ستالين

ستالين

بقلم: برنارد شو
منذ اكثر من عشر سنوات، عرضت على جرائد هيرست الامريكية 20 الف جنيه للسفر الى روسيا وموافاتها بملاحظاتي ولكنني رفضت، لانني رجل اعمال من الصنف البسيد!
وحدث بعد ذلك بسنوات ان زارتني الليدي استور مع ابنها، وعرضت علي ان اصحبها الى موسكو، فحزمت امتعتي وسافرت معها مجانا!

استور احد اعضاء البرلمان عن حزب المحافظين، وعلى ذلك فقد صدقت اقوال صحف المحافظين عن الجوع في روسيا، فاخذت معها من الطعام المحفوظ ما يكفي لاطعام خمسة اشخاص لمدة اسبوعين.
وقد اتضح لنا كذب الصحف عن "المجاعة"، واضطررنا عند مغادرة موسكو ان يوزع الطعام المحفوظ على خدم الفندق كيفتسيش!
ولقد اعجبني المطبخ الروسي، كما تلذذت من العيش الاسود وشوربة الكرنب!
ولم اتضايق من القرنبيط الذي كان يقدم لنا في كل وجبة، وعودت نفسي على شرب الشوربة في نهاية الطعام بدلا من بدايته، احتراما للتقاليد الروسية.
ولكن زملائي في الرحلة كانوا من اكلة اللحوم، ولذلك لم يعجبهم الطعام كما اعجبني.
وكان قد قيل لنا ان الفندق سيزدحم بالجواسيس الروس، فاذا به مزدحم بالامريكان الذين كانوا يتحدثون بلغة اصحاب الاموال.
ولم يحدث لنا حادث في الفندق الا عندما تعطل المصعد وبقيت متشعلقا بين السماء والارض ومعي الليدي استور!
وحدث ان اوصلت زوجتي الليدي استور ان تغسل لي رأسي وذقني كل يوم لانني انسى غسلهما.. وحدث ان كان باب الحجرة مفتوحا، فاقبلت كل موسكو لتتفرج على ذقن برنارد شو وهي تغسل بالصابون!.
ولقد اختلفت انا والليدي استور على روسيا
فهي كسيدة ارستقراطية لا تفهم الرخاء الا ارتداء السيدات لملابس السهرة الرشيقة، وركوب الرجال سيارات الرولز رويس الفاخرة، وازدحام واجهات المحلات التجارية بالبضائع الثمينة، كما هو الحال في بوند ستريت بلندن والشانزلزيه بباريس.
وهي لم تجد في موسكو الا شعبا يرتدي الملابس الرخيصة، ويسير في شوارع اشبه بالاحياء الفقيرة في المدن الكبرى.. والمحلات التجارية تتعامل بالقروش والملاليم بدلا من الالاف والملايين!.
واتا شخصياً لا اهتم بهذا الترف فقد رأيت مرة في لندن خاتما من الماس ثمنه اربعة الاف جنيه جننت اعجابا به، ثم رأيت بعد ذلك خاتما اجمل منه ثمنه اربعة قروش.. ولم اشتر احدهما!
ولقد طلب زملائي في الرحلة مقابلة ستالينن اما انا فلم اهتم الا بمقابلة "كروبسكايا" ارملة لنين.
ولم يعترض احد على مقابلتي للارملة.. ولكنها كانت تؤجل من يوم الى يوم حتى فهمنا انها لن تتم!
قيل لنا مرة ان الارملة مصابة ببرد وزكام!
وقيل لنا انها امرأة عجوز تحب الوحدة ولا يصح اقلاق راحتها!
اردنا ان نزورها في موسكو فقيل لنا انها لا تقيم في موسكو، ولكن في كوخ بالريف!
ولما قررنا السفر اليها في الريق قيل لنا انها في موسكو!
وهنا ضربت الارض بقدمي واصررت على مقابلة ارملة لنين لانني مكلف باهدائها كتابا من كتبي.
وكان زملائي في الرحلة في دهشة من اصراري على مقابلة ارملة عجوز.
ولكن لما سمعت الليدي استور ان ارملة لنين قد اختلفت مع ستالين على سياسة التعليم، وان الخلاف اشتد لدرجة ان ستالين هددها باصدار امر عسكري بتعيين امراة اخرى ارملة للنين لما سمعت لادى استور ذلك قررت الا تغادر روسيا قبل لقاء هذه الارملة العظيمة!
واخيرا تبخرت العقبات وقابلت ارملة لنين..
وكان كوخها اشبه باكواخ الامراء لا الفقراء.
وكانت اقبح امرأة رأيتها في حياتي ولكنها كانت اجمل امرأة في حديثها الجذاب.
قابلتنا بترحاب واثبت لنا ظرفها ولطفها انها تكره العزلة والوحدة!
حاولنا ان نجرها الى الحديث عن خصمها ستالين.. ولكنها كانت تتخلص بلياقة من كل سؤال توجهه عن خصمها العظيم!
واخيرا استقبلنا ستالين..
وكان يختلف عن جميع دكتاتوريي العالم، بروحه الفكهة.. ليس ستالين روسيا بل انه رجل رشيق من جورجيا، له عينان جذابتان سوداوتان انه مزيج من البابا والقائد الحربي لو كان الكرادلة يتزوجون لقلت لك انه ابن كردينال قد اصبح ضابطا وكان الممكن ان اقول: انه جنتلمان من الطبقة الاولى لو انه استطاع ان يخفي سخريته منا!
فقد تركنا تفرغ كل ما في جوفنا ثم استأذن منا في الكلام!
ولم تفهم كلمة واحدة مما قاله..
ولكن كانت اسنان المترجم ترتجف فلم نستطع ان نفهم كلمة!
ولولا المسير ليتفونوف لما فهمنا شيئاً على الاطلاق.
ولقد استطاعت ليدي استور ان تهزم ستالين في المناقشة فقد قالت له:
- ان السوفييت لا يعرفون كيف يعاملون الاطفال.
فقال ستالين:
- انكم في بريطانيا تضربون الاطفال.
ولسعت هذه الاجابة الليدي استور كما تلسع ضربة السوط، ولكن لهذه اللسعة لم تسكت الليدي فاستطردت تقول:
- ان هذه الملابس النظيفة الرشيقة التي يرتديها الاطفال عندكم في الملاجئ ما قيمتها؟.. لقد قالت لي نظرة الملجأ انها لم تخرج بالاطفال في الهواء الطلق لان السماء ممطرة. يجب الا يهتم الطفل بالامطار..
ويجب الا تهتموا بنظافة ملابس الاطفال يجب ان تتركوا الطفل قذر الوجه واليدين ولا تنظفوه الا عند الطعام، ويجب الا يرتدي الملابس الانيقة..
يجب ان تكون ملابسه من الكاستور التي يمكن غسلها في نصف ساعة!
ارسل امرأة روسية لي في لندن وانا اعلمها كيف يعامل الاطفال الصغار!
ولم تتغير ملامح ستالين.. بل مد يده الى مظروف قدمه لليدي الانجيليزية وقال لها:
- اكتبي عنوانك
وكان ذلك ظريفا منه: واعتبرناها مجاملة لا غير! ولكن لا مجاملات في روسيا!
فعند عودة الليدي استور الى لندن كان في انتظارها عشرون فتاة روسية ومعهم خطاب من ستالين يرجو منها ان تنفذ الليدي اكسفورد وعدها!
وبعد الليدي تحدث اللورد لوثيان عن موقف حزب الاحرار البريطاني من روسيا واقترح ان تدعو الحكومة الروسية المستر لويد جورج زعيم حزب الاحرار في زيارة روسية ليرى التقدم فيها.
وابتسم ستالين وارتسم على وجهه ما يدل على انه يسمع نكتة:
- ثم قال: ان موقف المستر لويد جورج في محاولة اثارة حرب اهلية في روسيا بمساعدته الجنرال رانجل ليحارب الجيش الاحمر بجيش آخر تجعل من المستحيل دعوته الى روسيا دعوة رسمية.. ولكن اذا شاء ان يزورنا في زيارة خاصة سيزور كل مكان في روسيا.
وهنا تكلمت ان لاول مرة وسألت ستالين:
- وهل ترحبون بزيارة ونستون تشرشل؟
فاجاب!
اكون سعيدا جدا لو جاء مستر تشرشل الى موسكو.. فلدى الشعب الروسي من الاسباب ما يجعله يعترف بالجميل.
- اي جميل!
وضحك ستالين وقال:
- لما كان المستر تشرشل وزيرا للدفاع في الحرب الماضية ارسل الى اعدائنا الروس البيض مائة مليون جنيه.. واستولى الروس الحمر على المبلغ واشتروا به ملابس ومعدات للجيش الاحمر! ولهذا لاينسى الروس جميل مستر تشرشل!
وقد اعتقدنا ان مقابلتنا استغرقت نصف ساعة فلما خرجنا ظهر اننا قضينا مع زعيم روسيا اكثر من ساعتين ونصف، والتفت الى الليدي استور وقلت لها:
- ما رأيك في ستالين؟
- انه هادئ.. اسود العينين.
جنتلمان، ولكنه وقور اكثر من اللازم، فلم يبتسم مرة واحدة في المدة التي قضيناها معه!
ولم اناقشها في هذا، لان السنين قد علمتني الا احاول مناقشة النساء!.

مجلة الاثنين والدنيا
15/ حزيران 1944