مقال نادر لنوري ثابت (حبزبوز).. مصرع مدحت باشا

مقال نادر لنوري ثابت (حبزبوز).. مصرع مدحت باشا

نوري بك ثابت
حبزبوز
نوري بك ثابت، كاتب مشهور، وناقد بارع، وهو الى الهزل في اسلوبه ابرع منه في جده، إلا انه لم يقصر له في الثاني باع. ولم يدانيه في الاول مدان، تجد في نقده التهكم اللاذع، والسخرية المرة، والسهام يصوبها الى نحر خصمه فيصرعه وينتصر عليه.

والموضوع الذي نقرأ له اليوم مبحث تاريخي يهم العراقيين الاطلاع عليه، لما بين الماضي القريب، والزمن الحاضر من عبر وعظات.
لم يبق في العراق فرد يجهل هذا الاسم الجليل، اسم المرحوم (مدحت باشا) الذي لعب دورا مهما في اواخر تاريخ آل عثمان..
وللمرحوم في العراق من المآثر مالا تمحوه يد الزمان.. والحق ان وزارة المعارف العراقية ادت واجب عرفان الجميل في ادخال اسم هذا العظيم بين اسماء عظماء العرب والاسلام في منهج دراسة التاريخ للصفوف الاولية.. لذا انك ان سألت طفلا عراقيا عن هذا الاسم اجابك على الفور:
- نعم! اعرفه! انه مؤسس المدارس ودور الصناعة ومؤسس اول ترام بين الكاظمية وبغداد.. وباني المستشفيات.. وفاتح تجد.. الخ.
ولقد شاءت يد الغدر والخيانة، يد الطاغية المستبد (عبد الحميد) ان يذهب هذا البطل ضحية الخوف الذي لا يفارق قلوب الظلمة والخونة.. فكمل انفاسه في زندان (الطائف) وذهب الى لقاء ربه وفي عنقه طوق ازرق من الدم المحصور.. لانه – رحمه الله – مات خنقا..
لا اريد ان اطيل البحث على القراء في تاريخ حياة المرحوم والكثير منا يعرفها.. ولكنني سابحث باختصار عن نشأته وتقلبه في المناصب المختلفة الى تاريخ استلامه زمام الامور في العراق، ثم اوجز الاسباب التي دعت الى نفيه الى الطائف ثم اصف كيفية اغتياله مع المرحوم محمود جلال الدين باشا.
نشأته:
ولد بطل مقالنا في الاستانة في شهر صفر الخير سنة 1338 هـ واغتيل سنة 1301 هـ اذن فقد عاش 63 سنة هي عدد السنين التي قضاها معظم اعاظم التاريخ الاسلامي (سيد الانام محمد (ص) ابو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، علي بن ابي طالب... الخ).
كان والد المرحوم احد القضاة واسمه (الحاج حافظ محمد اشرف افندي) ابن (الحاج علي افندي) من مدينة (روسجق) احدى مدن بلغاريا الان على الضفة اليمنى من نهر الدانوب. وكان اسمه الاصلي (احمد شفيق) ولما بلغ العاشرة من العمر وحفظ القرآن الكريم اصبح اسمه حسب العادة المتبعة (حافظ احمد شفيق).
ولقد ذهب المرحوم مع والده الذي عين قاضيا على مديية (ويدين) ثم رجع منه الى الاستانة فتوسط له رئيس الكتاب (وزير الخارجية) عاكف باشا بالانتساب الى (الديوان الهمايوني) فتعلم (خط الديوان) واعطى له لقب (مدحت) فاصبح اسمه منذ ذاك التاريخ (احمد مدحت افندي).
وفي اثناء دوامه في (قلم الديوان الهمايوني) انكب على دراسة اللغة العربية والفارسية على يد اساتذة قديرين فاجادها وكذلك درس اللغة الافرنسية في هذه الاونة ولما كان المرحوم في حاجة الى العيش قبل التوظف، كانت اول وظيفة (كاتب تحرير) في مديرية تحرير ولاية الشام وذلك سنة 1258 هـ براتب شهري قدره 2500 غرشاً اي 25 ليرة عثمانية.
ثم انتقل الى عدة ولايات في مثل وظيفته (قرينة، تسطموني) وفي سنة 1264 هـ رجع الى الاستانة فتزوج فيها وهو بن 26 سنة.
ثم تقلد عدة وظائف في (الباب العالي) كان اهمها وظيفة كتابة الضبط في مجالس الوزراء، ثم ارسل على رأس الهيئة الاصلاحية الى البلقان وكان يؤدب الاشقياء بنفسه ويتعقبهم في جبال البلقان الوعرة على رأس الجنود فتمكن بشجاعته وتدبيره من اخماد الثورات في البلقان، ذلك البلقان الذي يطلق عليه الاوربيون اسم (اترن اوربا).
ولما رجع الى وظائفه في الباب العالي احس بضرورة تعلم اللغة الافرنسية وكان يجهلها حتى التاسعة والثلاثين من عمره وكذلك كان جميع كتاب الباب العالي يجيدون اللغات الاجنبية حتى واقعة القرم واحتكاك الباب العالي بالدول المعظمة الاوروبية.
وفي سنة 1274 هـ استأذن من الصدر الاعظم عالي باشا السياحة الى اوروبا فاذن له فذهب الى اوروبا وزار امهات العواصم مثل لندن وباريس وبروكسل ومكث في اوروبا ستة شهور وقف في اثنائها على الحضارة الاوربية والنهضة الاخيرة، كما انه استفاد ايضا من ممارسة اللغات الاوروبية واحتك باكثر رجال السياسة في اوربا ثم رجع الى الاستانة فعين رئيساً للكتاب في الديوان العالي.
وفي سنة 1277 هـ نال رتبة الوزارة والباشوية وعين واليا على نيش (احدى مدن يوغو سلاويا في الوقت الحاضر).
وبعد احداث التقسيمات الادارية وتقسيم الممالك الثمانية الى ولايات عين واليا على (ولاية طوته) وذلك في سنة 1281 هـ. وبعد ان مكث في هذه الوظيفة ثلاث سنوات ابرز خلالها من الكياسة والسياسة ما تضيق هذه الصحائف عن ذكرها عين رئيسا الى (شورى الدولة) سنة 1294 هـ.. ولما عزل والي بغداد تقي الدين باشا رغب المرحوم مدحت باشا في هذه الولاية وذلك تخلصا من اتعابه الكثيرة في الاستانة فباح برغبته هذه الى الصدر الاعظم عالي باشا (وكان من المعجبين بمدحت باشا) فصدرت الارادة الملكية بتعيينه واليا على بغداد مع حق النظارة على الفيلق السادس فتوجه الى عاصمة بني العباس في شهر مارت الرومي سنة 1285.

مدحت باشا في عاصمة الخلفاء
لا اريد ان اشرح الاصلاحات المهمة التي قام بها مدحت باشا في العراق ولا اريد ان افصل الخدمات العظيمة التي ادلى بها هذا العظيم الى العراقيين بل ساعدد تلك الخدمات الجلى تعداداً فقط:
1- وضع ضريبة العشر على الحاصلات وكان قبل ذلك تعطى جميع الاراضي بالالتزام.
2- احداث التجنيد الاجباري على طريقة القرعة.
3- اخماد ثورة (الدغارة) المشهورة.
4- احداث (دائرة الطابو) وتسجيل الاراضي والعقارات.
5- تسيير السفن البخارية في دجلة والفرات واحداث الادارة النهرية.
6- تطهير الفرات وجعله صالحا للملاحة.
7- انشاء المستشفيات والثكنات العسكرية والمدارس.
8- احداث الحدائق العامة وجلب مكائن الطحن والهبش والاستفادة من معدن النفط بجوار مندلي.
9- انشاء الترام بين الكاظمية وبغداد.
10- الغاء اصول (الخرص) في نخيل البصرة واحداث اصول تعداد النخيل.
11- نقل مدينة البصرة الى ضفة شط العرب (العشار) وانشاء مدينة الناصرية بمساعدة المرحوم ناصر باشا السعدون.
12- الحاق قصبة الكويت بالمملكة العثمانية وجعلها مركز قضاء يتبع ولاية البصرة وتعيين شيخها مبارك الصباح قائممقاما لها.
13- فتح نجد الشرقية وجعل (الاحسا) و(القطيف) وما جاورهما لواء من الوية ولاية البصرة وتأديب رؤساء الوهابيين مثل: (سعود وعبد الله الفيصل).
14- اخماد ثورة (شمر) واعدام اميرهم عبد الكريم في الموصل.
15- تأسيس معمل ميكانيكي عظيم لنسج وعمل ملابس واحذية الجنود في بغداد (العباخانة).
هذا قليل مما قام به هذا العظيم من الاعمال خلال ثلاث سنوات (فقط) وفي اوائل سنة 1288 قدم استقالته الى الباب العالي فقبلت وغادر بغداد في شهر مايس من سنة 1288 الرومية.
أما الاسباب التي اجبرت مدحت باشا على الاستقالة فهي تنحصر في تحركات محمود نديم باشا الصدر الاعظم (عدو مدحت باشا الالد).
وفي سنة 1289 تولى مدحت باشا منصب الصدارة العظمى وبعد ثلاثة اشهر استقال منها وتركها الى المرحوم (رشدي باشا الكبير) وبعد ستة شهور دخل في وزارة (رشدي باشا شرواني زاده) وزيرا للعدلية، وفي هذه الاثناء احضرت الوزارة لائحة القانون الاساسي وعرضتها على لسلطان عبد العزيز فما كان من السلطان المستبد الا ان يعزل مدحت باشا من الوزارة فيبعده واليا الى (سلانيك) كما عزل الصدر الاعظم (رشدي باشا) ونصبه واليا على (حلب) ولم يمكث مدحت باشا في (سلانيك) اكثر من ثلاثة اشهر تمكن في خلالها من تأسيس (مدرسة اعدادية) تدرس فيها العلوم باللغتين الافرنسية والتركية وكان اول من جعل التدريس مباحا في مدارس الحكومة لابناء البلد على اختلاف مناهجهم الا ان هذه الاجراءات لم يتحملها الباب العالي والمغرضون اليه فتلقى امر عزله ورجع الى الاستانة فمكث فيها سنة ونصف سنة يتقاضى راتب المعزولية، وفي اواسط سنة 1293 عين في مجلس الوزراء بوظيفة (عضو المجالس العالية) وفي اواخر هذه السنة خلع السلطان عزيز وانتحر بعد ستة ايام من خلعه فجلس على عرش (السلطان مراد الخامس) وبعد ان بقي على العرض 93 يوما خلع (لمرض عقلي اصابه) فجلس السلطان عبد الحميد الثاني (يوم الخميس 11 شعبان 1292 هـ).
وفي السنة نفسها تولى مدحت باشا منصب الصدارة العظمى للمرة الثانية وفي سنة 1294 عزل من منصب الصدارة بغتة ونفى الى (برنديزي) ولما بلغ امين البلاط سعيد باشا الارادة السلطانية بالعزل والتبعيد الى مدحت باشا قال له:
فاذا اراد الله يقوم سوءا فلا مرد له.. الاية.. اذهب الى السلطان وقل له اني سارجع الى بلادي عن قريب! على انني سوف لا ارى ويا للاسف هذه القصور العامرة ولا ارى جلالته يسكنها.. وسوف يرى جلالته نتائج هذه الخطيئات ويندم حين لا ينفعه الندم..".
ولم يكتف السلطان المستبد تبعيده بل اخذت حاشيته تنشر في الصحف اخبار ملفقة عن خيانة المرحوم البرئ اما الصحف الاوروبية فعزت الامر الى عدم امتزاج حصل بين السلطان ومدحت باشا.
ولقد اعلنت روسية الحرب على الدولة العثمانية اثناء وجود المرحوم في اوروبا فاخذ المرحوم يتجول في العواصم الاوروبية ويبث الدعاية للحكومة العثمانية بمختلف الرسائل ويتصل بكبار رجال السياسة مثل اللورد (يكونسفيلد) والبرنس (بيسمارك) والدوق (دسادير لاندين) وغيرهم من اقطاب السياسة العالمية حينذاك.. ولم يرتح السلطان عبد الحميد الى مساعي المرحوم السياسية هذه في اور وبابل ابلغه بواسطة سفير تركية في لندن وقتئذ (موسوروس باشا) لزوم اقامته مع افراد بيته في جزيرة كريد وخصص له راتبا شهريا قدره مائتين ليرة ومصاريف سفرية قدرها خمسة الاف ليرة.. فلم يكن من مدحت باشا الا الاجابة على الامر الملكي المطاع فسافر من لندن الى جانية (عاصمة الجزيرة) في اول يوم عيد الفطر من سنة 1295 هـ، ولم تدم اقامة الباشا في الجزيرة اكثر من شهرين حتى صدرت الارادة الملكية بتعيينه واليا على سوريا فاطاع وسافر الى الشام..
دامت ولاية المرحوم في سوريا سنتين اظهر فيها من الخدمة مالاتقل عن خدماته في العراق الا ان سياسته على الحكومة الفرنسية (التي تطمع في سوريا من زمن بعيد) لم ترق للسفير الفرنسي في الاستانة فاخذ يحرك عليه عند السلطان حتى صدرت الارادة الملكية بنقله الى ولاية ازمير فغادر بيروت في شهر رمضان سنة 1297 متجها الى محل منصبه الجديد.
جريدة الاماني 1931