لمحيي الدين زنكنة مرثية تليق بالأحياء

لمحيي الدين زنكنة مرثية تليق بالأحياء

د. نادية غازي العزاوي
سيرتعش قلبي قبل أناملي حين أمرّ على اسمه ورقمه المحفوظين في ذاكرة تليفوني: محيي الدين زنكنة
( 07705318111) ،لأنّي سأظلّ أترقّب رسائله الدافئة في الأعياد والمناسبات راقيةً نابضة ً بالمحبة التي لايجيد غيرها، كان يطيب له أن يمازحني أحياناً فيرسل بطاقة التهنئة باللغة الكردية في أعياد نوروز:

- ( لتكون حافزاً لك على تعلّم اللغة الكردية ). سأظلّ أنتظر مكالماته التي يأتيني عبرها صوته الخفيض المبحوح تتدفّق معه التحيات والسلامات والأسئلة عن الأهل والأصدقاء:-
(كيف حالكَ؟) أقول:
–( ماشي مع المواشي) يجيبني بسخرية طافحة بالمرارة، فضروب المرارات التي اكتوى بها لم تركّعه، ولكنها جعلت (السخرية) في مسرحياته وقصصه المشرط الذي يعرّي به طبقات الجهل والزيف والانتهازية والانهزامية التي تتراكم في مجتمعنا. لن أمسح اسمه ولا رقمه من الذاكرة، لأنّ المبدعين الحقيقيين –وأبو آزاد منهم- عنوانات كبرى للبقاء لا الزوال، وهو معجم كبير لقيم وكلمات صارت اليوم في حكم المفقود، معجم تتواشج فيه النزاهة والشرف والوطنية الحقّة والثبات على المبادئ والترفّع عن كل ما من شأنه المساس بتاريخ قلمه سياسياً وفكرياً وفنياً. كان درساً عملياً في الاصرار على مواصلة رسالة الكتابة بالرغم من حجم التحديات والإخفاقات، مؤمناً بأن الكلمة وسيلة لمقاومة الظلاّمية، كتب في إهداء كريم له على نسخة من كتابه المطبوع في السليمانية 2009 ( خمسة نصوص):
(( 000كلمات 00كلمات 00كلمات 00كل 00مات ،لم نعد في الدنيا ولا في الآخرة نملك سواها، فلتكن الكلمة نقية ،شمساً مشرقة على الرغم من السواد الذي يكاد يغلّف كل شيء، ولتبدّد ظلام ليلنا الطويل،وتعلن ولادة الفجر الجديد)). ظلّ يسارياً حتى النخاع في الفكر والسلوك، في الكلمة والفعل، منتصراً لإرادة الخير، منحازاً للمظلومين والمقهورين ضد كل أشكال الشرّ والجريمة والإذلال والهيمنة والسلطة، محتفظاً باستقلالية حضوره في المشهد الثقافي العراقيّ. لقد حفرت أعماله بصماتها بإصرار في ذاكرة المسرح العراقي، ولا أدلّ على ذلك من تعدّد وتواصل عروضها، وتعاقب مخرجين مبدعين من أجيال مختلفة عليها، وبما يدلّ على ما تتوافر عليه من مضامين وشخصيات وأحداث وحكايات حيّة ومتجدّدة صالحة للقراءة والعرض في كل مكان وزمان.
رحيل محيي الدين زنكنة وأمثاله في هذا التوقيت الظلاميّ خسارة مضاعفة لها أكثر من مدلول أليم،إذ تطوى صفحات مشرّفة من الجهود الإبداعية، ومن التوجّهات التنويريّة، والانتماءات الوطنية الخالصة وبما يعزّ نظيره وتكراره في واقعنا الملتبس بأسمائه ومسمياته ،وبوجوهه وأقنعته، وبمفاهيمه وممارساته. قبل ثلاثة أيام فقط من رحيله جاءني صوته عبر الهاتف هادراً فيّاضاً بالأمل والألم (وهذا قدر عراقيّ أبديّ) ، يحدّثني عن متاعب عينه التي قد تحول بينه وبين دنياه التي لايحيد عنها : القراءة والكتابة ، فتساءلت بوجع حقيقيّ :كيف يسمح الآخرون لأنفسهم إهمال هذا الرجل /الظاهرة ، الشامخ بعراقيته حيث تمتزج العروق والدماء والملامح واللغات امتزاجاً عضوياً دون تنطّع أو تسييس ؟ كيف يجرؤون على هذا الجحود والتناسي المتعمّد؟
أمّا هو فكان يدرك جيداً حدود الإجابات بوضوح: لم ولن أقف حتى آخر يوم في عمري على الأعتاب ليمنّوا عليّ ثم يطالبوني بالثمن، حسبي أني أكتب دائماً بضمير وببصيرة نقية شفّافة حادة كالماس لاتقبل المساومات وكفى. وظلّ يكتب كذلك حتى توقّف القلب الكبير عن النبض، فلوّح لنا مودّعاً.