الصيحة التي اطلقها بن بيلا ودوت في كل مكان: إننا عرب.. عرب

الصيحة التي اطلقها بن بيلا ودوت في كل مكان: إننا عرب.. عرب

على ارض المليون شهيد.. وفي قلب الجزائر التي ناضلت سبع سنوات من اجل الاستقلال.. عاشت بعثة "آخر ساعة" افراح الاستقلال.. ورافقت المشير عبد الحكيم عامر خلال مشاركته للرئيس بن بيلا وشعب الجزائر في هذه الاعياد.. ومن هناك كتب مازن البندك "لأخر ساعة" هذه الرسالة التي تجيب على سؤال هام:
ماذا يحدث الان في الجزائر..؟

خرج بن بيلا يطوف شوارع الجزائر العاصمة في الليل.. وبدأ في عد الوطنيين الجزائريين الذين ينامون في الطرقات وعلى الارصفة، من العجزة والعاطلين فعد مائة وعشرة اشخاص، وسأم هذا المنظر كله، وضجر من العدو عاد الى منزله مغموماً مكلوم الفؤاد!
وفي صباح احد الايام نظر الثائر الجزائري الى عاصمة بلاده فوجد عشرات من الاطفال الصغار يحملون صناديق خشبية ويحرقون عيداتهم الخضراء الرقيقة وهم يمسحون الاحذية في وهج الشمس وبرودة الليل.. انهم ابناء الشهداء.. وروع بن بيللا.. وصاح: لن يكون هنالك مساحون للاحذية في الجزائر، ولن يكون هنالك عجزة وشيوخ يحيون على الارصفة ويموتون كالكلاب، ولن يعيش مواطن في الجزائر بلا كرامة..
واقيمت ملاجئ للعجزة.. وجمع مساحو الاحذية من الشوارع ليخطب فيهم بن بيللا ويلحقهم بالمدارس.. فوراً.
هكذا يفهم بن بيللا الاستقلال، انه ليس قطعة قماش ملونة ترتفع ويطلق عليها اسم علم وطني، وانه ليست نشيدا منغما يقوم لسماعه الناس لانه النشيد الوطني، انه غير هذا تماما. الاستقلال يعني حياة جديدة، حياة اخرى، لا علاقة لها بالحياة في ظل الاستعمار، الاستقلال يعني حياة افضل في كل شيء، حياة تظللها العدالة، وتسيرها الكفاية، وتملأ صاحبها بالكرامة.
واليوم، وقد مضت سنة واحدة على الاستقلال وبعد سنة واحدة من الرحلة القاسية المضنية، رحلة البناء، يقف بن بيللا ليروي قصة هذه السنة، وقصة السنين المقبلة وليقول كيف تفهم الجزائر معنى الاستقلال.
لقد كانت الاشتراكية الثورية هي طريق الجزائر المستقلة، لانه لم يكن هنالك طريق آخر، والاشتراكية عند بن بيللا ليست معضلة وليست طلاسم لا يفهمها احد، انها بسهولة عن ترقية المستوى المعيشي للمواطن، ولذلك كان طبيعيا ان يتكلم بن بيللا طويلا عن انجراف التربة، فالتربة الجزائرية تتعرض لاحوال جوية وظروف طبيعية تهدد الرقعة القابلة للزراعة، لذلك لابد من التشجير، ولابد ان يكون هنالك يوم الشجرة، فعلاج الانجراف ومحاربة اسبابه والمحافظة على التربة الزراعية هي امور تمس صميم حياة الفلاح الجزائري ويجب وضع الحلول اللازمة لها، فاذا كانت مشكلة الفلاح هي انجراف التربة فلابد من وقف الانجراف، تماما كما قال لينين في روسيا: ان الاشتراكية تعني كهربة الاتحاد السوفيتي، وكما قال ماوتسي تونج: اذا كانت مشكلة الفلاح هي دودة الانكلستوما فالاشتراكية هي القضاء على الدودة.
واستقلال الجزائر يعني بالدرجة الاولى اكتشافها لذاتها، وتحققها من شخصيتها، انها عروبتها، الجزائر عربية. لقد اراد الاستعمار الفرنسي عبر مائة وثلاثين سنة ان يطمس الشخصية الوطنية للجزائر وان يفقدها خصائصها القومية. فحارب اللغة العربية حربا ضاربة. فقد اراد الاستعمار ان يقطع اللسان العربي في الجزائر فهذه المدارس العربية وحرم عليها وجعل ذلك بمثابة جريمة يعاقب عليها. وحارب كذلك الدين الاسلامي، فعمد الاستعمار الى هدم المساجد، ومحاربة التعليم الديني، فقد كان الاستعمار الفرنسي يعتقد ان ابتعاد الجزائريين عن اللغة العربية وفقدهم للصلة بالدين الاسلامي هو الطريق الى التيه الذي تضيع فيه الجزائر وتفقد فيه شخصيتها القومية. ولذلك فان الحركة الوطنية الجزائرية كانت تناضل دائما من اجل اللغة العربية والدين الاسلامي كأساس لتحقيق الشخصية القومية العربية، فاللغة والدين كانا ينتميان الى شيء ثالث: الوطن.
ولذلك فان الحكومة الوطنية تضع اساس التربية والثقافة في الجزائر المستقلة نشر اللغة العربية وتعريب البرامج الثقافية، وحين خطب بن بيللا في الجماهير وقال: لقد شعرت بالفخر ان استمع للطلبة من البنين والبنات حين زرتهم في المدارس وهم يتكلمون باللغة العربية الفصحى بعد سنة واحدة من التعليم! حين قال ذلك انفجرت الجماهير العربية الجزائرية في عاصفة من التصفيق والهتاف استمرت بضع دقائق، انها تأكيد لعروبة الجزائر.
وكما يقول بن بيلا: اننا عرب! عرب! عرب! والقومية العربية ليست حركة عنصرية وليست تعصبا، ولكنها نموذج للحياة، والجزائر حريصة عليه.
وطفت بشوارع الجزائر وزرت بعض متاجرها.. وحين كان يعرف الجمهور باني عربي قادم من الشرق ومن القاهرة بالذات كانوا يلتفون حولي ويتسابقون الى احاطتي بمشاعر الود والصداقة والشوق كانهم يلتفون بابن لهم شارع مائة وثلاثين سنة ثم عاد اليهم، وحين كانت تعجزهم الالفاظ العربية كانت تغرورق العيون بالدمع، وتكون النظرة الصامتة ابلغ من كل كلام.
ومن اجل هذا ايضا فان الجزائر تدعو عشرات من الزوار العرب لزيارتها، وهم هنا يريدون ان تقوم حركة جماعية في المدارس والجامعات والمصانع في تنظيم رحلات لزيارة الجزائر، فان ذلك يعني هنا اكثر من زيارة، انه يعني انهيارا للحواجز الحديدية التي اقامتها فرنسا من حول الجزائر لتمنع اتصالها بالعرب.. لقد انهار السد الذي اقامته فرنسا بين الجزائر والعرب.. الى الابد..
وهنا كلمة يجب ان تقال عن الحياة السياسية في الجزائر، فالرئيس احمد بن بيللا لم يصبح قائداً للثورة الجزائرية لبطولته الشخصية ولقدرته الخارقة في استشفاف الحوادث ورؤية خيط النور الضئيل وسط الظلمة الثقيلة فحسب، وليس بسبب صموده الباسل امام عواصف الخطر الذي يفقد الامل وامام المغريات التي تسهل الطريق فحسب، وليس بسبب دراسته العلمية لظروف المجتمع الجزائري وبناء الثورة على اساس التنظيم الدقيق فحسب، لقد كان هذا كله سببا في ان يكون احمد بن بيللا قائدا للثورة الجزائرية وزعيما للشعب الجزائري، ولكن الاخطر من هذا كله في تكوين شخصية القائد الثوري هو قدرته على الاستماع الى قلب الشعب، وتفهم دقاته وخفقاته وخلجاته. واحمد بن بيللا رجل قادر على الاستماع الى قلب الشعب وفهم كل شيء. انه قلب عربي.
وفي الجزائر اليوم تشق الثورة طريقها الاصيل بقيادة بن بيللا ويتيح على جانبيها حمقى اليسار واليمين معاً.
فحمقى اليسار ينظرون الى ثورة الجزائر كتطور ثوري في بلد مستعمر، ويقرون الاحداث بفهم مغلوط على اسس ماركسية وهمية، وينظرون الى اوروبا كوجهة تسير اليها الجزائر، ويريدون من وراء ذلك استمرار انفصال الجزائر عن الجسم العربي الذي يصفونه بالمتأخر والوهن، ولكنهم يخطئون خطا قاتلا يرتد اليهم حين ينسون بان العامل القومي، منفصلا عن كل سبب اقتصادي رغم وجوده، كان العمود الفقري للثورة الجزائرية.
ان العامل القومي هو الاساس، ومحاولة تفسير الثورة الجزائرية على اساس اقتصادي فقط مع اهمال العامل القومي كما يفعل دراويش اليسار ينتهي بهم الى خارج الحياة السياسية كلها.
وحمقى ليمين بدورهم يخطئون في فهم الثورة الجزائرية عن عمد او لا.
فهم حين يرون العامل الديني هو المحرك وهو كل شيء ينسون ان الدين في المعركة كان سلاحا في تثبيت الشخصية الجزائرية وتحقيقها، وانه لا تعارض هناك بين الدين والقومية، وحين ينظرون الى الاستقلال وكأنه تغيير الادارة الفرنسية بادارة عربية فقط فانهم لا يرتكبون خطأ فقط وانما يرتكبون جريمة، وكما يقول بن بيللا: ان هنالك كثيرين ينظرون الى الاستقلال وكأنه وسيلتهم ليحظوا مكان المستعمرين الفرنسيين! هؤلاء لا مكان لهم في الجزائر المستقلة.
وحمقى اليسار الذين يتعاملون عن عروبة الجزائر واصالة شخصيتها القومية وحمقى اليمين الذين يقومون بدور دون كيشوت في محاربة التطور الاجتماعي، يجتمعون معا في جبهة مهترئة واحدة فتطحنها رحى الثورة الجزائرية الجبارة التي تمضي في طريقها نحو النصر.
هذه كلمة سريعة عن بعض جوانب الصورة السياسية هنا.
ان الاف الخواطر والملاحظات والمشاهد تمتليء في ذهن كل عربي يزور ارض المليون شهيد.. انهم مليون شهيد فعلا.. واذا كان هنالك من يستطيع ان يجعل لحياته بعض المعنى فان هؤلاء جعلوا من مماتهم اعظم معنى، فقد كان استشهادهم تحقيقا لكل المعاني الفاضلة في الحياة الانسانية.
وكما يقولون هنا: الله يرحم الشهداء.

ذات صلة