الشوط، وينتفع الوطن بأفضل ما يملكون.
ويمكن أن نذكر من هذه الشخصيات أسماء أحمد بهاء الدين، حسن فؤاد، رشدي صالح، ألفريد فرج، فتحي غانم، يوسف إدريس، وعشرات غيرهم، دفع بهم عبدالرحمن الشرقاوي الى حياتنا الثقافية، وأصبحوا من أعلامها.
والذين عرفوا عبدالرحمن الشرقاوي عن قرب، وتمتعوا بصداقته ومودته، لا يجمعهم حصر، لأنه كان يري في كل من يلتقي بهم قيمة إنسانية تسبق كل شيء، ويجب ألا تهدر هذه القيمة التي كانت تتجلي له في أجمل صورها، كما تتجلي في أدبه لحظات التحول في التاريخ.
وبهذه الروح كان الشرقاوي يستخلص الحكمة من معاناة الناس، ولم يكن يجد حرجا في الاعتراف بفضل من تأثر بهم في سنوات التكوين، بمن فيهم من هم أقل شهرة منه، مثل سعد مكاوي الذي يذكر الشرقاوي أنه سار على نسقه في كتابة القصة.
ورغم قراءاته المتبحرة في التراث العربي والأجنبي، القديم والحديث، وفي مقدمته السير الشعبية، فقد كان يري أن الحياة الواقعية هي التي تصوغ فكر الإنسان، ومن حصيلة القراءات ومعايشة الواقع يتشكل إدراك الفرد وأهدافه.
ويعد عبدالرحمن الشرقاوي أحد رعاة الثقافة والمثقفين قبل أن يكون قصاصا وشاعرا وروائيا ومسرحيا وكاتب مقال من أعلي طراز، حدد في الخمسينيات من القرن الماضي، أو كان أحد الذين حددوا، الشكل الفني للأدب الجديد الملتزم.
استقي أعماله من حساسية حديثه لا يخطؤها البصر، لم تكن لنا في الماضي، أبرزها في الشعر الحر وفي مسرحياته الخطاب المفتوح الى رؤساء الدول وإلي الشهداء والزوجة، مستخدما ضمير المتكلم، ولغة قريبة التناول جدا، يثبت بها أن الشعر ليس في الكلمات، سواء كانت تقريرية أو مجنحة، وإنما في صياغة أو تركيب هذه الكلمات.
وكان الشرقاوي يعرف جيدا كيف ينتزع المعاني الشاعرية من الأشياء النثرية الصغيرة، ويدمجها في بنائه الفني.
ومع أن مسرحه ضرب في التاريخ والتراث، إلا أن وعيه المتوهج بالحاضر، وبما يحفل به من حقائق وتحديات وخلط، لم يخفت لحظة واحدة، أملا في تصحيح خطاياه وتسديد عثراته التي تنشأ عادة من بعد المسافة بين المثال والواقع، وبين المبدأ والضرورة.
في هذه المسافة يتعرض الوجود البشري للبغض والشر، وتهدر حقوق الإنسان.
وكل من شاهد في الستينيات على المسرح القومي مسرحية «الفتي مهران» للشرقاوي، لابد أنه يذكر الفنان عبدالله غيث، الفتي مهران، قبل أن يتنازل ويساوم ويسقط، وهو يوجه رسائله النابعة من معاناة الشعب الى السلطان في دولة المماليك، الذي دفع بجنوده الى ساحات القتال في معارك لا ناقة له فيها ولا جمل، مطالبا إياه أن يترك عزلته، ويلتحم بالشعب، ولا يضع السكين في أيد أعدت للفئوس.
ولأن أدب الشرقاوي لا ينفصل عن الوسط التاريخي الذي كتب فيه، فقد قرأ على ضوء هذا الظرف، ولم تكن هذه القراءات تؤيد لما فيه من إسقاطات ينعي فيها الشرقاوي الحروب على إطلاقها، وليس فقط حروب التحرير خارج الوطن، ومصر تحارب بجيشها في اليمن.
ولايزال الجزء الأكبر من مقالات الشرقاوي التي تعكس أبعاد الحياة الثقافية والسياسية مطوية في الدوريات الصحفية، في مجلات وصحف الأربعينيات وما بعدها، لم تجمع في كتب، رغم ما تنبض به من ثراء فكري، وجمال التعبير.
وكما تختلف روايات الشرقاوي عن الريف المصري عن الروايات السابقة عليها، في صدق الرؤية للمجتمع المصري، فإن مسرحه الشعري أيضا يختلف عن مسرح شوقي الذي كان المثال الوحيد في الثقافة العربية، وإن وجدت بجانبه وفي إثره تجارب أكثر تطورا، على رأسها بالطبع مسرحيات على أحمد باكثير الشعرية التي تأثر فيها بمسرح شكسبير.
أما مسرح الشرقاوي الذي تتضافر فيه موهبة الشاعر مع موهبة الروائي، فلم يسلم من المواقف الخطابية والغنائية التي تفتقد التركيز، على نحو ما نجد في مسرحيته الشعرية الأولى «مأساة جميلة» التي أخذ النقاد عليها حصر البطولة في شخصية واحدة هي جميلة بوحريد، لا في شعب الجزائر الذي قدم على أرضه آلاف الشهداء في مقاومته للاستعمار الفرنسي.

وخطأ الشرقاوي في هذه المسرحية أنه صاغ المأساة الدرامية من مادة ملحمية، بعيدة عن ساحة النفس.
وعبدالرحمن الشرقاوي من كتاب المسرح الذين يشاهدون أعمالهم على المنصة مع الجمهور في جميع ليالي العرض، ويستفيد من انفعالات وتعليقات هذا الجمهور من ليلة الى ليلة، كما يستفيد من آراء وملاحظات أصدقائه المقربين، بل ومن أداء الممثلين في البروفات، أكثر مما يستفيد من نقد النقاد.
وكتب أو تراجم الشرقاوي الإسلامية تكشف ما يزخر به التاريخ والتراث من طاقات إنسانية باهرة، لا تقارن إلا بإسلاميات طه حسين.

ولد عبدالرحمن الشرقاوي في 10 نوفمبر 1920، وتوفي في سن السابعة والستين في نفس اليوم الذي ولد فيه من عام 1987.
وهذا التوافق النادر بين تاريخ الميلاد وتاريخ الوفاة لم يحدث لأحد من الأدباء فيما أعلم إلا للشاعر المسرحي شكسبير الذي ولد في 23 أبريل 1564، وتوفي في 23 أبريل من عام 1916.

مجلة الاهرام العربي 2009