عمر اكلته الحروف مذكرات نجيب المانع

عمر اكلته الحروف مذكرات نجيب المانع

خضير فليح الزيدي
اثارت مجموعة نقاشات في الوسط الثقافي بين مؤيد ورافض لفكرة البوح الشخصي في ادب المذكرات في عوالمنا الثقافية، وكعادة الحراك الثقافي الفاعل على تحريك الراكد واليقيني وتفكيك الرؤى في رواسخ الثقافة العراقية وثوابتها، والوقوف على امراضها المزمنة او تلك التقليدية منها، قد انبرى لموضوعة ثقافية غاية

في الدقة رغم أحكامه المطلقة وقساوتها في تعميم هذه الظاهرة، في موضوعة الكتابة عن أسرار ذات الكاتب بدلا من كتابته عن ذوات الآخرين..
نعم هناك الكثير من المسكوت عنه في حقل كتابة أعترافات ذات الكاتب وتجاربه السرية او تلك الخفية، وهنا يلعب حرف الجر (عن) أوحرف الجر(من) في الحاقه بمفردة الذات وقصدية الكاتب في إدراكه لفحوى الاعتراف ومدى تطابقه مع شخصيته وصدق البوح، ففي الحالة الأولى(عن) يكون الموضوع في سرديات البوح السري الذي يقصده والذي تفتقد اليه أدبيات الثقافة العراقية ورعبها من البوح عن مكامن وخفايا ذات الكاتب، الذي دائما يظهر لنا بأنه قد شهد وعاش البطولة ولم يعش الاندحار.. فيما تكون الحالة الثانية(من) هي الحالة العادية التي بنيت عليها معظم سرديات الثقافة العراقية في كتب سيرتها ومذكراتها التي لم ترتق الى مستوى كتب الاعتراف السري التي قصدها الكاتب خضير ميري..
لان المجتمعات التي نعيش في كنفها مجتمعات غير صادقة في الكشف عن البواطن، بل هي مجتمعات مغلفة يصعب التعامل البسيط معها، فهي تعاني من ضمن ما تعاني من سيطرة الرقباء الامنيين والضمائر البوليسية التي تحجب البوح والالتفاف على الحقائق المستترة..
يحاول كاتب المذكرات الإتيان بكثير من الشواهد العالمية على كتب الاعترافات التي لاقت رواجا كبيرا إضافة الى تعرف جمهور القراء عن حيثيات وتفاصيل حياة الكاتب بشكل دقيق، وقد كانت تجربة الدكتورة نوال السعداوي وكازندزاكي في تشجيع البوح السري عبر فضح خفايا الذات العربية الأنثوية او الذكورية، وكلنا يعرف مآل سعداوي التي تعرضت الى المضايقات وتكفيرها، ثم هروبها خارج الوطن وهجرتها النهائية خوفا على حياتها من هدر الدم ثم القتل..
هناك افتراق عظيم بين مدركات الذات الغربية والعربية، فالموروث الديني والمنظومات الأخلاقية العربية – الإسلامية لا تتيح للكاتب في الشرق أن يتجاوز الخطوط الحمر في سرديات الذات السرية ومراقبة صمام البوح في ثالوث التابو المحرّم بالاقتراب من مثلث التحريم واجتراح تفاصيله في (الجنس / الدين/ السياسة)، لذلك سيعتمد الكاتب الأديب أن يعتمد توظيفات أسطورية او خرافية او الاعتماد الكلي على المرموزات المؤدية بشفرة موحية تلافيا لتكفيره او سحب كتابه من الأسواق كما يحدث اليوم في بعض دول المنطقة..
إذن هناك رقابة سرية يضعها الكاتب على نفسه أثناء الكتابة يعتمدها كذات رقابية تتحاشى الوقوع في المحظور الديني او الجنسي او السياسي، وخصوصا في عملية البوح الشخصي عن غريزة الجنس او العاب الطفولة..
ربما يسقط كاتب المذكرات على محيطه المغلف والمعقد من استدرج ذاكرته بكل اسرارها إزاء فقر ثقافتنا للاعترافات الشخصية، لم يكن بتقاعس كاتب الاعترافات من سردياته الخاصة وهو المتشبع في الانتكاسات الكبرى في المجال المحظور، إنما بخطوط الرقابة الحمراء المفروضة عليه من خارج الذات.. أما الرعب الذي تحدث عنه الكاتب فهو الرعب المجتمعي من ثقافة التعاليم الصارمة وصرامة الرقباء والعرفاء أصحاب الشأن الكوني.. والكل يذكر كيف تحدث الشاعر فاضل العزاوي في كتبه (الروح الحية) عن حياة الشاعر حسين مردان الذي رغم كل فضائحه وخلاعته الشعرية فهو لم يقل إلا القليل من حياته الشخصية السرية..
وقد كانت هناك بوادر مهمة لنجيب المانع في كتابه المهم (عمر أكلته الحروف) بصدق مبدأ البوح وشفافية الروح وعمقها أثناء الكتابة، كذلك علينا أن ندرك انه هناك ثقافة دينية مقرونة في الديانة المسيحية متمثلة في الاعترافات الكنيسية وتأشير الخطيئة كطقس كنائسي ديني قد اثر في الثقافة الغربية وآدابها.. فيما اشتغل المثقف العربي وخصوصا العراقي على تدبيج كتب السيرة الذاتية في أروقة السياسة ودهاليز السلطة ومطابخها السرية، وقد تراجعت الاعترافات الذاتية في ردهة البوح السري بفعل الكتابة (من) الذات وليس (عن) الذات المقهورة والمكبلة مسبقا للأسباب المذكورة أعلاه..