آرثر ميلر.. مسرح الانسان المعاصر

آرثر ميلر.. مسرح الانسان المعاصر

علي مزاحم عباس
ناقد مسرحي راحل
يعد المسرح في أي عصر من العصور هو مرآة ذلك العصر... فالباحث بامكانه أن يستعيض عن كتب التاريخ.. بما خلفه المسرح من نصوص.. ويستعين بها.. ويستشف منها سمات ذلك العصر..

مميزاته وعيوبه.. مساوئه وقضاياه ومشاكله.. كل ذلك لا بد وأن يترك آثراً لدى الكاتب المسرحى ويظهر ذلك كله فى بصمات الكاتب فى النص المسرحي.. فلا يمكن أن يعيش الكاتب بمعزل عن مجتمعه.. بل لابد وأن ينغمس فيهم وفي مشاكلهم.

وإذا عدنا لكلمة قضية... فنحن نجد أنفسنا أمام معنيين.. الأول وهو المعنى العام الدارج المتداول بيننا.. أما المعنى المقصود هنا... فهو أنها قضية مسرحية وليست قضية أي علم من العلوم.. وعلى ذلك فليست كل قضية تصلح للمسرح لأن للعمل المسرحي شروطه الخاصة التي يجب أن نوفرها لكي يكون إسمه (عمل مسرحي).

فهناك قضية رياضية أو سياسية أو إجتماعية ولكنها غير صالحة للدراما... نظراً لسذاجتها ووضوحها أو لعدم وجود مجال للصراع الظاهر أو الباطن.. وليس بالإمكان ترجمتها لحوار وشخصيات وأحداث ومواقف... لذلك فمعنى كلمة قضية يكتسب مفهوماً خاصاً به.. فالقضية المسرحية هي الصالحة للعرض المسرحي..

هذا بشأن كلمة قضية فما هو المقصود بكلمة اجتماعية؟

إن المقصود هنا بكلمة إجتماعية على وجه التحديد هو المجتمع المسرحى.. ولا نقصد من هذا التعبير جماعة العاملين في المسرح.. وإنما نقصد الاشخاص الذين نراهم على المسرح.. بعلاقاتهم الشخصية والاجتماعية.. وانتماءهم.. ويحركنا صراعهم فيحولنا إلى منتمين لما يحدث.. وهذه الشخصيات التي تعبر عن إنماطاً لها ما يماثلها في الحياة... وليس المقصود بالتماثل.. التطابق... وإنما أن يكون هناك تشابهاً معقولاً أو محتملاً.. أو حتى غير معقول.. فإنه يكون كذلك من خلال الإدراك الحاد للمعقولية فيما وراء هذه الشخصيات أو الأنماط.

وهكذا إذا دمجنا الكلمتين معاً.. فإننا نحصل على مصطلح وجد ترحيباً عند الكثير من كتاب المسرح في كل بلاد العالم.. ألا وهو مصطلح " القضية الإجتماعية ".. فيقول "تيرانس واينجان":

" إن أفضل المسرحيات هي ما كانت عن الناس لا عن الأشياء ".

فالقضية الاجتماعية هي قضية معارضة لا تصف العيوب بل تكشفها وتعريها وتوضحها.. وهذا المصطلح قريب من الناس فهو يلتصق بهمومهم وأحزانهم وأفراحهم... يلتصق بتقاليدهم وتراثهم وهو الأقدر على التعبير عنهم والافصاح عن دواخلهم والكشف عن قضاياهم الكبيرة والصغيرة.

والمسرحية الاجتماعية لا تهتم بتكريس أسماء الكتاب أو ما كتبوا من مسرحيات بل تهتم بالقضايا والأفكار والشكل. فمسرحيات كل كتاب المسرحية الاجتماعية تتكرر بأسماء جديدة وكتاب جدد... ينسحبون على نفس المنوال.. يكتبون بلغة عصرهم وبيئتهم..


"آرثر ميللر" والمجتمع الأمريكي:

إنه من غير المعقول أو من الصعب أن نتحدث عن القضية الإجتماعية في المسرح الأمريكى دون أن نقف عن ذلك الاسم.. فآرثر ميللر يمكن أن ننسب إليه المسرحية الإجتماعية الأمريكية... فهو على خلاف معظم المؤلفين المسرحيين الأمريكيين إذ أنه كتب أحاديث ومقالات ومقدمات لبعض مسرحياته.. وقد تعد جميعها ضعيفة المستوى إذا ما قورنت بكتابات بريخت في نظريات المسرح الملحمى.. فقد قدم "ميللر" لمسرحية " مشهد من الجسر " برأى تحت عنوان " عن المسرحيات الإجتماعية " كان مضمون هذه المقدمة.. أنه يجب على الكاتب المسرحي الجاد أن يكتب دراما اجتماعية.. وهو يقصد بالمسرحية الاجتماعية الجادة – المسرحية التي تعترف بأن للإنسان وجوداً موضوعياً هادفاً ووجوداً غير موضوعى (ذاتى مستمد من التجربة الذاتية) في آن واحد.. وليس المسرحية الاجتماعية في نظره مجرد سرد للمساوئ والعيوب الإجتماعية.

وإذا طبقنا هذا التعريف على مسرحيات ميللر لوجدنا أنه ينطبق على مسرحياته:

كلهم أبنائى 1947- موت بائع متجول 1949- الاختبار القاسى 1953 – مشهد من الجسر 1964 وهذه المسرحيات وغيرها حققت نجاحاً عظيماً وفائقاً.. وفى رأى النقاد يرجع هذا النجاح إلى تمكن آرثر ميللر من جعل الواقع الاجتماعى واقعاً شخصياً وتحويل المواقع الشخصية إلى علاقات اجتماعية.. ويرجع إليه الفضل في إحياء المسرحية الإجتماعية الأمريكية في عهد المكارثيه البغيض أيام كان السناتور ماكارثى يتصيد كل من يستمد فيه خروجاً على المبادئ اليمنية فيتهمه بالشيوعية ويستدعيه أمام لجنة " تحقيق النشاط المعاد لأمريكا " ولكن ميللر تصدى لذلك كله ولم يجبن أو يتخاذل...

وقد منعت حكومة أمريكا في 1949 الفرق الامريكية من تمثيل مسرحية "كلهم ابنائى" خارج أمريكا... ومع ذلك صمد ميللر.. بل تحداهم... وكان أكثر ذكاءً... عند تقديمه مسرحية " البوتقة " سنة 1953.

أرثر ميللر في سطور:

من هو آرثر ميللر؟

■ مؤلف مسرحي أمريكى ولد في نيويورك سنة 1915 وقد كان عاملاً في مستودع لقطع غيار السيارات.. انتسب لجامعة ميتشيجان سنة 1934 حيث نال " جائزة هوبود " عن مسرحيتين كتبهما قبل التخرج.

وقد قدم بعد ذلك العديد من الأعمال المختلفة إلا أنه كرس معظم وقته لكتابة المسرحيات الإذاعية.. فكتب مسرحية الرجل ذو الحظ في سنة 1944، إلا أنها لم تستقبل استقبالا حاراً.. أما مسرحيته المشهورة كلهم أبنائى فقد حققت نجاحاً كبيراً حين عرضت سنة 1947 واستمرت تعرض عاماً كاملاً.. ونالت جائزة حلقة الناقدين الدراميين... ويتضح في هذه المسرحية مدى تأثر ميللر بأعمال أبسن وخاصة في مسرحية " أعمدة المجتمع ".

وكتب ميللر بعد ذلك " موت بائع متجول" أو " موت قومسيونجى" التي عرضت في سنة 1949 وبعدها بعام أعاد صياغة مسرحية عدو الشعب " لابسن " إلا أنها لم تلق رواجاً، ثم توالت بعد ذلك مسرحياته " البوتقة " أو الاختبار القاسي " ذكرى يومين من أيام الأثنين " مشهد من الجسر ".

وفى عام 1956 اتهم ميللر بالشيوعية فاعترف بأنه كان متعاطفاً ومتحالفاً مع بعض القضايا التي يطرحها الشيوعيون والجبهات الشعبية.. إلا أنه نفى عضويته للحزب.

وبعد زواجه الثالث عاد لكتابة المسرحيات مرة أخرى فكتب " بعد السقوط " و " حادثة في فيتشى " سنة 1964... وفى عام 1968 ظهرت مسرحيته الثمن ".

■ ويعتبر النقاد ميللر هو الامتداد الحق لمسرح أبسن.. وهو المسرح الذى يدافع بكل امكاناته الفنية والفكرية عن المفاهيم الاخلاقية الرفيعة والتى لا يعترف بها المكابرون أو المخادعون.. ففى مسرحية " كلهم أبنائى " يدور الصراع الدرامى بين المصلحة الخاصة والمسئولية الاجتماعية..

■ وهناك من خالف ميللر في هذا الإتجاه.. فنجد أن ميللر من الكتاب المسرحيين الملتزمين بمفهوم اجتماعى محدد.. بينما تيسنى ويليامز يعتقد أن الجمال يجب أن يكون هدف أى فنان ففنه به مسحة من بوهيمية مذهب الفن للفن.. أما الرسالة الإجتماعية في نظره فيجب أن نتركها للمصلحين والمفكرين.. لأنهم أكثر تمكناً في هذا المجال..


مسرح آرثر ميللر

وعلاقته بالمجتمع

من المفارقات الغريبة أن يلمع أسم الكاتب الأمريكى آرثر ميللر في السنة الأخيرة من زواجه من الممثلة الجميلة مارلين مونرو.. حتى وصلت شهرته إلى رجل الشارع الذى لا يعرف قليلاً أو كثيراً عن الأدب..

وليس معنى هذا أن ميللر كان نكرة قبل هذا الزواج.. بل كان علماً من أعلام الأدب الأمريكى المعاصر.. بل أكثر من ذلك فقد كان في المقدمة من كتاب المسرح.

فماذا كان يمثل هذا الكاتب وما هي مكانته بالنسبة لغيره من الكتاب.. وما علاقة مسرحه بمجتمعه؟

(المسرحية الإجتماعية قبل ميللر وبعده....)

- يمثل آرثر ميللر معظم كتاب المسرح الأمريكى من ناحية الوعى الحاد بروح العصر المشبعة بالقلق والفشل والإحباط.. وقد حرص على الاحتفاظ بتأثيره في المسرح لمدة طويلة عن طريق اعادة التفكير في الزاوية التي ينظر منها إلى المجتمع حتى لا تصاب مسرحياته بالرتابة والتكرار.. واضعاً في اعتباره أن المسرح الأمريكي عاش حياته التي لا تزيد عن ثلاثة أرباع القرن على المحاولة والخطأ.. ولم يصل بعد إلى إرساء التقاليد المسرحية الخاصة به كما فعل المسرح الأوروبى من قبله بقرون عدة.. وقد عد ميللر أن من مهمته المساهمة في إرساء هذه التقاليد.. لذلك اختار الإنسان الأمريكى العادى في مواجهة تقلبات المجتمع وضغوطه التي لا ترحم.. وحتى يبلور هذا الصراع درامياً تجنب بقدر الإمكان القيام بدور المحقق في مسرحياته.. ملتزماً بحتميات الإبداع الفنى..

وكان دخول ميللر ميدان التأليف المسرحي في منتصف الأربعينات نصراً للمسرحية الاجتماعية. حيث أنها في تلك الفترة كانت لا تمت للفن الرفيع بصلة. فقد عالجت المسرحية الاجتماعية- قبل ميللر – الصراع الاجتماعى كمجرد ظاهرة وقتية لم تحاول الوصول إلى جوهر الصراع الدرامى الذى لا يبلى بمرو الزمن... بل إن كتاب المسرح الاجتماعى قبل ميللر حولوا مسرحياتهم إلى نوع من الدعاية الساذجة والتغنى بفضائل المجتمع الأمريكى في مرحلة الثلاثينات.

لكننا لا نستطيع الجزم بأن ميللر وحده هو الذى أحدث تحولاً في المسرحية الاجتماعية. فالمسرحية الاجتماعية كانت سطحية ولكن حدث تراجع عنها.. وقد كان ذلك نتيجة للاتجاه الذى لا يعرف من الحياة سوى رفع الشعارات وصب القوالب. فكان من الطبيعى أن تحيل كل من النزعة الطبيعية والاتجاه اليسارى المسرحية الاجتماعية إلى أثر بال مندثر مع بدايات الاربعينات.

وبالتالى كان على النقاد أن ينفعلوا بالقضايا العامة للمجتمع. فيقول رايموند ويليامز:

" إن أرثر ميللر بمسرحياته الخمس وبمقدماته في الفترة ما بين عامى 1947 و 1960 أن يخترق السد الذى صنعته أكوام المسرحيات الاجتماعية التقليدية برغم أن الممر إلى الجانب الآخر ما زال شائكاً وغير مأمون".

فمسرحيات ميللر تبحث عن الحق الموضوعى وتهتم بآلام الإنسان وما يعانيه من حرمان وظلم بعد أن اشتد الوعى في العصر الحديث بالوجود المادى للإنسان، وازداد الضغط لمعالجة الآفات والمظالم الاجتماعية واستئصال أسباب الآلام والمعاناة ورفع كل ما يعوق سعادة الإنسان...

ويغوص ميللر بالقضايا الاجتماعية التي يطرحها في مسرحياته – في أعماق المجتمع في محاولة منه لدراسة جوانب هذا المجتمع بعرض مساؤئه وبما يتفق مع قيمة التي يعتنقها ازاء هذا المجتمع، لكنه لا يسعى لاقناعنا برأى أو موقف.. ولكنه يضرب لنا المثل والقدوة من خلال تقديمه للموضوع وتحليله لجوانبه.

ميللر وتحويل القضايا الشخصية إلى قضايا اجتماعية

إن أكبر إنجاز يمكن أن ننسبه إلى ميللر هو قدرته الفنية على تحويل الحقائق الإجتماعية إلى قضايا شخصية تم تحويل القضايا الشخصية إلى علاقات متشابكة تحدد نظرة الإنسان إلى المجتمع بصفته كياناً يحتم عليه أن يتميز بالاخلاق والمثل... فكل جوانب الحياة الشخصية تتأثر جذرياً بخصائص الحياة العامة برغم أن الناس لا يرون الحياة العامة إلا من زوايا شخصية تماماً... أى أن العلاقة بين الإنسان والحياة علاقة عضوية قائمة على التأثير والتأثر.

وقد استفاد ميللر من هذه الحقيقة وأحال الحقائق الاجتماعية المجردة مثل النجاح والفضيلة والرذيلة والفشل واليأس والإحباط والجبن والتردد... الخ – إلى نوع من النسيج الدرامى الحى.. ثم جسد شخصياته باعتبارها افراداً هم في ذاتهم أهداف وقيم لا مجرد ظواهر ووسائل اجتماعية مؤقته.

ولم يقتصر ميللر على مذهب مسرحي معين مثل الطبيعية، بل ترك لنفسه حرية الاختيار التي تحتمها حتمية الشكل الفني.. لذلك يلجأ ميللر في مسرحية موت قومسيونجي" إلى الإتجاه التعبيرى في تجسيده لتيار الوعى واللاوعى داخل بطله "ويللى لومان".. كما أنه يقرر في مقدماته لمسرحياته الكاملة التي نشرت سنة 1957 أن اهتمامه الرئيسي في تلك المسرحية كان منصباً أساساً على دائرة الوعى عند بطله فقد كان أول انطباع لميللر عن المسرحية أنها عبارة عن وجه هائل يظهر على خشبة المسرح.. ثم لا يلبث هذا الوجه أن يتفتح لكى يدخل الجمهور داخل رأس البطل ويعيش بين التيارات والصراعات التي تنهب كيانه وتمزقه.. لذلك فقد كانت مسرحيته " موت قومسيونجي" تحمل اسم " في داخل رأسه" حتى تحولت بعد ذلك لهذا الاسم.


مجلة الاقلام 1996