محيي الدين زنكنة.. كم قلــت لـي: هـذا خيــارنـا وليـس قدرنـا

محيي الدين زنكنة.. كم قلــت لـي: هـذا خيــارنـا وليـس قدرنـا

لطفية الدليمي
أبو آزاد العزيز، لن أقول وداعا أيها الأخ الكبير بإبداعه الباهر ونقاء سريرته وترفعه الروحي، سيد الإبداع المسرحي والروح المقتحمة المتعالية على الألم ،أنت الأبقى في الذاكرة بنبلك وزهدك وعذاباتك الطويلة ومنجزك المفعم بالقوة والتحدي والجمال،

كنت أضع كتبك التي تهديها لي بمصادفة غريبة مع كتب الصديق المشترك مبدعنا الذي لا يبارح الذاكرة جليل القيسي، كنت تقول لي: دعينا نشد من أزر جليل فإنه يصاب أحيانا بموجات من اليأس ولنسنده بتفاؤلنا وإبداعنا، جليل رقيق جدا ويصعب عليه تقبل سواد العالم، لن نيأس يا صديقة القلم والإبداع ولن نتوقف ونحن نملك كل هذه الرؤى والأحلام والمواقف ..
معتكفا ومنتجا لم يترجل قلمك يوما، كنت ترفد حياتنا بمسرحياتك الجدلية الكاشفة ونصوصك الجريئة ،وكنت تقول لي: هذا دور المثقف أن لا يتراجع، أن يمضي قدما وسط الأشواك والألغام والحاجة والاعتصام بالصمت أحيانا، هذا ليس قدرا ،بل هو خيار شجاع يالطفية، خيارنا الواعي تماما وليس قدرنا ..
وحين أسسنا الجمعية العراقية للثقافة مع حشد خير من المثقفين اتصلت بك لتكون معنا بحضورك الثقافي الكبير ومنجزك المسرحي ومواقفك الفكرية الباسلة فقلت لي: وهل يعقل أن لا أكون معكم ؟؟ لكن السفر من بعقوبة إلى بغداد، صار يشكل معضلة ترتبط بالوضع المتردي في المدينة وصعود العنف ..
لطالما التقينا في التسعينيات حين كنت تسعدنا بحضورك النادر إلى بغداد خلال المواسم المسرحية وبعض المناسبات الثقافية التي نقتنصها مناسبة للقاء الأصدقاء مبدعي العراق الكبار القادمين من البصرة وكركوك والحلة وبعقوبة وغيرها من المدن التي تزخر بالإبداع والمبدعين، وكان يربط بيننا - حين يعز التهاتف- الصديق المبدع الكبير (جليل القيسي)، وعندما تغير رقم هاتفك في بعقوبة، اتصل بي جليل بكل رقته وتهذيبه الراقي، طلبتني السيدة عقيلته أولا وتحدثنا عن صحة جليل وكان يعاني حينها من مشكلة في ساقيه ثم تحدث هو وأعطاني رقم هاتفك الجديد بعد أن أخبرته بقلقنا عليك في بغداد، وعندما كانت تتقطع سبل التواصل، كان أحدنا يتصل بجليل أو عقيلته العزيزة او تتصل أنت بي لأنك عجزت عن الاتصال به، لنطمئن على أحوال بعضنا وكأننا عائلة واحدة ترامت فصولها وامتدت جذورها بين بغداد وكركوك وبعقوبة، وغالبا ما كان حديثنا انا وجليل صباحات أيام الجمع -أنا وجليل أكثر- يخبرني بآخر إنجازاته وقصصه الرائعة ويقول بتهذيب جميل ولياقة عالية لا يجيدها إلا كاتب متجذر بالحضارة والقيم المعاصرة معا، كتبت قصة وأهديتها لك ستظهر في مجلة الموقف الثقافي وسيفرح محيي لأنه يحب إبداعك ويجل شخصيتك، يا للنزاهة ويا للرقي الذي كثيرا ما نفتقده في أوساطنا المتشنجة، كان جليل يقول: الأصدقاء يلتقون الآن في شارع المتنبي أو مقهى الشابندر ونحن نتواصل ونناقش قضايا الثقافة وشجونها على الهاتف، ويطلق ضحكته الصافية، كان صوته الشجي يرتعش وهو يتحدث عنك يا أبا آزاد بحب عميق وإكبار وكنت أنت ومنجزك وجديدك مدار حديثنا في معظم حواراتنا ..
كنـا نتهاتف بين فترات متقاربة في الفترات الحرجة بعد السقوط، أنت في بعقوبة وأنا في وحشة بغداد أو أن بدء ظهور الميليشيات والعصابات الغريبة وصعود الإرهاب و فورة صعود التشدد في بعقوبة وكنت تبوح لي بثقة الصديق وقوة المناضل وثبات إنسان المواقف الكبيرة، انك في خطر ,وأنك والعائلة تتجنبون الخروج من البيت إلا للضرورة لأن شوارع بعقوبة غدت مرتعا لمجاميع القتلة والمسلحين والغرباء من المتشددين، كنت اتصل بك وأنت تعاني من تدهور بصرك وتقول لي: كيف أعيش ما تبقى من سنوات العمر دونما قراءة وهي متعتي الوحيدة وعالمي الرحب؟؟ إنها يا لطفية ملاذ من هم في مثل حالتي وأنا سجين أسوأ التوقعات فقد يداهم المنزل مسلح من هؤلاء، لم نعد في أمان هنا ، لم نعد في بلاد آمنة..
انتقلت إلى السليمانية وغادرت أنا الى هجرة موجعة لم اعد اسمع صوتك وصوت ابنتك العزيزة وهي ترد على الهاتف او أتلقى ايميلا باسمها او باسم آزاد منك ( لم تكن تميل إلى استخدام الكومبيوتر).
كان لقاؤنا في بعقوبة أواسط الستينيات في مناسبة عائلية وسط بساتين البرتقال على نهر ديالى، جلسنا على جرف ديالى نتأمل طوفانه المنضبط وننصت الى حفيف شجر الطرفاء على الضفاف الرملية الذي تمازجه نداءات طيور وحفيف أجنحة، في ظهيرة شتاء شباطي، بعد الغداء والبساتين مزهوة بذهب برتقالها وأشذاء ربيع مبكر، دارت بيننا حوارات حيوية عما ستؤول إليه أحوالنا في القادم من الأيام، كنت أنت مراقبا من قبل السلطة بعد خروجك من المعتقل، حتى أن مجيئك إلى البستان كان بخدعة، أحضرناك بسيارتنا الصغيرة واخفيناك عن عيون رجال الأمن الذين يتربصون بمنزلك،البعض من الحاضرين كان مطاردا، كنا مشحونين بالآمال العظيمة يا أبا آزاد رغم أننا كنا نروي وقائع المعتقلات ونضحك وكأن الآمر يخص سوانا، وكأننا نروي قصة فيلم قام بأداء أدواره ممثلون غرباء، كنا في ريعان الشباب والحماسة والاندفاع حينها، لم نعرف الخوف او الصمت، أحد الأقارب الحاضرين كان قد اعتقل لفترة طويلة لان المخبرين أمسكوه وهو يخط على جدران مدينة المقدادية عبارة (السلام لكردستان) وهو العربي، كانت قضية كردستان قضيتنا جميعا يا أبا آزاد ولم تكن قضية الكرد وحدهم قط .
أبا آزاد، أنت لم ترحل لأنني لم أودعك، فأنت عندما غادرت مرغما وبسرعة لا متوقعة إلى كردستان لم تودعني بعد ان صار تهديد حياتك أمرا واقعا من قبل الإرهاب والعنف في بعقوبة، ولأننا أساسا لم نفترق يا أخي المبدع الكبير، فإن موضوعة الوداع لا تخصنا، ليست لنا، الوداع يحدث بين المفترقين حقيقة، أما أنت وأما جليل، فقد تحركتما في الأمكنة حسب، لم تغادرا أبدا، المغادرون هم من لا يتركون بصمة او رنين ضحكة او شعاع أمل و منجزا مشهودا له بالتميز، صوتك وصوت جليل يترددان في مسمعي كلما ذكرت كركوك أو بعقوبة أو بساتين البرتقال أو قلعة كركوك، أنتما غيرتما إيقاع الأيام حسب، تركتما الزمن وأفلتت خطواتكما من قيوده، وها أنتما تخلدان في الأبدية وتعيدان معا سرد الوقائع وتضحكان، لسنا في وحشة اليتم لأنك يا أبا آزاد تشد أزرنا بقوتك كما كنت وأنت ضمن إيقاع زمننا، أسمعك تقول لي: هذا ليس قدراً يالطفية، إنه خيارنا،ولن نكون نحن كما نحن بدون هذا الخيار.