اصلاحات مدحت باشا في العراق

اصلاحات مدحت باشا في العراق

فاخر الداغري
كان قدر العراق ان يتلقى سلسلة من الحروب والاحتلالات والكوارث والمحن التي حولته الى ارض خراب تعبث به ايدي الطامعين من كل مكان. فمنذ سقوط بغداد على يد هولاكو وما حل بالعراق من تفكك اجتماعي واقتصادي وسياسي وانهيار حضاري, كانت اطماع السلاجقة والبويهين والفرس والترك والروم وغيرهم تتغذى من الصراعات والمنازعات والعصبيات والحروب.

وفي الوقت الذي اخذت سلطة السلاجقة تؤشرالى ضعفها وافول نجمها، بدأت قوة الصفويين بالصعود والتوسع بحيث اخذت تهدد سلطة السلاجقة التركمان المنشغلة بصراعاتها ومشاكلها الداخلية، وهو ما ساعد جيوش الشاه اسماعيل الصفوي على اخضاع بغداد عام 1508 واحتلال العراق..

اصلاحات مدحت باشا
لم تحقق الاصلاحات الادارية العثمانية في ولاية بغداد اي نجاح حقيقي الا في ولاية مدحت باشا بين 1869 - 1872، التي تعتبر نقطة تحول مهمة في تاريخ العراق الحديث نظرا لانجازاته العديدة خلال فترة ولايته القصيرة جدا. ولد مدحت باشا عام 1822 في الاستانة وكان والده قاضيا. تعلم التركية والعربية والفارسية ومبادئ العلوم الحديثة واصبح موظفا في العاصمة. وبعد ان تدرج في الوظائف نقل الى ولاية دمشق ومنها الى قونية، حيث برز اسمه كموظف اداري قدير في شؤون الولايات الاوربية. وعندما حصل عام 1861 على لقب "باشا" استدعاه فؤاد باشا ليشارك في وضع بنود نظام الولايات. ثم تولى ادارة ولاية "الطونة" وبدأ بتطبيق نظام الولايات الجديد فيها، الذي نجح فيه نجاحا باهرا مما شجع الصدر الاعظم على تطبيقه في بعض الولايات مع ادخال بعض التعديلات عليه، واسناد رئاسة مجلس الدولة اليه
وعند مجيء عادل باشا خلفا للصدر الاعظم قدم مدحت باشا استقالته، بسبب خلافات حادة نشبت بينهما، فقبلت استقالته وصار واليا على بغداد. وفي طريقه الى بغداد اصطحب معه عددا من الادارين الاكفاء لادارة شؤون الولاية وتطبيق نظام الولايات الجديد فيها
ولم يكن مدحت باشا واليا عاديا شأن الولاة الاتراك الذين حكموا العراق. ففي فترة حكمه القصيرة في العراق (ثلاث سنوات) انجز مدحت باشا اصلاحات جذرية، شكلت نقطة تحول ليست بسيطة في تاريخ العراق الحديث وارست اساسا متينا لما حدث من تحولات بنيوية. ومن الممكن القول، ان مدحت باشا استطاع تغيير تاريخ العراق باصلاحات ادارية واجتماعية وثقافية ادخلت العراق في تيار المدنية الحديثة. ومع محدودية ثقافة مدحت باشا وانبهاره بمظاهر المدنية الاوربية، الا ان خبرته وثقته الكبيرة بنفسه وطموحه اللا محدود وشغفه بالتحديث دفعه الى تقليد عناصر المدنية الحديثة واقتباس ملامحها، في زمن كان العراق يرزح تحت وطأة ركود اقتصادي وتخلف اجتماعي وثقافي منذ تفكك الدولة العربية ـ الاسلامية وانهيار الحضارة في بغداد على يد الرعاة السلاجقة ومن بعدهم غزاة المغول
وصل مدحت باشا الى بغداد في 30 نيسان 1869. وفي خطابه الاول في دار الحكومة في بغداد (القشلة) حدث الناس على العمل المتواصل في سبيل تطوير الزراعة والتجارة والصناعة واشار الى الخراب الذي حل بالعراق بعد مجدها التليد ووضع اللوم على العراقيين الذين قصروا في بلوغ التقدم مثل الامم الراقية، واكد على ضرورة انقياد الرعية والتسليم للحكومة من اجل اعادته الى مكانته السابقة، كما اشار الى ان العراقيين عرفوا بعدم الطاعة للسلطان وعدم خضوعهم للسلطة وتمردهم على الحكومات، قصد بذلك العشائر العراقية التي لا تدين بالولاء لاية حكومة كانت. وحارب مدحت باشا الرشوة وحاسب الموظفين الكبار. وبعد اربعة شهور اعلن التجنيد الاجباري واخضع العشائر لسلطته. كما فتح المدارس الرسمية. ونشأت في عهده ايضا مدرسة الصنايع والرشدية الملكية والرشدية العسكرية الى جانب اول مستشفى حديث واول شركة ترامواي ربطت بين بغداد والكاظمية، ومعامل حديثة لاصلاح البواخر وصنع الطحين والمشروبات الغازية وغيرها

جريدة الزوراء
غير ان الحدث الاهم كان اصدار جريدة الزوراء. فقد جلب مدحت باشا معه مطبعة فرنسية حديثة. ولم يكن في العراق آنذاك سوى مطبعة حجرية واحدة في كربلاء عام 1856 لطبع الكتب والادعية الدينية وبعض الاوراق التجارية. كما تم فيها طبع كتاب "مقامات ابي الثناء الآلوسي". ثم مطبعة بالموصل (1859) وثالثة في بغداد (1861). وكانت جرنال العراق التي اصدرها داود باشا عام 1816" تطبع بمطبعة حجرية، وكانت اشبه بمنشور اداري دوري يوزع على قواد الجيش وكبار موظفي الدولة واعيان بغداد. ولم يعثر على أية نسخة منها حتى الآن. وكانت المطبعة التي استوردها مدحت باشا اول مطبعة تدار بالبخار في العراق وزودت باجهزة حديثة. كما اصطحب مدحت باشا معه احمد افندي، وهو احد الادباء الاتراك ليتولى تحرير جريدة الزوراء التي صدرت باللغتين العربية والتركية. وتوقفت طبعتها العربية بعد عزل مدحت باشا وبقيت نسختها التركية تصدر في العراق حتى عام 1908
لعبت جريدة الزوراء دورا مهما ولو محدودا، في بث الوعي عند العراقيين وفتحت اعينهم على قضايا لم تكن مألوفة من قبل، فحركت افكارهم بما طرحته من مواضييع سياسية واجتماعية وثقافية، كان من بينها الحث على تعليم البنات واللوقاية الصحية من الامراض والاوبئة وكذلك توضيح اسباب الانحطاط الحضاري والسبل الكفيلة بتطويره وتقدمه. كما كانت الزوراء تنشر رسائل وتعليقات القراء التي ترد اليها من انحاء العراق. ومن الطبيعي ان تجلب مثل هذه المواضيع والقضايا انتباه العراقيين وتنور عقولهم وتشجعهم على اكتساب معارف جديدة وعلى تقبل الافكار والمعتقدلت والمخترعات الحديثة. كما شجعت اصلاحات مدحت باشا، على صدور جريدة ثانية في الموصل عام 1885 واخرى في البصرة عام 1889. كما اصدر الاخوة الدومنيكان في الموصل اول مجلة عراقية باسم "اكليل الورد " عام 1902
وقد ساعد اعلان الدستور العثماني عام 1908 على تطوير الحركة الفكرية والثقافية وصدور عشرات الجرائد والمجلات وطبع مئات الكتب. وكان بينها جريدة "بغداد" التي اصدرها فرع جمعية الاتحاد والترقي، وجريدة "الرقيب" و"بين النهرين" و"مصباح الشرق و"النهضة "ومجلة "العلم" و"لغة العرب" وغيرها التي وضعت اساسا متينا لحركة النهضة الفكرية والاجتماعية والسياسية الحديثة في العراق، التي توجت بتشكيل الحكم الوطني في العشرينيات من القرن الماضي. ولعل من اهم المشاكل التي جابهها مدحت باشا هي مشكلة توطين العشائر المتنازعة مع الحكومة مرة وفيما بينها مرة اخرى وحاول تشجيعها على تملك اراضي ديرتها والاستيطان فيها نظير دفع اقساط طويلة الامد للدولة، لان العشائر متى استقرت وتحولت الى الزراعة تحضرت ولم تعد تعصي ارادة الدولة، التي بدورها تؤمن للعشائر تنظيم طرق الري وارواء الاراضي الزراعية وحمايتها. وقد اصدر مدحت باشا اول قانون لتنظيم ملكية العشائر واسس اول دائرة طابو في بغداد لتنظيم الفوضى السائدة آنذاك.غير ان مدحت باشا لم يستطع تحقيق مشروعه في الاصلاح الزراعي، حيث اخذ شيوخ مشايخ المنتفك وشيوخ شمر وغيرهم تسجيل جميع اراضي العشيرة باسمائهم، وهو ما اثار نزاعات حادة وحروب دامية بين العشائر والشوخ وقاد في الاخير الى تفكك نظام القبيلة والتحول الى نظام الملكية الزراعية الكبيرة.