محمود أمين العالم

محمود أمين العالم

نصر حامد ابو زيد
.. في الحقيقة أنا أريد ان أتحدث عن محمود أمين العالم من خلال الخبرة الشخصية والعلاقة الشخصية وبعض المواقف المثيرة في هذه العلاقة. ولا أريد أن أتحدث عنه بصيغة الماضي، فمحمود أمين العالم وكثير من المثقفين العرب يعيشون بيننا ولو كانوا قد غابوا بأجسادهم، محمود أمين العالم قيمة حيّة أو نأمل ان تظل حيّة.

طبعاً أنا تلميذ لكتابات محمود أمين العالم من دون ان يعرف لكن أول مرة التقيته كنا في ندوة اليمن في عدن قبل الحرب بين الشمال والجنوب وقبل الوحدة بين الشمال والجنوب وكانت الندوة عن الفكر العربي الحديث وكانت من الندوات الأولى التي أشارك فيها وأنا فوجئت بشخصية محمود أمين العالم.
طبعا في شبابي وبشيخوخته وبعلمه وبالصورة العظيمة التي في ذهني تخيلته رجلاً، لا تستطيع ان تقترب منه بسهولة، أو يجب ان تحاول محاولات شتى لكي تقترب منه ، لكنه كان يفوق كل التصورات الممكنة عن إمكانية التواصل الإنساني. كنا في الطائرة من القاهرة الى عدن وكان يتحرك في الطائرة ليحدث كل إنسان، وأنا في ذلك الوقت اعتبر نفسي نكرة، ففوجئت انه يعرف اسمي وانه قرأ كتابي، وكان قد صدر لي كتاب واحد في ذلك الوقت، وانه قد قرأ ذلك الكتاب وحاولت ان أتعامل معه بأدب شديد ..( يعني ياأستاذ ، لو سمحت ، من فضلك ..) فأغضبه ذلك اشد الغضب واعتبر أنني أقيم عائقا بيني وبينه. أول حدث حدثَ في المؤتمر وأنا كنت شاب غوي كما يقولون ، عنيد، فلاح من قرية مصرية، ولا أريد أحدا ان يفتشني، فكنا في افتتاح المؤتمر، وسيادة رئيس الجمهورية جاء يفتتح المؤتمر، وهذا شيء جميل ان يأتي أهم مسؤول سياسي لافتتاح مؤتمر أدبي ، لكن كان يجب تفتيشنا ونحن داخلون إلى القاعة، وأنا رفضت، رفضت الخضوع للتفتيش، وقلت لن احضر الجلسة الافتتاحية حتى ينتهي السياسي مما يقول وبعد ذلك تبدأ جلسات المؤتمر وأنا احضر المؤتمر. ولم أكن أدرك أنني اسبب مشكلة، مشكلة كبيرة، يعني أنا لا احد إذا غبت عن الجلسة الافتتاحية فهذا لن يعدم المؤتمر، لكن الأستاذ محمود أمين العالم لاحظ ما حدث والحوار بيني وبين الحرس ورفضي التفتيش، وهو كان يعامل في عدن باعتباره كارل ماركس، يعني هو فوق زعامة فكرية، هو الأب الروحي فقد كان النظام في وقتها نظام ماركسي، وكان محمود أمين العالم يعامل بهالة نبوية، كأنه نبي. فلما أدرك ان نصر أبو زيد يرفض ان يفتش، عاد من داخل القاعة وكان قد خضع للتفتيش، عاد من داخل القاعة وأعلن أنه لن يحضر أيضا الجلسة الافتتاحية، وأنا استغربت فلم أتوقع من محمود أمين العالم وقد دخل فعلاً وخضع للتفتيش أربعة وعشرين قيراط ، بدون أي مشكلة، لكنه خرج من جديد من القاعة واضطر السيد المسؤول السياسي ان يخرج الحراس تماماً من الجلسة، وحضرنا الجلسة من دون تفتيش، وأنا دهشت من هذا الرجل. بعد الجلسة الافتتاحية قال لي ( أنت عنيد ومخك جزمة ، جزمة قديمة ، وسببت ان أنا لازم اتخذ موقف ) فقلت له: ( طيب حضرتك ليه أنت لازم تتخذ موقف إذا لم تكن مقتنع) فقال لي: ( ان المصيبة أنني مقتنع ) فضحكتُ كما انتم تضحكون الآن !! فقد كان قصده ان يضحك لأنني كنت غضبان وكان قصده ان يضحكني في هذا الموقف .
طوال المؤتمر ليل نهار لم أكن استطيع مجاراة محمود أمين العالم في السهر .. أنا شاب وهو عجوز سجن عدة مرات لكنه كان لا ينام قبيل الفجر فاكتشفت حيوية محمود أمين العالم، فسألته: هل السجن يعطيك هذه القوة؟ يعني انك تخوض تجربة السجن، انك تخوض تجربة الألم هل هذا يعطيك هذا الحب للحياة هذا العشق للحياة؟ فقال لي: أنت لا تعرف أنا لم اسجن فقط بل حكم عليَّ بالإعدام وكانت هذه هي أول مرة اعلم بها انه قد صدر ضده حكم بالإعدام وانه كان يستعد، ولبس البدلة الحمراء على أساس انه سينفذ فيه الحكم وفوجئ بفتح الزنزانة وتعطى له ملابسه ويفرج عنه وكان ذلك في عصر السادات. وبعدما خرج من السجن لم يكن يعرف لماذا أخرجوه، وقد حكم بالإعدام. السبب أنه كان أدلى بشهادته في المحكمة وشهد ضد الرئيس السادات. ورجع يستلم العمل ففوجئ انه يسأل في العمل ( أنت كنت غايب فين عن العمل ) وعملوا له تحقيق لأنه غاب عن العمل هذه السنوات !
ذهبنا بعد المؤتمر الى صنعاء، فركبنا الطائرة من عدن الى صنعاء، وعلى أساس أننا كنا في اليمن وهي المرة الأولى التي اذهب بها الى اليمن فكنت أريد ان أتفرج على صنعاء ففوجئت بسيارة من القصر الجمهوري تنتظر محمود أمين العالم على باب الطائرة، فقال لي: ( اركب ياولد معايا ) وكأنني كنت في صحبة رئيس جمهورية ولكن هذا لم يمنعه من التواضع. قضينا عشرة أيام لم أتخيل في حياتي أنها ستكون أول تجربة لي مع محمود أمين العالم الإنسان الذي لا تحس أبدا انه ذلك الفيلسوف ولا المثقف ولا المنظر للفكر الشيوعي. كل هذه الهالة التي هي صحيحة، شخصيته، يعني في شخصية محمود أمين العالم هذه الهالة صحيحة وليست هالة زائفة، ولكن على مستوى العلاقات الإنسانية تختفي تماماً هذه الهالة، ويصبح محمود أمين العالم شخص يمكن ان تحكي معه نكته و(تهزر معاه).
التقيت به بعد ذلك عدة مرات في مؤتمرات في خارج مصر، للأسف الشديد لم تتح لي الفرصة ان اقضي مع محمود أمين العالم ساعة واحدة مستمرة في مصر فكل لقاءاتي به كانت خارج مصر. آخر مرة كانت سنة 1998، التقيت به في مدريد وكان المرض بدأ يسبب له بعض المشاكل، أصيب بتعب جعله لا يخرج من الفندق، ودخلت عليه في الغرفة قلت له: ( جرى أيه يا عمي محمود، طب يعني أروح أنام ولا إيه) فقال لي: (تروح تنام مين) ونهض من سريره وبقينا سهرانين الى الصبح.
...
وأريد قبل ان أكمل كلامي عن عمي محمود أمين العالم .. أن اعلق عني أنا والعراق.. أنا عمري لم أزر العراق، أنا شفت العراق معكم في هولندا، أنا عرفت العراق من خلالكم، يعني من خلال العراقيين في المنفى.. عرفت عراق المنفى وليس عراق الاستقرار. دعيت للمربد في مجد صدام حسين ولكن رفضت، رفضت بقلة أدب، يعني أنا شخص مش متربي أحيانا ، لأنه أحيانا لا تستطيع ان تتعامل مع البشر إذا كانوا غير متربيين وتكون معهم كذلك ...!
حزين جداً لأني لم أزر العراق ... حزين حزين ... وخايف أموت من غير ما ازور العراق ... بلدين في نفسي أن أشوفهما قبل أن أموت وأنا تجاوزت الخامسة والستين، والموت يقترب شيئاً فشيئاً من أصحابنا كلهم (وكلما مات حد ننخض)! بلدين...العراق...بغداد، وفلسطين القدس. أنا دعيت طبعاً لكردستان ولكن صعبان عليّ أوي أروح للعراق من غير معديش على بغداد... أن أصل إلى بغداد في الطائرة ومن ثم المناطق الأخرى وليس لهذا أي علاقة بأي حاجه سياسية، وهي مسألة عاطفية جداً...أنا أقول العراق... لان العراق ليس بلد... العراق حضارة، وحضارة تمتد جذورها في تأريخ الحضارة الإنسانية بشكل عام.. من هنا اهتمامي بالعراق ومن هنا أمنيتي أني أعيش لغاية ما ازور بغداد وبعدين أروح الى كردستان وأي مكان آخر ونروح نهيص !! بس أروح بغداد وأحط رجلي واشرب من النهر وبعدين اذهب الى المناطق الأخرى ..
محمود أمين العالم ولد في 19/2/1922 يعني البارحة بالضبط أكمل 87 سنة، عاش بشكل جيد جداً.. وأنا اعتقد ان محمود أمين العالم مات مستريح جداً، فمحمود أمين العالم لم يتوقف عن النشاط.
يوم وفاته كان متأنقا بكل شياكة ومستعد للذهاب الى فرح لأحد أقاربه البعيدين ولكنه أحس بشيء من التعب فقال لشهرت: أنا تعبان لا أريد ان اذهب الى الفرح خوفاً من حصول شيء لي هناك وأسبب مشكلة لأهل الفرح .. فقرر الذهاب الى غرفة نومه لكي ينام .. دخل ونام ... ومات .. وهذه أجمل موته في الحياة .. انك تستعد هكذا وتخلع ملابسك وتدخل الى سريرك فيطلع السر الآلهي.. أنا بضحك لما بتكلم عن محمود أمين العالم واضحك لأنه أجمل ما في الإنسان أن يغادر الحياة وقد شبع منها، ومحمود أمين العالم شبع من الحياة، وقد أعطى طبعاً..فأنت لا تشبع دون ان تعطي وإلا تكون شخص أناني ومحمود أمين العالم لم يكن أنانيا.
محمود أمين العالم عطاءاته وإبداعاته خلال نصف قرن، في الفلسفة، وفي الفكر السياسي، في الفكر الأدبي، في العمل السياسي والتنظيمي، لأنه منذ فترة مبكرة جداً كان عضوا نشطا في الحزب الشيوعي المصري وأصبح احد قيادات الحزب الشيوعي المصري، بعدين ساهم في عملية حل الأحزاب الشيوعية المصرية بعد عام 1964 بعد ان خرج من السجن .. وقصة دخوله الى السجن هذه قصة!
سنة 2007 طلع محمود أمين العالم في لقاء مع جريدة (المصري اليوم) من اجل ان يقول أن هناك أحزابا شيوعية في مصر .. وانه على صلة مع هذه الأحزاب جميعاً وان هذه الأحزاب هي وراء إضرابات العمال المستمرة وصرخ بالصحفية عندما قالت له: أين هي هذه الأحزاب، فقال لها: لما هؤلاء العمال يضربوا من أين أتى ذلك. وحاولت الصحفية ان تعرف منه أسماء فرفض ان يشير الى الأسماء فقالت له: طيب أنت تقول أنك شيوعي، فقال لها إنني لست خائفاً من احد... أنا من قبل كنت أقول باني شيوعي وفي هذا الوقت ليس علي خطر وأنا بهذا العمر لأن الشباب الذين يعملون الآن إذا ما عرفتِ أسماؤهم سيتم القبض عليهم فوراً، وهذا في ظل نقد حاد للنظام ، نظام مبارك ومسألة التوريث الى آخره.
ومحمود أمين العالم شاعر أيضا وله ديوانان في الإبداع الشعري. وفي آخر حديث إذاعي له وأنا سمعته بالصدفة بعد ما مات في الإذاعة المصرية، كانت المذيعة تسأله: وماذا تحب تسمع من الأغاني؟ وأنا فوجئت انه حافظ الأغاني التي يعتبرها جيلي حكمة الحياة المصرية. طبعاً كتبه عديدة وسوف نتعرض لبعض أفكاره لكن أهم حاجة انه في مصر أخيرا كما تعرفون كان من الصعب ان تعمل تصريح لمجلة، كمجلة ثقافية...السلطة المصرية ضد المجلات الثقافية إلا إذا كانت مجلات الحكومة، فاخترعنا حاجة اسمها الكتاب غير الدوري، يعني صيغة نعمل مجلة ولكن لا نسميها مجلة، تسميها كتاب غير دوري ولكنها بالحقيقة مجلة. (العالم) عمل مجلة سماها كتاب غير دوري سماها (قضايا فكرية)، وكان لي الشرف أن اكتب في العدد الأول من هذه (القضايا الفكرية)، وأصدر منها حوالي عشرين كتابا، وهذه مكتبة كاملة، كتبت فيها كل التيارات الفكرية ليس في مصر وحدها وإنما في العالم العربي كله، سوا في الفلسفة أو النقد الأدبي أو في الثقافة أو في الفكر الديني أو في الفولكلور أو في الدراسات الفنية. هذه العشرون كتابا هي عبارة عن مكتبة كاملة ساهم في صنعها تقريباً كل المثقفين العرب.
الشيخ محمود أمين العالم اسمه العالم لأنه من عائلة من العلماء، علماء الأزهر، الأب والجد والأخ كانوا من العلماء ومن هنا صيغة العالم. وهو تربى مثلنا كلنا من الكتاب الى المدرسة الابتدائية الى المدرسة الثانوية، وهو لا يزال شاباً صغيراً في المدرسة الثانوية في سنة 1935. كان قد حصل إلغاء دستور 1930 وخرج في أول مظاهرة وعمره 13 سنة وكانت ضد حزب الوفد ، وحزب الوفد كان وقتها حزب الأغلبية، فكانت المدرسة كلها وفدية، وهو ( عيّل صغير عمره 13 سنة ) واكل علقة كما نقول في مصر: ( مايكلهاش كلب في مولد ) لأنه طالع يعارض الوفد.
وعندما كان في الثانوية ، عانى والده من ظروف اقتصادية صعبة، اضطر بسببها محمود ان يشتغل في مطبعة وبالتالي تكونت له خبرة في تنضيد الحروف ..
لنتكلم عن حياته الفكرية .. أول كتاب أدهشه كان كتاب نيتشة: هكذا تكلم زرادشت، وهو أول كتاب هزة. كلنا نبدأ بالقراءة لحين قراءة كتاب من هذه الكتب يعمل لنا هذه الهزة الفكرية، وأنا أول كتاب عمل لي هزة هو كتاب الله للعقاد ... لا لانني لم افهم منه شيئاً .. !
كان كتاب هكذا تكلم زرادشت هو الكتاب الأول الذي قاده الى دراسة الفلسفة .. بعد ذلك تأثر بالوجودية وهذا بتأثير عبد الرحمن بدوي، لأنه دخل قسم فلسفة وعبد الرحمن بدوي كان في ذلك الوقت، نجم ومترجم الكتب الوجودية وكان احد دعاة الوجودية، فتأثر محمود أمين العالم بالوجودية، كما تأثر بالتصوف، وجمع بين نيتشة والوجودية وبين التصوف عن طريق كتاب ليون ماسينيون عن الحلاج، ولكن الكتاب الذي أعاد تنظيم مخه وتوجيه حياته هو كتاب لينين: المادية ومذهب النقد التجريبي، بمعنى انه بعد ان قرأ هذا الكتاب بدأ يعيد تنظيم مخه.
تاريخ حياته معروف، فقد عمل ماجستير عن فلسفة المصادفة في الفيزياء ودلالاتها الفلسفية، وسجل الدكتوراه ولكنه فصل من الجامعة سنة 1954. وسبب فصله من الجامعة هو نفس سبب فصل عدد كبير جداً من أساتذة الجامعات، يجمعهم محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس رفيقه الذي كتب معه كتاب (في الثقافة المصرية). وعبد العظيم أنيس توفى بعد وفاة العالم بثلاثة أيام فقد ماتا في نفس الأسبوع، وهما أصدقاء وقد كتبا معاً أول كتاب عن الثقافة المصرية ، وعبد العظيم شخصية فذة فهو أستاذ رياضيات ومهتم بالأدب والثقافة والفلسفة ومن قيادات العمل الشيوعي في مصر، هو ومحمود أمين العالم كما نقول في مصر: ( راسين في طاقية ) يعني صنوان ( وشربوا من ميه وحدة )، كبروا مع بعض وطلعوا مع بعض وماتوا مع بعض وكأنهم كانوا على موعد هما الاثنين مع مغادرة الحياة.
ماذا يقول شيخ الشيوعيين وكنا هكذا نسمي محمود أمين العالم ... ما هو مستقبل الثقافة في مصر؟ .. لقد كان طه حسين يؤمن بأن العمل الأدبي هو عمل لغوي، وبما انه عمل لغوي فانه يتكون من اللفظ ومن المعنى، وهذه هي النظرية الكلاسيكية في البلاغة التي يتبناها طه حسين عن الأدب، أما محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس فكان رأيهم انه ليس لفظا ومعنى، فالعمل الأدبي شكل ومضمون، وكتبوا مقالة في الرد على طه حسين، وهذه المقالة أحدثت رجة لأن (عيّلين بيردو على طه حسين)!. وكان طه حسين حينها (1954) شيخ النقاد وشيخ الثقافة، وعلى ما أظن انه كان وزير التعليم ، فحكاية ان عيّلين لم يكن قد سمع بهم أحدا يكتبان رداً على طه حسين .. حكاية ! فرد طه حسين قائلاً: هذا يوناني لا يفهم باعتبار ان هذا كلام فارغ ، أما العقاد فقال: أنا لا أناقشهما ولكن اضبطهما فهما شيوعيان !! وقد رفضت المقالة من اكبر قطبين للثقافة المصرية في ذلك الوقت، ولكن طه حسين كان مؤدباً في رده حين قال: يوناني لا يفهم.. ولكن العقاد مارس طبعاً سلطته بأن قال بأنهما شيوعيان .. في هذا الوقت كانت ثورة 1952، ثورة الضباط الأحرار كما كانوا يسمون أنفسهم، تمر بأزمة سنة 53، وهي أزمة الديمقراطية .. وسنة 54 حصلت أزمة بين الضباط والعمال في كفر الدوار، وشنقت بعض القيادات العمالية (الخميسي والبقري الاثنين مع بعض). وكان هذا هو الدرس الحقيقي، فهل هذا النظام الجديد الذي هو الضباط الأحرار، هل هو ضد الديمقراطية، أم انه سيقيم النظام ديمقراطي؟، وانتصرت اللاديمقراطية على الديمقراطية. ومن هنا بدأ المثقفون المصريون الذين رحبوا بهذه الحركة المباركة في ذلك الوقت، بدأوا يعترضون. فقام الضباط الأحرار، وهنا الاسم فيه شيء من المفارقة، قاموا بحركة اسمها تطهير الجامعة من الفساد، وتم فصل جميع الأساتذة الذين يناؤون النظام لأنهم يطالبون بالديمقراطية، والقرار جمع بين الشيخ أمين الخولي ومحمود أمين العالم وعبد العظيم رمضان ولويس عوض (من الأزهري الى الشيوعي) .. يعني الضباط مسحوا الجامعة من أي معارضة، وجامعة القاهرة التي هي أم الجامعات المصرية مأساتها الحالية تعود الى هذا العام، الى عام 1954، والسادات (عمل عمله) شبيهة بتلك في سنة 1981 في السنة التي قتل فيها.
فصل محمود أمين العالم من الجامعة وطبعاً مسألة ما قاله العقاد عن كونه شيوعيا كان لها دخل في هذا. ومكث محمود أمين العالم في السجن زهاء عشر سنوات تقريباً متنقلاً من سجن الواحات الى سجن كذا الى سجن القلعة الى سجن كذا، ولم يخرج من السجن إلا في عام 1964، بعد ما كان التوجه الاشتراكي لثورة يوليو أصبح واضح المعالم، ويقال ان عبد الناصر استقبله واعتذر له، وهنا صدر قرار حل الأحزاب الشيوعية من العمل التنظيمي.
يقول محمود أمين العالم: لقد حاولت اكتشاف ما يسمى بالقانون الداخلي في العمل الفني وهذا طبعاً بتأثير الماركسية، وساعدتني الماركسية في ذلك رغم أنني كنت امتلك الخلفية التي كانت تدفعني لاكتشاف ما هو ضروري من المعارف، عرّفتني الماركسية على قانون الضرورة في المجتمع وبالتالي إمكانية اكتشاف الضرورة في الإبداع البشري، هل الضرورة كامنة في داخل العمل الفني، ان العمل الفني كائن حي قائم بذاته بما له من كيان مستقل ، لكن تميزه لا يعني انفصاله عن تاريخه أو عن واقعه ، وأتذكر أولى المعارك التي خضتها مبكراً في مجلة (روز اليوسف) (معركته مع مصطفى محمود عن العمل الأدبي ، ثم بعد ذلك يتكلم عن معركته مع طه حسين).
والمقال الذي كتبه هو وعبد العظيم أنيس، بالإضافة إلى ردودهما في مقالات ثانية، وجمعت في كتاب في سنة 1955 الذي هو كتاب في الثقافة المصرية. لا أريد ان ادخل في بعض ملامح فكر محمود أمين العالم سواءاً مفهومه عن الهوية، أو مفهومه عن العولمة أو مفهومه عن التراث أو مفهومه عن الدين، لأن ذلك متروك للنقاش .. أنا أحببت ان أقدم محمود أمين العالم، العالم والمفكر والمناضل والإنسان من زاوية معرفتي الشخصية به.
آخر مرة كلمته بالتلفون في زيارتي لمصر قبل سنة وقلت له: (أزيك ياعمي الشيخ) فقال لي: أهلا وسهلاً ياخويه ، فقلت له: أنا نصر أبو زيد.. قال لي: (ما أنا عارف فيه حد يشيّخني ويعملني شيخ غيرك أنت) قلت له: كيف صحتك فقال: عال العال، فقلت له: ( متعملهاش فينا ياعمي محمود) فقال لي: (متخافش عمر الشقي بقي) وكانت هذه الكلمة عنده مكررة (عمر الشقي باقي) .. فلما مات أنا كلمت شهرت وقلت لها عملها محمود .. ولما تقول محمود، تحس انه قريب جداً من الشخص وقد عملها محمود ولكنه كان مستريّحا ، عاش حياته بالطول والعرض وعلى قدر ما أعطانا أخذ من حبنا .. محمود أمين العالم لم يكن له أعداء ، محمود أمين العالم له خصوم ولكن ليس هناك عداوة كما قال الأستاذ ياسين وهذا صحيح ، لم يكن له أعداء أبداً، لأنه لم يكن يعمل له أعداء ، لأنه كان مبتسم طوال الوقت، يعني تشتمه فيبتسم فلا يمكن ان يكون له أعداء .. وجنازته والعزاء كانت شاهداً على ذلك .. كل قيادات مصر من أول الإخوان المسلمين لغاية كل الشيوعيين الذين تسمع عنهم في الكتب ولم تكن قد رأيتهم قد وجدناهم في هذا العزاء .. وأسوأ شيء في العزاء كان الشيخ الذي كان يقرأ القرآن، فهذا الشيخ لم يكن لديه أي ذوق ، واختار من القرآن أشياء من الصعب في الحقيقة ان تقال في جنازة ! هناك مشايخ ليس عندهم ذوق، فهناك سور تقال في العزاء مثل سورة مريم وسورة الرحمن ولكن ما قرأه هو عن جهنم وما شاكلها .. يبدو ان هناك من دفع له ليقرأ هذه السور ! ويومها كنت جالسا بالقرب من صديق وقلت له (الأخوان دافعين له ومتاكلش بحكاية أنهم جايين يعزو ) لأنه جلب جهنم كلها والعفاريت كلها! غير ان روح محمود أمين العالم كانت تحكم علينا ان لا نجلس بحزن ، تحكم علينا ان نبتسم ..
عندما حضنت شهر قالت لي: لا تدعني أبكي فانا لا أريد ان ابكي، فقلت لها: لا... لا أحد يبكي على محمود أمين العالم
.. ان احد عبارات محمود أمين العالم هي "شاغبوا تصحّوا"! وقد كان فعلاً مشاغباً كبيراً .. محمود أمين العالم طبعاً بعدما خرج من السجن سنة 1964 تم حل الأحزاب الشيوعية في مصر وهذا القرار جابه معارضة من قبل الكثير من الشيوعيين المصريين، ولكن محمود أمين العالم كان مقتنعاً انه يجب ان لا يغيب الشيوعيون عن المشروع الناصري، كمشروع اشتراكي، مشروع تقدمي، مشروع يحاول إقامة مجتمع ودولة صناعية .. الى آخره.. ويجب على الفكر الشيوعي ان يكون سنداً لعبد الناصر وهو كان مؤمناً بهذا، ولذلك بعد مجيء السادات خرج وعاش في فرنسا حوالي عشر سنين ولكنه عاد الى مصر بعد موت السادات ولم يعمل في أي منصب حكومي ولكنه كان جزءاً من المؤسسة الثقافية.
واستطاع جابر عصفور ان يستقطب محمود أمين العالم ليمسك لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للفنون والآداب الى فترة طويلة جداً، طوال حياته كان مقرر لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، ولكن هذا لم يمنع محمود أمين العالم من ان يكون مشاغباً !! والحدث الذي يمكن أنكم سمعتم به عند منح صنع الله إبراهيم جائزة الرواية، وهذا من حوالي أربع سنوات، والاحتفال بمنح الرواية كان تحت الأضواء والتلفزيون والوزير وكل المسؤولين فجاء صنع الله إبراهيم لابس البدلة ومتهيأ وأعلن رفضه للجائزة !
وكان الوحيد من ضمن اللجنة التي منحت صنع الله الجائزة الذي قام وصفق له بحرارة هو محمود أمين العالم ! فلقد وقف والصحف أخذت الصورة ومحمود أمين العالم يصفق بحماسة شديدة جداً جداً لأن السبب الذي على أساسه رفض صنه الله إبراهيم الجائزة انه لا يقبل أن يأخذ جائزة تمنحها مثل هذه الحكومة.. وعمل في موقفه هذا خلل فضيع لوزير الثقافة والدنيا ! لأن صنع الله إبراهيم وبخبث الفلاحين لم يعلن موقفه عند التهيئة والتحضير لمنح الجائزة عندما طلبوا منه البيانات قبل الجائزة وقد كتبها وعمل كل شيء طلب منه ولكنه في الآخر عمل هذه القنبلة !.

القيت في الحفل التأبيني الذي اقامه الحزب الشيوعي العراقي في هولندا