الملك غازي في وثائق السفارة البريطانية

الملك غازي في وثائق السفارة البريطانية

قبل ان يتولى العرش بأيام قلائل ، كانت شهرة (( غازي )) الملك الجديد قد طبقت الافاق ، ففي السابع والعشرين من شهرأب 1933 ذهب((غازي)) الى الموصل في جولة تفتيشية يرافقه فيها كل من رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني ، ووزير الداخلة حكمت سليمان . ما ان دخل ولي العهد غازي مدينة الموصل حتى استقبل بالترحاب المتواصل ، والهتافات الحقيقية التي كانت تنادى ((ليسقط البريطانيون ، ليسقط المستعمرون ))

وما ان شاهدت الجماهير قوات الجيش حتى تعاظمت حماستها لها وللامير . ولكن اسم والده لم يذكر حتى ولا مرة واحدة ! ولقد قام ولي العهد بكل رزانةووقار بتوزيع الاوسمة على بكر صدقى وقادة الجيش المنتصرين ومع أن زيارة غازي للموصل لم تكن متعمدة الا انها في الواقع ادت الى توجيه التيار بشكل خطر ففي خلال اسبوع بعد تلك الزيارة اصبح غازي ملكا على العراق وهو في الحادية والعشرين من عمره وغير متزوج .كان غازي جريئا وظريفا معا كما كان ايضا رئيسا صالحا للشموخ السياسي والجسماني .
ولقد تأكدت من هذه الصفة فيه عندما تلقت معه الطريق الضيق المتهدم الذي يؤدي الى قمة منارة سامراء فما ان بلغنا اضيق نقطة فيها قريبة من القمة حتى اخذت الح عليه بأن يتوقف عن الصمود لكنه رفض ان يتوقف ،واستدار حول اخر دورة من المنارة وتسلق قمتها العالية جدا .
لقد كان من الخطر جدا بالنسبة الى اى انسان ذي عقلية جيدة بشكل استثنائي بأن يقدم النصح حقا الى امير مايزال فتى وغير متزوج فلو سقط الامير فان مصير الرجل الانكليزي الذي كان يرافقه :لا بد ان يكون قصيرا ومن دون ان يحسد عليه .
كان المنظر من فوق قمة المنارة شاعريا فقد كان نهر دجلة يتلوى عبر الصحراء ، وهو في لون الفضة بين الضفاف الغارقة في السهل الذي يمر بالمدينة الصغيرة المسورة بقابها ومناثرها .
كان الامير الفتى منفصل الاحاسيس . وكان وجودى فوق برج سامراء العظيم مع امير متهور قد ذكرنى بمشاهد من المغامرات التي كانت تحفل بها القصص الخيالية في برطانيا خلال القون الثامن عشر [مثال قصة وليم بكفورد المصونة ((فاثك))] لقد كنت اتوقع نشر بدايات هذه المغامرة من اخ الملكة، الذى كان يكافح هو الاخر لتسلق البرج وراءنا .
وفي النهاية لم يكن اهل سامراء او ضيوف (الخليفة) هم الذين اغاضوا غازي ذلك الامير العنيد وانما كان الذين اغاضوه هم ملاحو القوة الجوية الملكية الذين كانوا يتناولون غداءهم خلال نزهة في باحةالمسجد المتهدم وقد كان السحر الوحيد الذى افتتن به الامير هو طيرانه معهم عائدا الى بغداد.
حدثت خلال السنوات العشر التي انقضت على قيام الملكية في العراق تغيرات كبيرة في العاصمة وفي اوضاع سكانها فلقد اصبح الناس مقتنعين الان بانهم قد غدوا متمدنين ومتعلمين ويبدو ان التعليم كان مهما بالنسبة لهم .
عندما وصل والد غازي الى بغداد كانت معرفة الكتابة ماتزال تمثل سرا بالنظر الى معظم افراد شعبه . وكان الكتبة الذين كانوا يكتبون للجمهور ، يجلسون القرفصاء في صفوف خارج الدوائر الحكومية .اما في الايام فقد اصبحت كلمة (مدرسة) تدور علىكل لسان لقد كانت كلمه (المدرسة) تعني بنايات حديثة يدرس فيها الشبان ، وقلة من الفتيات ، الموضوعات الاعتيادية .
لقد كان الجميع يعتنون بذلك عناية جدية، ويتطلعون الى المستقبل لقد كان لهذه التغيرات الكثيرة التي حدثت خلال عشرة اعوام تأثير مسر على الشباب . وكل ماهو جديد وقتي كان حسنا وكان غازي هو الملك الجديد والفتى وعلى ذلك يجب ان يكون حسنا ولهذا كان يقابل بالترحاب ، حيثما ذهب يقول ((لونغريغ ) عن غازي بأنه كان (جم النشاط ووطنيا متحمسا ولطيفا ولقد كان محبوبا من لدن الجمهور ،ولدى الشبان من الضباط العراقيين لقد تعلم –بعد فترة غير موفقة –في كلية (( هارو)) لكن افتقاره الى الاعداد الذهنى ، والاهتمام بالشؤون العامة ، وانغماسه في الملاذ والرياضة ، قد ابدعنه الامل للتدليل على استعداده لادارة المهام الملكية في العراق ))
وفي خلال ستة اسابيع من ارتقائه العرش اقدم الملك الشاب وبنصيحة من ((علي جودت)) رئيس الديوان الملكي على التصدي لاعضاء حكومته مما ادى الى استقالتها برمتها .
وفي الشتاء الذى اعقب توليه العرش ، تزوج غازي من ((عالية)) ابنة عمه الاولى ((بنت علي)) الملك السابق للحجاز ، وهى فتاة ذات حساسية ملحوظة .
وعندما سقطت الوزارة انتقلت رئاسة الوزارة الجديدة الى علي جودت الايوبي رئيس الديوان الملكي ، والذي كان يسعى اليها دون ريب . كما تم دعم مجلس النواب الجديد بمن رشحهم علي جودت نفسه من النواب كان ((علي جودت)) –وهو رجل ضئيل الجسم ذا شعر متقلص وعينان وسوداوان ومدورتان –ذا تربية عثمانية ومن مدينة الموصل حيث كان يعمل ابوه في سلك الشرطة . ولقد تخرج في الصف السياسي المهني مع رجال من امثال نوري السعيد وجعفر العسكري ، اولئك الذين لا يشبهون اعضاء عائلات ((السعدون)) ((الكيلاني)) وغيرهم من العوائل والذين يخسرون الكثير ولا يحصلون الا على القليل من وراء الانغماس في الامور السياسية .
بدأالاضطراب الذى سببه سوء الادارة في الجنوب في منطقة الفرات الاوسط وادى الحديث عن وجود تآمر مسبق الى زيادة النقمة في تلك المناطق وفي المدن سوية .
ولقد حاول (علي جودت) ومن دون فعالية ، ان يحافظ على النظام وذلك عن طريق فرض الرقابة ، ومنع الاجتماعات والصحافة ، ولكن الغليان في الجنوب لم يخف بيسر .
ولما كانت مساندة الملك غازي لملي جودت قد جلبت له الانتقاد فقد اضطر الى تغيير الحكومة مرة اخرى ، فأسند رئاسة الوزارة اول الامر الى (جميل المدفعي) ومن ثم الى (ياسين الهاشمي ) وكلاهما من القوميين ذوي التربية العثمانية ، ومن اتباع الملك فيصل وكان جميل المدفعي قد شارك في قتل ضابطين بريطانيين في (تلعفر) بشمالي العراق في سنة 1920 وظل التدخل البريطاني يحول ، لمدةطويلة ، دون تقدمه في مثل هذا الوقت من التغييرات ، عدم الاستقرار سمح الملك لنسر كنهان كورنوواليس مستشار والده بأن ينهي خدمته الطويلة في الحكومة العراقية .
وفي حزيران سنه 1936 تم استئصال واحد من الاضطرابات العشائرية المتمدد في منطقة الفرات بقوة على يد بكر صدقي امر الجيش في تلك المنطقة في أعقاب تولي علي جودت ادارة الامور
ومع ذلك فقد بقيت المنطقة اجد ماتكون عن الهدوء حيث تم تطبيق التجنيد الاجباري في العراق وزيدت القوة الجوية الملكية العراقيه الى ثلاثة أسراب واستخدم الجيش والقوة الجوية للمحافظة على النظام
لقد كان التجنيد الاجباري على رأس النظام الوطني ذلك اثناء جيش كبير هو الرد المقنع على التقول عن مدى استعدادالبلاد للاستقلال فقد قيل ان ذلك سوف يضمن الدفاع والامن القومي معا.
ففي تلك الحالة وأن كان قد تم تحقيق الاستقلال من دون اعلان التجنيد الاجباري الا ان قضية التجنيد قد طرحت بسرعه للنقاش في البرلمان وذلك نتيجة الخوف الذي كان يحس به من أعمال التمرد العشائرية والتي كانت تشجع انذاك من قيل حكمت سليمان ومن قبل المعارضة ايضا وما عدا الاسباب التي ذكرت بصفة رسمية وفي مجلس النواب كانت المظاهر الاخرى لقضيه التجنيد الاجباري قد اصبحت مدار الحديث في بغداد فلقد سألت احد الوزراء في احدى الحفلات وفي وقت متأخر عن مسألة التجنيد الاجباري فأجابني بأنة امر فاخر وان اليهود هم في مقدمة الذين سيدعون الى الخدمة العسكرية وانهم سيدفعون بدلا عنها وان هذا البدل كما قال الوزير _سوف يبلغ خمسمائة أو الف دينار وهكذا يكون التجنيد الاجباري قد هيأ المال اللازم لنفقاته بل ووفر الاموال للبلاد.
تم اقرار القانون الوطني في سنة 1934 في عهد رئاسة جميل المدفعي واصبح نافذ المفعول في السنة التالية وقد استمرت شعبية غازي تتعاظم لدى الجيل الثاني الى ان بلغت درجة العبادة فقد كان الضباط الشباب يحملون صورة وظلوا يحتفظون بواحدة منها في مفكراتهم بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ.
ومن ناحية اخرى اخذ الملك يفقد منزلته بين شيوخ العشائر وبعض الافراد في المدن وذلك بسبب قصر نظره.
اما الحكومة ذاتها والتي كان يرأسها ياسين الهاشمى فقد كان يبدو عليها بأنها كانت ثانية وان اخر شيء يمكن توقعه هو حدوث انقلاب عسكرى ضدها.
في شهر تشرين الاول سنة 1936 كان رئيس اركان الجيش قد ذهب في زيارة لتركيا وخلف بكر صدقى نيابة عنه.
ولقد هيأت مناورات الخريف في منطقة ديالى لتركيز كل القوات المسلحة خارج العاصمة وكانت المؤامرة التي اعدهابكر صدقى وزعيم المعارضة حكمت سليمان لا يعرف بها سوى نفر قليل من الضباط كان من بينهم الامر الذى كان يقود احدى الفرق على مقربة من الحدود الايرانية.
بعث القائدان برسالة الى الملك غازى يطلبان فيها تشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان الذى تسلم الرسالة لايصالها بنفسة الى الملك.
كانت القوة الجوية التي يرأسها محمد غلي جواد الصديق المؤتمن لبكر صدقى قد احنشدت هى الاخرى في قرءفات وقد زودت بمنشورات لالغائها على بغداد في اللحظة المحددة.
وفي الثامن والعشرين من شهر تشرين الاول بدأ الجيش يتحرك نحو بغداد.
كان مقر القوة الجوية الملكيه البريطانيه في الهندى قد داخله الشك في أن شيئا ما كان يحدث وذلك عندما اقلعت طائرات. القوة الجوية العراقيه دون ان تعلن عن الجهة التي تقصدها وعلى أثر ذلك اصدر قائد القوة الجوية البريطانية مارشال الجو متشل اوامره باعلان حالة الانذار وبعث بأحد ضباط الاركان الى وزراة الدفاع في بغداد لمعرفة الاوضاع.
غير ان رئيس البعثة العسكرية البريطانية قد اخبر ذلك الضابط بالقلق مادام جعفر العسكرى وزير الدفاع قد ذهب بنفسه لمواجهة بكر صدقى وارجاعه الى عقله وقد رد ذلك الطيار يقول من الحمق اننا نود ان ترى سكين جعفر على قيد الحياة مرةاخرى !.. ولما كان رئيس البعثة العسكرية البريطانية من مؤيدى الحركة التي اقدم عليها جعفر العسكرى فقد حدثت أنذاك لحظة صمت انتهت باطلاق صوت طائرة محلقة فوق الرؤوس اعقبه وقوع اربعة انفجارات على مقربة من وزارة الدفاع واذ ذاك قال الضابط الطيار عشرون رطلا اكثر على الارض.
كان تأثير هذه القنايل الاربع الصغير مشهودا فقد تدافع الناس للخروج وزارة الدفاع التى كانت هى الهدف ولقد وجد البعض ملجأ لهم تحت اقواس بناية قديمة معقودة قبالة وزارة الدفاع لكنهم سرعان ماانتقلوا منها عندما وجدوا انها كانت مخزنا.
وهكذا انتهت على حين غرة كل الخطط التى اعدت لمواجهة التهديد لا ن الذين وضموا تلك الخطط سرعان ماذابوا.
ولما كانت التلفونات قد قطعت فقد بدأ ذلك الضابط البريطاني الطيار رحلة العودة الى معسكر الهندي لكى يعلم مارشمال الجو يحقيقة الامر غير ان هذا العمل قد استغرق منه وقتا طويلا لانة استدار لكى بتجنب خروج الناس من المدينة.
التقى جعفر العسكرى بالجيش في منتصف الطريق بين بعقوبة وبغداد فتم قتله في الحال واذ ذاك دخل بكر صدقى مدينة بغداد من دون مقاومه وأعتبر بالتأييد الحماسى الذي لقيه من الملك غازى بطلا قوميا.
وجد نورى السعيد وزير الخارجية مأوى له في السفارة البريطانية كما اختفى اخرون كثيرون ولقد واجهت السفارة البريطانية مشكله نقل نورى السعيد منها عبر المدينة الى معسكر الهندى كما يستطيع مغادرة البلاد على متن احدى طائرات القوة الجوية البريطانية.
وفضلا عن ذلك فقد اصر نورى السعيد على ان يصحب ولده صباح الذى هدد بالقتل واستطاع الالتجاء الى السفارة المصرية التي كانت مثل السفارة البريطانية تخضغ لرقابة صارمة.
ولا بد ان يكون الرقباء الذين بينهم بكر صدقى قد اطالوا التفكير ظهر ذلك اليوم في سيارة السفارة البريطانيه وهى لا تحمل سوى راكب واحد من موظفى السفارة ذاتها ومعه صناديق الرسائل والوثائق وقد اتجهت الى معسكر الهندى لغرض عقد مؤتمر في مقر القوة الجوية البريطانية فأذا لم يفتح اولئك الرقباء باب السيارة فانهم لن يستطيعوا رؤية نورى السعيد مستلقيا على ارضية السيارة في الخلف وقد غطي بسجادة !
كانت السسفارة المصرية تقع في شواحي بغداد عند الطريق الذاهب الى المعسكر وقد تم ارسال مخبرين الى صباح اخبروه بأن التعليمات التى اعطيت له حتى أخر ثانية من الوقت.
في الساعه الخامسة الا خمس دقائق كان صباح وزوجته عصمت يقفان خلف باب السفارة المصريه وعلى استعداد للصعود الى سيارة كانت تسير ببطء دون ان يأخذا معهما اية امتعة وقد تم توقيت الساعات عن طريق الهاتف وقيل ان تمر ساعة واحدة وبضع دقائق انطلقت سياره قديمة من طراز فورد كان يقوها شخص مدنى بريطاني ببطء الى مبنى السفارة المصرية وكانها تزيد ان تجلب احد المدعوين بعد الظهر.
كان التوقيت قد جرى بشكل حسن ذلك لان السيارة لم تتوقف لكن صباح وزوجته الجريئة قفزا اليها اثناء ماكانت تسير وما ان بلغت السيارة نقطة الحراسة خارج ابواب السفارة حتى شاهد الرجال الموجودون هناك وهم مندهشون ان سائق السيارة كان يضع على رأسة قبعة ضابط في القوة الجوية البريطانية كما تم تشخيص الراكبين في المقعد الخلفي وعندئذ وكما هو متوقع حانت لحظة انعدم فيها اتخاذ أى قرار من الجنود الذين جوبهوا بضابط من القوة الجوية البريطانية الامر الذى جعلهم يسمحون للسيارة بأن تتحرك وتسدير عند الزاوية وهكذا انطلقت سيارة الفورد بكل سرعتها وتوجهت نحو معسكر الهنيدي ولقد تعقبتها سيارة خفارة تابعة للجيش العراقي بمنتهى السرعة لكنها كانت ما تزال متخلفة وراءها بمقدار ثلثمائة ياردة وهكذا استطاعت سيارة الفورد ان تجتاز نقطة الحراسة في المعسكر حيث بدأت الحواجز بعد ذلك.
سرعان ما اصبح نورى السعيد الذى لازمته الكأبة مستريحا مرة اخرى واخذ يتحدث عن الخطط التى يقترحها لزحزحة بكرصدقى والعودة الى الحكم لكنه في ذات الوقت غادر العراق الليلة الى مصر يصحبة أبنه صباح وزوجته عصمت في حين تم ابعاد كل من ياسين الهاشمي رئيس الوزراء ورشيد عالى الكيلانى الى سورية
لقد اخفق رئيس الوزراء الجديد حكمت سليمان في كل شيء سوى نقد نظام الحكم السابق ذلك لان طائفة الاخرى قد اخذت تتجمع في معارضته فالغليان المنبعث عن اثرة الحاقدة والفتنة كان يمثل الحياة الاعتيادية لاوساط شيوخ العشائر ،ورجال الدين في منطقة الفرات ، اولئك الذين رفضوا كل العروض التي عرضها حكمت سليمان لتهدئةذلك الغليان كما ذكر لونغرغ في كتابه .
كذلك كان مجلس النواب الجديد قلقا وبغيضا وقد تم القضاء على (جمعية الاصلاح الشعبي) بينما هرب عدد منهم خارج البلاد. وهكذا فقد الجيش الذى يخضع للسيطرة بشكل واضح والذى كان الجهة الوحيدة التي تساند رئيس الوزراء وبكر صدقي وبعد تسعة اشهر كانت فيها حياة الوزارة قلقة جاءت نهايتها مفاجئة مثلما بدات ففي اليوم الثامن من شهر اب سنة 1937 كان بكر صدقى ينتظر في مطار الموصل وهو في طريقه الى تركيا لحضور المناورات فيها حين تم اغتياله باطلاق النار عليه علانية من قبل جندي يعمل في مستودع احدى السرايا ولم يعش زميله محمد علي جواد قائد القوة الجوية العراقية بعده الا دقائق قليلة
وانقضى شهر من التردد حين ظهر وكأن حربا اهلية توشك ان تقع الى ان انضم امر الجيش في غربى بغداد ((سعيد التكريتى)) الى القائد العسكري في الموصل ((امين العمري) وعناصر اخرى من الجيش كانت تقاوم فتنة بكر صدقى ، في اصدار بيان يتضمن الولاء للملك غازي والذي دعا فيه ان لا يلجأ الى الانتقام كما وعد البيان بابعاد الجيش عن السياسة .
بقى حكمت سليمان من دون قوة فاضطر الى الاستقالة بفعل انقلاب عسكرى ثان .اما الجندى الذي اطلق النار على بكر صدقي فقد عين بوظيفة ذات مرتب حسن اذ اصبح بستانيا في وزارة الدفاع التي لم تكن فيها اية حديقة سوى الواح قليلة زرعت بأزهار الزينة ! واذ اشمأز الملك غازي من مغازلته غير الناجحة لقادة الجيش الطموحين حول اهتمامه الى هواية الطائرات الخفيفة ،والراديو والسيارات السريعة ،واخذ يختار رفاقا من درجة واطئة جدا على المستويين العسكرى والاجتماعى.
كان فيصل الاول قد صادق علىبناء قصر له لكنه لم يسكن فيه لانه توفي قبل ان يكمل بناؤه . كان القصر على غرار (الفيلات ) الفرنسية اطلق عليه اسم (قصر الزهور) وتم تأثيثه من احد مخازن الاثاث الكبيرة في لندن على ان اسوار هذا القصر لم تكن قوية بحيث تستطيع ان تصمد امام تقلبات الجو .فبعد سنوات من بنائه ، مست احدى السيارات احد جوانب ذلك القصر مسا خفيفا مما ادى الى تهدمه الامر الذي اثار دهشة وفزع ذلك الاجنبي الذي كان يركب تلك السيارة وعندما جاء غازي للسكن في ذلك القصر اضاف اليه اضافات عديدة ولقد قتل احد الرجال واصيب احد الطيارين بجروح خطيرة لان الملك غازي اراد التخلص من احد العبيد.
كان احد عبيد القصر يخشى كثيرا ركوب الطائرة مما اوحى الى غازي تنفيذ فكرة ما لقد امر ذلك العبد بأن يصعد الى الطائرة حالا وبرغم تشبثاته فقد ارغم على الدخول الى الطائرة. لكن ما ان حلقت الطائرة في الجو حتى امسك ذلك العبد بأسلاك السيطرة وترك الطيار من دون حول ،الامر الذى ادى الى سقوط الطائرة وتحطمها على الارض ولقد قتل ذلك العبد ،اما الطيار –وهو صباح بن نوري السعيد فقد امضى عدة شهور في احد مستشفيات انكلترا اذ تحطمت جمجمته ، وكسرت ساقه ، وتعطلت يده وذراعه عن الحركة ومن الالاعيب لديه انه كان يربط ادوات الاستعمال اليومية في القصر ،بطاريات كهربية ،بحيث يصاب الزوار والخدم برجات عندما يلمسون تلك الادوات وحين يعلمون بذلك يزداد حذرهم فيتعاظم سروره ويطلب اليهم ان يناولوه شيئا من تلك الادوات في الوقت الذي يقطع فيه التيار الكهربائي عنها .
اصبح الملك غازي شديد القلق بشأن قلبه الذي كان سليما تماما في الواقع فبعد ليال من الانس كان يشعر بأنه متعب ، فيبعث وراء طبيب ويضع يده على قلبه ويقول (ان قلبي في هذا الموضع ضعيف ! لقد كان هذا الخوف ناجما عن تذكره وفاة والده وعما قاله الاطباء بشأنه حينذاك .
ولقد اعتاد على الدوام ان يضع نظارات غامقة على عينيه وان يحمل في بعض الاحيان مسدسا ومع ذلك كان ظرفه عظيما ونظاراته حيوية ، تقهر كل الناس الذين كانوا على اتصال معه كتب السر موريس باترسون السفير البريطاني فيما بعد الملك في كتابه ((على جانبي الستار)) يقول
(انه ضعيف وغير مستقر كالماء ! وان عادته المتطرفة كانت ترتبط باختياره الاصدقاء من بين اشرس ضباط الجيش الشبان بل حتى خدمه في القصر وهذا ما ادى الى استحالة سيطرته وجعل من الصعب عليه ان يكون له تأثيره ، فأصبح هذا الامر خطرا على الجميع وعليه هو نفسه بصفة خاصة لقد كان اهتمامه الذكي الوحيد الصحي منصرفا الى الطيران فقد كان يمتلك جملة من الطائرات الخاصة به في مطاره الخاص وكان قادرا ومتشوقا دوما الى التحليق بها في الجو وكان يتجنب الظهور جدا امام الجمهور ولا يفعل ذلك الا في انذار الحالات .اتخذ اهتمام الملك غازي بالاذاعة منحى متطرفا فقد بنى له محطة اذاعة خاصة كان يذيع منها بنفسه ويضع المناهج التي كانت تسر الجمهور المحافظ وتزعج الاجانب وقد اتخذت هذه الاذاعة في النهاية لها صفة سياسية فراحت تهاجم الكويت باستمرار .
وكان الشباب العراقي يستمع الى الاذاعة وينجذب الى الملك الذي كان يديرها ولغرض مضاعفة التأثير فقد امرت القوات العراقية بالتوجه الى (الزبير)، لا قرب الحدود الكويتية كما شجعت الشرطة العراقية على التسلل الى داخل الاراضي الكويتية حيث قامت باقتلاع علامات الحدود في الصحراء ونقلها بضعة اميال على مقربة من خليج الكويت والدخول الى اراضي العراقية .كانت الشعارات التي تنطلق من اذاعة الملك غازي تعلن بأن(حاكم الكويت رجل اقطاعي ولانفع فيه)(وان على الكويت ان تنضم الى العراق )ولقد تضاعفت هذه الشعارات والاعلانات بعد العثور على النفط في الكويت .
كان السفير البريطاني في بغداد السر موريس هو الرجل المصيب الذى اوكل اليه امر معالجة هذا الشذوذ الغريب في مسلك الملك غازي وقد نجح في تحقيق نتائج اكثر مما كان يتوقع ،ومع ان الاذاعة لم تنقطع الا ان الملك قد تحول الان من مهاجمة الكويت الى مهاجمةعمه(عبدالله)امير شرقي الاردن
كانت الملكة ((عالية)) التي انجبت للملك غازي ولدا في سنة 1935 ذات تأثير كابح عليه ايضا لقد جاء فيصل الثاني الى الدنيا ،بمساعدة من الدكتور سندرسن والممرضة البريطانية المس (( بورلاند)) التي كانت تعمل قبلا لدى العائلة المالكة في الافغان ،ولقد بقيت لدى العائلة الملكية العراقية حتى مقتل فيصل الثاني في صبيحة اليوم الرابع عشر من تموز 1958 كان عبدالاله قد بنى –بعد وفاة ابيه الملك علي مباشرة –بيتا له على مقربة من قصر الزهور واطلق عليه اسم ((قصر الرحاب )) وكان يضيف الى بيته هذا وبمباهاة من وقت الى اخر المزيد من الغرف والرحبات والاصطبلات وغرف الحراس والخدم وغيرها من المرافق الاخرى كما زود قصره ذاك بنافورة وبركة للمياه وانشأله مداخل لولبية بين الابواب الحديدية والسلالم التي تؤدي الى شرفة امام الباب والى اليمين من النافورةالتي كانت تواجه القصر ،تقع ساحة واسعة اعدت لسيارات المدعوين وكانت الحديقة تضم من الاشجار والزهور والنباتات التي كانت تنمو بسرعةفي جو مثل جو العراق وكانت غرفة الصورة في القصر تضم طائفة من صور افراد العائلة رسمها فنان بولوني يدعى(نوربلان) قد ضمن هذه المجموعة صورةعبدالاله وصورة الملك غازي-وهما من صنع نوربلان والرسام الايطالي (ديفاس)
في هذاالقصر كان عبدالاله يعيش مع امه (نفيسة) وشقيقاته (عابدية) و(بديعة) و(جليلة) كما كان لملك فيصل الثاني يبيت الليل في هذا القصر ايضا ....

عن كتاب الملك غازي
د. محمد حسين الزبيدي