الكاتبة لطفية الدليمي.. ثراء الإبداع الحقيقي

الكاتبة لطفية الدليمي.. ثراء الإبداع الحقيقي

كُليزار أنور
« من زنبقةٍ صغيرة .. إلى سنديانةٍ عظيمة بعطائها الأدبي « .
بهذهِ الكلمات البسيطة دونت إهدائي على أول رواية صدرت لي ، وأرسلتها إليها .. مع خالص احترامي . هكذا رأيتها _ حقيقة _ ( سنديانة عظيمة ) . وعندما اطلعت على آخر كتاب صدر لها (( برتقال سمية )) . وأنا أقرأ بطاقة التعريف عما صدر لها من أعمال

( قصص وروايات ودراما ودراسات نقدية ) شعرت بأنها أكبر من أن أصفها بالسنديانة وحسب .. بل هي غابة من السنديان .
(( برتقال سمية )) .. مجموعة قصصية لها لغة حسية مدركة ، متجسدة ، لها ملمسها ، ومرئية ، لها حضور بصري ، ولها فكرها ومفهومها بحيث يتمكن القارئ من رؤية الفكرة . قصص لها بعدها الفلسفي وفق رؤية خاصة تهدف إلى صياغة الأعماق البعيدة في النفس البشرية . قصص ممتلئة بروائح الوحشة والنفاق والغدر والرحيل ، ونبرة الضياع مسيطرة كلياً على أجوائها لتؤكد لنا بأن كل ما حدث كان نتيجة حتمية للحرب التي عشناها ونعيشها !

(( سكان الفورمالين ))
قصة تفصل ثنائية العتاب بين حبيبين يمتهنان الكتابة . طالما الحب مستمر ، فلا نرى سوى محاسن المحبوب .. ومع أول خطوة انحدار نحو الانتهاء تظهر العيوب التي لم تُرَ .. وتبدأ سلسلة الاتهامات (( وأعرف أنها ما أحبتني يوماً وأنا الذي نصبتها وثناً متألقاً أسفح أمامه حبي وتخيلاتي وأعرف أن المرأة الوثن لا تبذل لمن يحبها غير بريق المعدن الذي تتزين به وصمت الحجارة وتتخفى في دخان غموضها )) ص 7 .
وهي ترد عليه بكراهية أعمق حب عاشته (( وأراه ينحدر على السفح ويساقط الأوراق من جفاف بساتينه ، وأنا غير آبهة بهذا أو سواه وأمشط شعري الليلي الطويل تاركة حفيف أشواقي يتدفق إلى رجل جدير بسماواتي )) ص 8 .
حوارات متبادلة أشبه بالرسائل لتحكي حكاية حب قد انتهت بالفشل والضياع.

(( نبرة الفراديس المؤقتة))
« زينب البغدادية « ابنة لمدرسة علوم تعلمت من والدتها ما لم تتعلمه في كلية الهندسة .
مقارنة جميلة بين هجرة الطيور وهجرة البشر ، والطيور ليست كالبشر ! فأخوها « سلوان « هاجر في الخريف مع الطيور ، وعادت ولم يعد ! ليسَ « سلوان « وحده مَن هاجر .. بل الحبيب والخطيب « فرات « . (( زينب وعشرات الزينبات يتربصن بالوعود الفردوسية الطائرة وعشرات الزينبات خطبهن شباب مهاجرون عبر الرسائل والأحاديث الهاتفية وأرسلهن الأهل مرزومات كالطرود البريدية عبر الطريق الصحراوي الطويل إلى ( عَمّان ) برفقة رجل من المحارم ليسلم الفتاة سالمة من غير سوء إلى الغريب الذي عقد الصفقة عبر البريد معهم .. صفقات مهينة أنجبتها عبقرية الحروب والحصار وهجرة الرجال )) ص 32 .
ليسَ لزينب سوى الانتظارات للخطيب المهاجر ، وهي لا تعلم بأنهُ تزوج من مطلقةٍ إيطالية لها ولدين طمعاً بنيل الإقامة في بلدها !

(( كابوتشينو ))
وهي امتداد لقصة (( نبرة الفراديس المؤقتة )) .. حكاية « فرات « بعد أن ترك الوطن والحبيبة واضطر للارتباط بالإيطالية التي _ ربما _ لا تعرف عن بغداد سوى أخبار نفطها وحروبها .. وأنها بلاد ( ألف ليلة وليلة ) . ولم يبق من زينب في قلبه سوى الذكريات .. ذكريات وانتهت !
أعجبني جداً ما فعلته القاصة الدليمي حين ربطت بين ( الكابوتشينو ) هذا الشراب الإيطالي الفقاعي _ هو مزيج من الحليب الرغوي ترش عليه القهوة الجاهزة _ وثلاث نساء مروا في حياة بطل القصة « فرات « . الأولى امرأة جميلة دعته ذات مساء شتائي لاحتساء الكابوتشينو لأول مرة ، لا لشيء سوى للمرح ولإغاضة صديق أهملها . والثانية .. زينب ابنة خالته وخطيبته التي تركها ومضى مهاجراً .. هو دعاها لهذا الشراب _ ربما _ إحياءً لذكرى الأولى . والثالثة .. الإيطالية التي شبهها بالكابوتشينو ، فقد كانت شقراء ثلجية البشرة يتناثر فوقها نمش ناعم مثل قهوة الكابوتشينو !

(( برتقال سمية ))
برتقال بستان السيدة سمية ، كل برتقالة بحجم خمس برتقالات . برتقال سمية الذي تحول إلى أعجوبة من أعجوبات الشرق ووصل إلى القواعد الأمريكية ! البرتقال هنا لم يكن سوى رمز أرادت أن تصل به الكاتبة إلى شيء لا يفهمه إلاّ مَن أراد الفهم ! .. لأننا لم نشم قداح البرتقال ، فقد كادت رائحة الحرب والدم والحصار أن تخنقنا ألماً وحزناً وضياعاً.

(( نوستالجيا بغدادية ))
فهي عمل سردي كثيف يؤرخ لحياة مدينة . ففيها تتحدث بغداد لتحكي مأساتها (( المأساة ؟ .. تعرفونها ! .. تعرفون أن لا شيء كامل بذاته في هذا العالم سوى المأساة )) ص 74 .

((السيكلوب الأزرق))
الحياة لابد أن تستمر .. ولابد أن يأتي رسول الخلاص في يومٍ ما .. حتى لو أصبحت الحرب بصمة العمر الوحيدة التي نقشها القدر _ في لوحهِ _ على جبين هذا البلد الذي مازال يحلم رغم كل مصائبه . حكاية لطيفة نسجت خيوطها بين قلبيّ « عمران ورابية « لتكون وشاحاً وردياً يغطي جسد الحيرة من مخاوف المستقبل الذي ما عاد بوسعنا الارتماء في مجازفات مجهولة النهايات.
« رابية « استطاعت أن تحفر المسار الصعب في متاهاته الحجرية (( صوتها صار راية نصره في فضاء المدينة المقصوفة )) ص 105 .
أوهام تقوده إلى أوهام زرعتها الحرب في مخيلته ، ما عاد يعرف أين هو من الحقيقة ! ياه .. ماذا فعلت الحرب بالناس ؟! .. هواجس ذلك اليوم _ من أيام الحرب _ مازالت تلاحقه بالكوابيس بعد أن قتمت لون يده اليمنى ، التي ضغطت على الزناد _ ربما وهماً _ وأطلقت الرصاصة ، فخلفت عليها آثار حروق بشعة ، ورغم أنه سرق ( السيكلوب الأزرق ) وحقن أبرز عضلة في راحة يده .. فانتهت بالشلل !
وعندما روى لرابية كل شيء (( لم تدهش ، لم تستغرب ، لم تضحك ، كل ما قالته له :- وداعاً ، إنك بالغت في تجاهلي وأمعنت في أكاذيبك ، كنت أنتظر أن تشركني في اتخاذ أخطر قراراتك .. إنما على أية حال .. وداعاً .. وهنيئاً لك السيكلوب الأزرق )) ص 122 .
أُعلن ، بأنه ، على الرغم من إعجابي الشديد بكل قصص المجموعة .. إلاّ أن هذهِ القصة _ تحديداً _ كان لها الوقع الأكبر في نفسي !
(( برتقال سمية )) . مجموعة قصصية للقاصة لطفية الدليمي صادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد / 2002 . a